عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالمنصورة وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين تناولت في المقال السابق أهمية موقع الرئاسة ووجوب بذل النصيحة للحاكم حتى ولولم يقبلها، بل حتى ولو اعتدي على الناصحين. وهذا ما كان يحرص عليه الصحابة، فقد أخرج مسلم أن عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنه، دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: «وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ؟ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ، وَفِي غَيْرِهِمْ». فإذا قعدت الأمة عن هذا استحقت السقوط والهلاك حين ترضي بالظلم وتسكت على الظالم, ففي الحديث الصحيح عند أحمد: «إِذَا رَأَيْتُم أُمَّتِي تَهَابُ الْظَالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ»أي صار وجودهم كعدمهم، وعنده أيضا: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلاَ يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ». وصدق الله العظيم: ]وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً[. الإسلام يرفض الإمعية في الأمة: يرفض الإسلام أن يكون المسلم سلبيا لا يعين على المعروف ولا ينهى عن المنكر، أو جبانا يخشى من قول الحق على نفسه أو رزقه، أو صاحب هوى يجامل المبطلين على حساب الحق، ويؤكد أن هذا الخُلُقَ سِرُّ هلاكِ الأمم وسقوطِها، ويعدُّ الشخصَ غيرَ المبالي إِمَّعةً عديمَ الشخصية، فعند الترمذي وحسَّنه: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا». ويرفض الإسلامُ ما يفعله بعض السلبيين من تأويل الآياتِ ليبرر لنفسه التخلي عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعند أبي داود: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ وَإِنَّا سَمِعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ»، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي، ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا، ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا، إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ». كيف يتم تغيير الحكام الظلمة؟ نهى الإسلام عن الخروج بالسلاح لتغيير الحكام، ما داموا مسلمين وما أقاموا في الناس الصلاة، وما لم يأتوا بكفر بَوَاح ظاهر لا تأويل له، ففي حديث مسلم: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» وفي الصحيحين عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: دَعَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: «...وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ»، قَالَ: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ».ومعنى (بواحاً) أي جهارا وإعلاناً . لكن مع هذا الصبر فإن على الأمة أن ترفض جورهم، وأن تتبرأ من ظلمهم، وعلى أهل العلم أن يستمروا في نصيحتهم، وأن يتجنبوا ممالأتهم على باطلهم، أو السكوت عن تذكيرهم ونصحهم، فعند الإمام أحمد أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه: «أَعَاذَكَ اللهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ»، قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟، قَالَ: «أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي، لَا يَقْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَا يَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَسَيَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي». نعم؛ ينبغي أن يبدأ نصح الحكام سراً وبرفق؛ أملا في إصلاحهم متى كان ذلك ممكنا، كما فعل أسامة بن زيد مع عثمان بن عفان رضي الله عنهما، فقد قِيلَ لَهُ كما في صحيح مسلم: أَلَا تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ؟ فَقَالَ: «أَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ؟ وَاللهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ...». وهذا مع مثل عثمان من الأمراء الصالحين والحكام الصادقين. لكن لم يمنع الإسلام من إعلان هذه النصيحة متى كان الخطأ شائعا والضرر واقعا على العامة، وخصوصا إذا لم يتمكن الناصح من الانفراد بالحاكم ونصحه سرا، أو إذا تجاوز حدود الشرع علنا، ففي صحيح مسلم عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الزَّيْتُ (يعني يُعذَّبون بذلك) فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ (يعني تأخروا في دفعه أو ماطلوا في ذلك). فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا». ولم يكتف هشام بهذا الإنكار العلني، بل ذهب إلى الأمير الذي فعل ذلك فنصحه فانتصح، ففي رواية: وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَحَدَّثَهُ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا. وهذا كله كان يحصل حين كان الحكام مستمسكين بأهداب الدين، وكانت الشريعة مطبقة، والأوطان محروسة، والحدود مرعية، وحقوق الناس مصونة، والفساد في الرؤوس مقصور على القصور، فكيف الآن؟. إن من الواجبات الشرعية أن تسعى الأمة في تغيير الحاكم الجائر بالوسائل المشروعة كالانتخابات والتظاهرات السلمية ونحوها مما تقوم به الأحزاب والجماعات السياسية، سواء وافق الحاكم على ذلك أو لم يوافق، فذلك كله من النصيحة الشرعية المأمور بها، وهي سبب من أسباب خيرية هذه الأمة، وليس لأحد كائنا من كان أن يمنع أحداً من التعبير عن رأيه، طالما لم يخرج بسيفه، ولم يعلن رأياً منكراً مخالفاً لثوابت الدين، بل لو أمر الحاكم بمعصية فلا سمعَ له فيما أمر ولا طاعة، ففي الصحيحين: «لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ». فلا يجوز طاعتُهم إذا أمروا بتزوير الانتخابات، أو بضرب الناس أو تعذيبهم بغير سند من الشريعة والقانون، ولا يجوز تنفيذ أوامرهم بضرب المتظاهرين المسالمين بالرصاص الحي أو المطاطي أو القنابل المسيلة للدموع، ونحو ذلك من المظالم التي قد يأمر بها الظلمة، فينفذها الجنود بحجة السمع والطاعة لولي الأمر، فقد قال تعالى ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ والركون هو الميل إلى الظالم أو الرضا بفعله. إنها دعوة وتربية للأمة لتبقى في غاية اليقظة والمراقبة التامة فيما يتعلق بسلوك حكامها، ولتكون على وعي جد عظيم بما ينبغي على الفرد المسلم أن يفعله لضمان استقامتهم على الحق وسلوكهم سبيل الرشاد.