المؤرخ عبد الجليل التميمي يدعو إلى وضع رؤية جديدة للتعليم    "ضعي روحك على يدك وامشي" فيلم وثائقي للمخرجة زبيدة فارسي يفتتح الدورة العاشرة للمهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان بتونس    الديوانة تُحبط محاولتين لتهريب العملة بأكثر من 5 ملايين دينار    كريستيانو رونالدو: أنا سعودي...    عاجل/ الرصد الجوي يصدر نشرة استثنائية..    اخبار كرة اليد .. قرعة ال«كان» يوم 14 نوفمبر    الكتاب تحت وطأة العشوائية والإقصاء    أزمة جديدة تهزّ المشهد الثقافي ... اتحاد الناشرين التونسيين يقاطع معرض الكتاب    سماح مفتاح: "المتشمت في المريض أو المسجون أو المتوفي مسكين لأن روحه غير سليمة"    عاجل/ قيمة ميزانية وزارة الخارجية لسنة 2026    المنتخب التونسي: سيبستيان توناكتي يتخلف عن التربص لاسباب صحية    اشتكتها هيئة السجون ... محاكمة سنية الدهماني .. تتواصل    الحمامات وجهة السياحة البديلة ... موسم استثنائي ونموّ في المؤشرات ب5 %    بنزرت الجنوبية ... 5 جثث آدمية لفظتها الأمواج في عدد من الشواطئ    3 آلاف قضية    مع الشروق : زوال الاحتلال واحترام السيادة... شرطان لتسليم السلاح !    وزير الدفاع الوطني: الوضع الأمني مستقر نسبياً مع تحسن ملموس في ظل واقع جيوسياسي معقد    الدعارة في "إسرائيل" تتفشى على الإنترنت    عاجل/ سياسي جديد يدخل في إضراب جوع    عاجل/ فنزويلا تقرّر الرد على "الإمبريالية" الامريكية    صفعة عمرو دياب لشاب مصري تعود للواجهة من جديد    عاجل/ غلق هذه الطريق بالعاصمة لمدّة 6 أشهر    عاجل/ تونس تُبرم إتفاقا جديدا مع البنك الدولي (تفاصيل)    فريق من المعهد الوطني للتراث يستكشف مسار "الكابل البحري للاتصالات ميدوزا"    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الأديب والمفكر الشاذلي الساكر    الفواكة الجافة : النيّة ولا المحمّصة ؟ شوف شنوّة اللي ينفع صحتك أكثر    11 نوفمبر: العالم يحتفل ب''يوم السناجل''    عاجل: تونس وموريتانيا – 14 ألف تذكرة حاضرة ....كل ما تحب تعرفوا على الماتش!    كونكت: تنظيم جديد لمحمّصي القهوة في تونس    تونس تتمكن من استقطاب استثمارات أجنبية بأكثر من 2588 مليون دينار إلى أواخر سبتمبر 2025    عاجل-شارل نيكول: إجراء أول عملية جراحية روبوتية في تونس على مستوى الجهاز الهضمي    الأخطر منذ بدء الحرب/ شهادات مزلزلة ومروعة لاغتصاب وتعذيب جنسي لأسيرات وأسرى فلسطينيين على يد الاحتلال..    علماء يتوصلون لحل لغز قد يطيل عمر البشر لمئات السنين..    من وسط سبيطار فرحات حشاد: امرأة تتعرض لعملية احتيال غريبة..التفاصيل    عاجل: اقتراح برلماني جديد..السجناء بين 20 و30 سنة قد يؤدون الخدمة العسكرية..شنيا الحكاية؟    رسميا: إستبعاد لامين يامال من منتخب إسبانيا    عاجل: منخفض جوي ''ناضج'' في هذه البلاد العربية    حجم التهرب الضريبي بلغ 1800 م د في صناعة وتجارة الخمور بتونس و1700 م د في التجارة الالكترونية    تصريحات صادمة لمؤثرة عربية حول زواجها بداعية مصري    عاجل : تحرك أمني بعد تلاوة آيات قرآنية عن فرعون بالمتحف الكبير بمصر    QNB تونس يفتتح أول فرع أوائل QNB في صفاقس    عشرات الضحايا في تفجير يضرب قرب مجمع المحاكم في إسلام آباد    سليانة: نشر مابين 2000 و3000 دعسوقة مكسيكية لمكافحة الحشرة القرمزية    عاجل: معهد صالح عزيز يعيد تشغيل جهاز الليزر بعد خمس سنوات    غدوة الأربعاء: شوف مباريات الجولة 13 من بطولة النخبة في كورة اليد!    عاجل/ وزارة الصناعة والمناجم والطاقة تنتدب..    مؤلم: وفاة توأم يبلغان 34 سنة في حادث مرور    النادي الإفريقي: محسن الطرابلسي وفوزي البنزرتي يواصلان المشوار    بعد أكثر من 12 عاما من إغلاقها.. السفارة السورية تعود إلى العمل بواشنطن    المنتخب التونسي لكرة السلة يتحول الى تركيا لاجراء تربص باسبوعين منقوصا من زياد الشنوفي وواصف المثناني بداعي الاصابة    عاجل: حبس الفنان المصري سعد الصغير وآخرين..وهذه التفاصيل    عاجل/ وزير الداخلية يفجرها ويكشف عن عملية أمنية هامة..    النقابة التونسية لأطباء القطاع الخاص تنظم يومي 13 و14 ديسمبر القادم فعاليات الدورة 19 لأيام الطب الخاص بالمهدية    الدكتور صالح باجية (نفطة) .. باحث ومفكر حمل مشعل الفكر والمعرفة    صدور العدد الجديد لنشرية "فتاوي تونسية" عن ديوان الإفتاء    شنيا الحاجات الي لازمك تعملهم بعد ال 40    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروعية الثورة الشعبية على الظلم وحرمة الاعتداء على المشاركين فيها
نشر في الفجر نيوز يوم 07 - 02 - 2011

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واهتدى بهداه، وبعد؛
فقد تحدث إليَّ عدد من الإخوان والمثقفين وبعض الصحفيين يسألونني الرأي فيما ينسب إلى بعض الشيوخ من الإفتاء بحرمة الحركة المباركة التي قام بها شباب مصر الطاهر من التظاهر أو الدعوة لإقالة رئيس الجمهورية، واعتبار الحديث عن فساد النظام المصري، ودعوة جماهير الأمة إلى رفض ظلمه واستبداده بكل الوسائل السلمية المشروعة بمثابة دعوة صريحة لمواجهة ولاة الأمر، والقول بأن فيها شقا لعصا الناس في مصر الذين يعيشون تحت ولاية حاكم مسلم متغلب وصاحب شوكة تمكنه من إدارة البلاد، وأيًّا كان حاله في نظر البعض فهو الحاكم الذي يجب السمع والطاعة له في المعروف، وبالتالي لا يجوز لأحد التظاهر ضده أو المطالبة بعزله، واعتبار ذلك من الخروج على الإمام، وهو أمر غير جائز شرعا، بل قال بعضهم: إن فاعل ذلك يستحق المعاقبة.
ويستدل أولئك الشيوخ بحديث نبوي أخرجه الإمام مسلم في كتاب: الإمارة، باب: حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع 3/1479 رقم (1852)، وفيه: عَنْ عَرْفَجَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ».
وفي رواية: «إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَهْىَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ».
وقد رأيت من الواجب عليّ وعلى أهل العلم ألا يسكتوا على مثل هذا الخطل والخطأ، وأن يبيِّنوا الحق للناس ولا يكتموه، عملا بما أوجب الله على أهل العلم ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران/187] وحتى لا يسيءُ مثل هذا الفهم المغلوط إلى علماء الإسلام.
فهذا التوصيف والاستنباط في غاية الخطأ، إذ معنى الحديث المشار إليه بوضوح: إذا اجتمعت الأمةُ على كلمةٍ واحدة في الحق، ورضي الناسُ إمامَهم، وجاء أحد من الناس ينازعه وينازعهم، ويحمل سلاحه في الخروج على إجماع الأمة فإنه يقتل، درءاً لشره ووأْداً للفتنة التي يريد أن يبعثها.
وهذا المعنى قد جاء في أحاديث كثيرة، تدعو إلى الصبر على الإمام الجائر، وعدم الخروج بالسيف عليه، ولكنها تتيح للأمة أن تسعى في تغيير هذا الجائر بالوسائل المشروعة إذا لم يستجب للنصيحة، ولم يعدل عن المنكر الذي يأتيه، باعتبار الأمة هي مصدر الشرعية لحكمه ، وهي صاحبة الحق الأصيل في بقائه أو رحيله.
ومن هذه الوسائل المشروعة ما يجري من انتخابات واستفتاءات، وما يتم من مظاهرات وعصيان مدني سلمي ونحوها، ما دام ذلك كله يتم بعيدا عن العنف وحمل السلاح، فإن لم يستجب الظالم للنصح والإرشاد جاز للأمة أن تقوم بعملية الخلع والاستبعاد له من خلال الوسائل المشروعة التي ذكرناها من غير استخدام للعنف ولا حمل للسلاح، وهذا ما فعلته حركة الشباب المباركة المنصورة بإذن الله.
فإذا حملت طائفة من الناس السلاح وخرجوا على الناس وأرادوا الإفساد في الأرض جاز قتالهم وهم الذين يُسَمَّوْن (البغاة).
فهل يدخل في البغاة المعارضون السياسيون أو ما يعرف في هذه الأيام بأحزاب المعارضة وحركات الاحتجاج؟
يدرك من له أدنى إلمام بالشريعة ومقاصدها أنه لا يدخل في البغاة مَنْ يُسَمَّوْن بالمعارضين من الأفراد أو الأحزاب والجماعات السياسية المعارضة لنظم الحكم، ولا من ينصح أو يوجه أو يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، سواء وافق الإمام على قيامه بذلك أو لم يوافق، فذلك من النصيحة الشرعية المأمور بها، وهي سبب من أسباب خيرية هذه الأمة، وليس لأحد كائناً من كان أن يمنع أحداً من التعبير عن رأيه، طالما لم يخرج بسيفه، وخصوصا إذا لم تكن كلمةُ الأمة مجتمعةً على هذا الحاكم.
بل لو أمر الإمامُ بمعصية فلا سمعَ له فيما أمر ولا طاعة، فلاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، ففي الصحيحين من حديث عَبْدِ اللَّهِ بن عمر عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ، فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ»، وفي الصحيحين أيضا من حديث علي بن أبي طالب عن النبي قال: «لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»
فلا يجوز طاعتُهم إذا أمروا بتزوير الانتخابات، أو بضرب الناس أو تعذيبهم بغير سند من الشريعة والقانون، ولا يجوز تنفيذ أوامرهم بضرب المتظاهرين بالرصاص الحي أو المطاطي أو القنابل المسيلة للدموع، ونحو ذلك من المظالم التي قد يأمر بها الظلمة فينفذها الجنود بحجة السمع والطاعة لولي الأمر، دون التفات إلى قول الله تعالى وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ [هود/113].
بل أوجب الإسلام نصيحة الحاكم والمحكوم، واعتبر ذلك صلب الدين، ففي صحيح مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».
ولم يزل ذلك دأْبَ كثير من الصحابة والتابعين وأهل العلم على مرور الأيام وتعاقب الدول، إذ مارس كثير منهم هذا الواجب، فنصحوا الولاة والأمراء، وجهروا أمامهم بالحق، وعارضوهم في كثير مما أبرموا.
ولذلك فلا بأس من معارضة أولي الأمر بل يجب ذلك إذا أخطؤوا، ويجب تنبيههم ونصحهم والإنكار عليهم فيما خالفوا فيه أمر الله وأمر رسوله ، أو ضيعوا فيه مصلحة الأمة، أو قصروا في حماية الأوطان، أو بددوا ثروات الأمة، أو أساؤوا للناس، أو غير ذلك من المنكرات التي قد تدفعهم إليها الحمية لآرائهم والتعصب لوجهات نظرهم مع ثبوت خطئها وفسادها، والقيام بهذا الواجب هو لون من ألوان التعاون على البر والتقوى.
نعم ينبغي أن يتم ذلك من غير إهانة لهم أو تطاول عليهم أو خروج بالسيف عليهم أو احتشاد لقتالهم، فإن الإمام الغشوم خير من الفتنة التي تدوم، واحتمال العدل مع استقرار أمور الأمة ممكن، بخلاف الحال إذا تقاتلت الأمة وخرج بعضها على بعض بالسيف، فالفتنة عمياء دهماء لا يفرق الناس فيها بين الحق وبين الباطل، والله أعلم.
ونعم الأفضل أن يكون ذلك سرًّا إذا كان الوصول إلى الحاكم الجائر ممكنا، وكان نصحه متيسرا، وكان قبوله للنصيحة مرجوّاً، لما رواه أحمد عن ‏هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ،‏ عن رَسُولِ اللَّهِ قال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَح لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ». وذلك ما فعله أسامة بن زيد مع عثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعا.
لكن لم يمنع الإسلام من إعلان هذه النصيحة متى كان الخطأ شائعا والضرر واقعا على العامة، بل أوجب الإسلام إعلان النصيحة والإنكار على الظالم إذا تجاوز حدود الشرع في تأديب المخطئين، ففي صحيح مسلم: عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الزَّيْتُ(يعني يعذبون بذلك) فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ (يعني تأخروا في دفعه أو ماطلوا في ذلك). فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا». على أن هشاما لم يكتف بهذا الإنكار العلني، بل ذهب إلى الأمير الذي فعل ذلك فنصحه فانتصح، ففي رواية عند مسلم أيضا: وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَحَدَّثَهُ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا.
وهذا كله كان يحصل حين كان الأئمة مستمسكين بأهداب الدين، وكانت الشريعة مطبقة، والأوطان محروسة، والحدود مرعية، وحقوق الناس مصونة، والفساد في الرؤوس مقصور على القصور، فكيف وقد صار الفساد للركب، بل للأذقان على حد تعبير أحد أساطين النظام الحاكم؟.
إن ما يفعله الشباب وغيرهم من الوطنيين المخلصين من مختلف طبقات الشعب وقواه السياسية وفئاته وأطيافه المختلفة من التظاهر السلمي المطالب بإزالة النظام الفاسد ورحيل الحاكم الجائر الظالم بأسلوب سلمي حضاري راق أقرته المواثيق الدولية والدساتير المحلية لهو من صميم ما تدعو إليه شريعة الإسلام التي جاءت بالعدل والرحمة ورعاية مصالح الأمة، وأوجبت التعاون على البر والتقوى، وحددت خيرية الأمة في قيامها بواجب النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبرت الصدع بالحق في وجه السلطان الجائر من أعظم ألوان الجهاد.
فلو تعدى السلطان الجائر متذرعا بمثل هذه الفتوى الرديئة فقتل هذا الناصح الصادق المخلص فإنه يكون سيد الشهداء، فقد أخرج أحمد وغيره عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ رَجُلاً مَهَابَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا عَلِمَهُ، أَلاَ إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»
وفي رواية عند أحمد بأسانيد صحيحة: «أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلاَ يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ».
كما أخرج أحمد والنسائي بسند صحيح عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ : أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ (يعني وهم خارجون للجهاد في سبيل الله): أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ».
وأخرج الحاكم وصححه الألباني عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ، فَقَتَلَهُ».
ولم يزل أهل العلم يعظِّمون العلماء الناصحين الذين اشتهروا بالجرأة في وعظ الحكام والسلاطين، بل وُصِف العز ابن عبد السلام بسلطان العلماء لمواقفه القوية الرائعة من أمراء المماليك الذين اضطروا للخضوع لما نادى به حين رأوا صدقه وجرأته ودعم جماهير الأمة له، وقد أخرج أحمد والبزار وصححه الحاكم والذهبي والهيثمي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِي تَهَابُ الْظَالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ؛ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ» ومعنى (فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ) أي استوى وجودهم وعدمهم.
وأخرج أبو داود عن أَبي بَكْرٍ رضي الله عنه أنه قَالَ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ وَإِنَّا سَمِعْنَا النَّبِيَّ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ». وفي رواية: وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لاَ يُغَيِّرُوا إِلاَّ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ». وفي رواية: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِى هُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ».
وأخرج أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهِ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ». ثُمَّ قَالَ ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿فَاسِقُونَ﴾ ثُمَّ قَالَ «كَلاَّ وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا».
بعد كل هذا وغيره مما لا يتسع مقال واحد لسرده: هل يجوز أن يقول السلبيون المتخاذلون لمن قام ينكر الظلم والتزوير والفساد والاستبداد بلسانه وقلمه، ويواجه الظالم بكلمة الحق، ويدعو الأمة إلى التعاون في القيام بهذا الواجب الشرعي: إنه خارج على الأمة، أو إنه يريد أن يشق صف الأمة؟ تالله إن هذا لهو الظلم المبين.
كيف وقد اعترف النظام على لسان رئيسه ومختلف أركانه بعدالة المطالب التي نادى بها المتظاهرون ومشروعيتها، وبحقهم الدستوري والقانوني في التعبير عنها بهذه الوسيلة الحضارية الراقية التي أعادت رسم صورة الشعب المصري الأصيل الحقيقية الناصعة المجاهدة أمام شعوب الدنيا، حتى رأينا الملايين من الشباب والفتيات في زحام شديد دون أن تحصل حالة تحرش أو تقع جريمة واحدة.
وقد كان أوْلَى بأولئك الشيوخ أن يقوموا بهذا الواجب، فينكروا على الحاكم الظالم ما يمارسه من تسليط الشرطة والبلطجية على الناس، وينكروا أمره بقتل البرآء العزَّل، ويذكِّروا أولئك الفاسدين بحرمة الدماء وتعظيمها، ويبيِّنوا لرجال الشرطة وغيرهم وجوبَ معصية الحاكم الظالم حين يأمرهم بقتل الناس بلا سند من شرع أو قانون، وكان أوْلى بهم أن يدْعوا عمومَ الأمة لرفع صوتها بكلمة الحق وعدم قبول الضيم أو الاستكانة للظلم
ولا يُقيم على ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ إلَّا الأذلَّان: عِيرُ الحيِّ والوتَدُ
هذا على الخَسْفِ مربوطٌ برُمَّتِه وذَا يُشَجُّ فما يَرْثِي له أحدُ
وحتى لو أن القائم بنصيحة الحاكم أخطأ في حقه وأساء إليه فلا يبيح الإسلامُ أن تبلغَ عقوبتُه حدَّ قتله أو الدعوةَ لقتله أو تسليط الشرطة والبلطجية عليه للنَّيْل منه، فالوحيد الذي يستوجب سبُّه القتل هو رسولُ الله ، وهذا الحكمُ من خصائصه، وليس لأحدٍ من الأمة كائناً مَنْ كان أن يجعلَ لنفسه أو أن يجعلَ الناسُ له مثلَ ما كان لرسولِ الله من الأحكام، بحيث يُعَدُّ سَبُّه مُوجِباً لقتلِ السابّ، حتى لو كان الصديقَ أبا بكر رضي الله عنه أفضلَ الناس بعد رسول الله فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الحاكم والذهبي عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأسلمي قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ ، فَتَغَيَّظَ عَلَى رَجُلٍ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: تَأْذَنُ لِي يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ: فَأَذْهَبَتْ كَلِمَتِي غَضَبَهُ، فَقَامَ فَدَخَلَ فَأَرْسَلَ إِلَيَّ، فَقَالَ: مَا الَّذِي قُلْتَ آنِفًا؟ قُلْتُ: ائْذَنْ لِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ: أَكُنْتَ فَاعِلاً لَوْ أَمَرْتُكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: لاَ وَاللَّهِ مَا كَانَتْ لِبَشَرٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ .
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَيْ لَمْ يَكُنْ لأَبِي بَكْرٍ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلاً إِلاَّ بِإِحْدَى الثَّلاَثِ الَّتِي قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ. وَكَانَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَقْتُلَ.
فهذا واضح من الصديق في اختصاص النبي بقتل مَنْ يسُبُّه أو يُسِيء إليه، وعدمُ جواز ذلك لأحدٍ من البشر بعد رسول الله أيّاً كانت رتبتُه ومكانتُه.
ولا يعني هذا إطلاقَ العَنان للناس ليسُبَّ بعضُهم بعضًا، أو ليتجرأَ العامَّة على أُولى الأمر، وتقتحمَ الجماهيرُ أعراضَ الحكام وأصحابَ السلطان، بل تتكفل الأحكامُ الشرعيةُ بردعِ كلِّ مَنْ يعتدي على أعراض الناس أو رميهم بالإثم والبهتان، ومن ثَمَّ شُرِع حدُّ القذفِ لصيانةِ الأعراض، وحمايةِ المجتمعِ من شيوع الفاحشة فيه، وإن كان دون القذف فيمكن تعزيزه بعقوبة مناسبة .
لكن غاية الأمر: أن السب أو الشتم - وإن كنا ننكره - لأي شخص – فضلا عن الاعتراض على أفعاله والمعارضة لسياساته- لا يصح أن يكون سبباً لقتله أو تسليط البلطجية عليه على الإطلاق، سواء كان المعتدَى عليه من أشراف الناس أوسُوقتهم، رئيساً كان أو ملكاً أو زعيما أو شخصاً عادياً، ولا يصح أن تتضمن الدساتير والقوانين الحاكمة نصوصاً تلحق الزعماء بالأنبياء، بَلْهَ أن تتضمن نصوصا تلحقهم أحيانا بالله عز وجل، وتجعل لذواتهم من التقديس ما لا يليق إلا بالله وحده، والله أعلم.
أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.