العقل البشري آلة عظيمة القدر، جليلة الأثر، أبدعت إبداعات عظيمة فكرا وفلسفة وصناعة وتقنية، وارتادت مجاهيل في جسم الطبيعة والإنسان، كان ارتيادها من قبل من صنف المستحيل. ويكاد لا يوجد مستحيل أمام العقل الإنساني إذا اشتغل بطريقة منظمة وتكاملية. وفي الأثر "لو تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله". ولا يناله إلا بالهمة والعقل. ولكن العقل الإنساني الذي أثبت قدرة عظيمة على الإبداع والاختراع يظل أسير الهوى والتربية ومألوف العيش في العقيدة والأخلاق ونظام المجتمع. وهكذا فنحن نرى علماء ذرة وفيزيائيين كبار من الهنود يمكن أن يجتمع في عقولهم آخر المعادلات العلمية مع تقديس بقرة. ونرى علماء كبار من ملل ومجتمعات كثيرة يؤمنون بأشياء لا يقبلها العقل. والحضارة الغربية المهيمنة بقدر تقدمها التقني والعلمي والفني نراها في بعض وجوهها تظل أسيرة أساطير وخرافات غير عقلانية ولا معقولة. وما السلسة الشهيرة "هاري بوتر" التي باعت في أوربا وأميركا ملايين النسخ، وتحولت إلى أفلام ومسلسلات شهيرة، سوى مجموعة خرافات وأساطير وشعوذات تذكر بالإنسان البدائي في خرافاته واعتقاداته الفاسدة. ويعكس نجاحها وانتشارها الرهيب، حتى إن الناس قد يبيتون في العراء أمام المتاجر للحصول على آخر ما يصدر منها.. يعكس خللا عميقا في هذه الحضارة، يعيش فيها إلى جوار إبداعات العقل التي ميزتها. ومن ثم فالعقل الإنساني يمكن له أن يبدع في مجالات محددة هو أهل لها وقادر عليها، لكنه يظل كسيحا عاجزا، ويصير سجين الخرافة واللامعقول في مجالات أخرى. والشرع والدين في الإسلام هو الذي يهب العقل الإطار السليم الذي يشتغل في إطاره. فنحن نرى الغرب قوة عسكرية هائلة، لكننا نراه قوة أخلاقية بائسة. فماذا يعني في ميزان الأخلاق والحس الإنساني السليم استخدام السلاح النووي لربح الحرب العالمية الثانية؟ وماذا يعني استخدام قوة هائلة مدمرة في أفغانستان أو العراق من أجل ربح المعركة؟ أليس هذا خروجا على العقلانية، التي تجعل من البشر هو الأساس والغاية في هذه الدنيا، إلى لاعقلانية تقوم على الربح والسيطرة، وتجعل الربح والتفوق هو الغاية، ونهب ثروات الآخرين هو الهدف؟ فهل من العقلانية أو من الأخلاق أن يتحول البشر إلى وحوش يأكل بعضهم بعضا؟ وهل من العقلانية أو من الحس الإنساني السليم أن تمضي الدول إلى مفاقمة كارثة التلوث التي توشك أن تسمم حياة البشر بأسرهم، لأن التقليل من التلوث له نتائج آنية على سيطرة أميركا وأوروبا على العالم، ومن ثم تصير الأولوية للتفوق الغربي على بقاء البشر على وجه الأرض.. فهل هذا من العقلانية؟ فيما يتعلق بالعلم والمعرفة، يجب أن يكون العقل الإنساني حرا طليقا مبدعا متجددا. وأما في ما يتعلق بالأخلاق والمجتمع وطبيعة العلاقات بين الناس، فإنه حين يتحرر من ضوابط الدين وموجهاته يصبح غولا مخيفا مرعبا.. ولهذا فالدين ضروري لضبط العقل وتسييجه بسياج الخُلق الفاضل والقيم الدينية الأصيلة حتى يسير المجتمع في أفضل الطرق، ويصل إلى أفضل النتائج. وما لا يدركه العلمانيون أن حرية العقل يمكن أن تكون في مجال ما مبدعة وخلاقة، ولكنها في مجال آخر يمكن أن تكون كارثية ومدمرة.