الشّيخ راشد الغنّوشي: مساعد الأمين العام في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين و زعيم حركة النّهضة بسم الله الرّحمن الرّحيم اليوم الأول من شهر مارس وصلت صحبة وفد من النهضة مطار آتاتورك باسطنبول مشيعا من مطار تونسقرطاج بفيض من محبة الناس بمن فيهم مسؤولو المطار.تاركا ورائي وضعا سياسيا واجتماعيا في حالة غليان: شباب الثورة يرابطون في الساحات العامة على امتداد البلاد وبخاصة في القصبة وشارع محمد البوعزيزي، يهتفون برحيل النظام ، رحيل الحكومة الثالثة التي لا يكادون يرون فيها غير أسمال ابن علي المخلوع.
ما كان لي أن أغادر وطني وهو على هذه الحالة الفائرة وهو الذي استقبلني منذ شهر في احتفاء مهيب بعد غياب استمر 23سنة ، فشلت فيها ماكينة الطاغية في تشويه صورتي وربطها بالارهاب كما فشل في طمس ذاكرة شعب وفيّ لرجاله، ينتصر لهم ولو بعد حين، ما كان لي أن أغادر هذا البلد الحبيب تاركا له وشانه لولا ما داهمنا من مصاب جلل تمثل في ما جاءت به الانباء قبل الامس من وفاة صديقي وأحد أساتذتي الكبار البروفسور الزعيم نجم الدين أربكان (مولود في 1925) مؤسس الحركة الاسلامية في تركيا منذ ظهورها في الحياة السياسية والثقافية في نهاية الستينيات وظل مذاك رمزا لما يطلق عليه "الاسلام السياسي" وظل يواجه بدرجة عالية من الجسارة والحكمة نظاما عسكريا علمانيا، فكان كلما حلوا له حزبا إلا وبادر بإنشاء آخر، متخذا المشاركة في السلطة نهجا له مع أحزاب اليمين مرة ومع أحزاب اليسار أخرى، حتى كان له أن يتبوأ أعلى منصب وهو رئاسة الوزراء في دولة آتاتورك ضمن تحالف لم يصمد طويلا في مواجهة العسكر، إلا أنه أرسى دعائم قوية لنهضة اقتصادية وسياسية وبالخصوص عبر طرحه لفكرة الدول الاسلامية الثمانية الكبرى. وبسبب تمكن المشروع الاسلامي واتساع قاعدته الشعبية فقد توفق عدد من تلاميذ الخوجة "أربكان" من بعث حزب وسطي " العدالة والتنمية" ذي صبغة محافظة تراهن على المزاوجة بين التنمية والديمقراطية بين الاسلام والحداثة وهو إحياء لمشروع التحديث الذي عرفته السلطنة العثمانية وتونس ومصر، ذاك المشروع الذي أجهضه الاحتلال الغربي ، وتابع إجهاضه خلفاؤه مثل بورقيبة وآتاتورك، وعمل تيار الاعتدال الاسلامي الحديث على إحيائه، وفي طليعتهم حركة الاخوان و اربكان وأمثالها مثل حركة النهضة.
اليوم يرقد نجم الدين اربكان في روضته مطمئنا الى نجاح مشروعه أيما نجاح في وضع بلده على نهج قويم جامع بين الاسلام والحداثة، الاسلام والتنمية والديمقراطية وحقوق الانسان، بما غدت تركيا تمثله من نموذج جاذب في عالم اسلامي متخلف يتلظى بالدكتاتوريات ، لقد توج حياته بحشد جنائزي استقطب ما بين مليون ونصف وملونين مشيعا ، كان من بينهم رئيس الدولة ورئيس الوزراء ووزير الخارجية وهم من تلاميذه وغيرهم من كافة المستويات، وهكذا يقدم المجتمع التركي شهادة عرفان بفضله عليها بما لم تعرف تركيا المعاصرة له مثيلا ، وكذا تفعل الشعوب مع زعمائها ولو بعد حين. وقديما قال ابن حنبل "بيننا وبين أعدائنا الجنائز"
لقد حظيت والوفد المرافق لي بمستوى عال من الحفاوة والتقدير رسميا وشعبيا فقد، استقبلنا مضيفونا على ابواب الطائرة بسيارة رسمية نقلتنا الى صالة ضيوف الدولة ، وظللنا منذ حللنا بهذا البلد متمتعين بكرم الضيافة والمرافقة الجيدة وتبادلنا التحية حول جثمان الفقيد في مسجد الفاتح حيث صلّت عليه مئات الآلاف وحول جثمانه في المقبرة مع عدد من المسؤولين مثل وزير الخارجية ورئيس الوزراء. كما كان الاحتفاء الشعبي مرموقا حتى قال لي أحد مرافقي مازحا لماذا لا تترشح في تركيا إذا رفضت الترشح في تونس". لقد تنافست وسائل الاعلام على استضافتي . كما قدمت دور النشر التركية المزيد من ترجمات كتبي مثل الكتاب الجديد الذي حمل عنوان "الاسلام والديمقراطية"
ويشاء الله أن يشهد هذا اليوم الحزين حدثا انتظرناه منذ ثلاثين سنة هو الاعتراف بالنهضة حزبا سياسيا من قبل الحكومة القائمة ، متمنين أن يضع ذلك حدا للصراع بين السلطة والحركة الاسلامية ضمن مشروع نعمل من أجله هو التصالح بين الدولة وهوية البلاد ، على نحو مما حصل في تركيا على يد الزعيم الكبير اربكان وتلاميذه ، وهي المدرسة الاقرب الينا والتي أسهمنا في تأثيث عمارتها بما ترجمته ماكينة الترجمة الى التركية العملاقة. إنه التزامن ذو الدلالة العميقة على رحمة الله السابغة التي تأبى أن تجمع على عباده المصائب فيأتي التزامن بين الولادة والموت بين الفرح والحزن، بين الاعلان عن الحزب المنحل والرئيس المخلوع والبرلمان المعلق وبين عودة النهضة منتصرة.
لقد لقي عشرات بل المئات من النهضويين ربهم نحتسبهم عند الله شهداء قبل أن يروا هذا اليوم النهضوي المتميز منذ عثمان ابن محمود وحتى شهداء الثورة.تغمدهم الله بواسع رحمته وأخلف أهلهم والمسلمين فيهم خيرا. إننا إذ نهنئ النهضويين وعوائلهم وأصدقاءهم داخل البلاد وخارجها الذين صمدوا وآزروا ، بهذا الانجاز المستحق ، نهيب بهم أن يثنوا على ربهم بما هو أهل له سبحانه وأن يترجموا هذا الانجاز أعمالا جادة في تعزيز صفهم وتعزيز إسهامهم في الثورة وحمايتها من مكائد أعداء الحرية والوطن حتى تترجم دماء الشهداء الزكية.