موعد حصة التجنيد    سوسة : إحالة ولي تلميذ على محكمة الناحية إثر تهجمّه على أعضاء مجلس التأديب بإعدادية سهلول    أولا وأخيرا...شباك خالية    أم تعنّف طفليها وتسبب لهما كسورا: وزارة المرأة تتدخل    المرسى: القبض على منحرف يروّج المخدرات بحوزته 22 قطعة من القنب الهندي    للنظر في إمكانية إعادة تأهيل عربات القطار: فريق فني مجري يحل بتونس    قبلي: تنظيم يوم حقلي في واحة فطناسة بسوق الاحد حول بروتوكول التوقي من عنكبوت الغبار    عاجل : إغلاق مطار دكار بعد إصابة 11 شخصاً في حادث طائرة    شكري حمدة: "سيتم رفع عقوبات الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات في أجل أقصاه 15 يوما"    الرابطة 1 (مرحلة التتويج) حسام بولعراس حكما للقاء الكلاسيكو بين الترجي والنجم    المدير الفني للجنة الوطنية البارلمبية التونسية ل"وات" : انطلقنا في الخطوات الاولى لبعث اختصاص" بارا دراجات" نحو كسب رهان التاهل لالعاب لوس انجليس 2028    هام/ وزارة التربية: "نحن بصدد بلورة تصوّر جديد لمعالجة هذا الملف"..    المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بصفاقس تواصل حملتها على الحشرة القرمزية    تونس تفوز بالمركز الأول في المسابقة الأوروبية لزيت الزيتون    اللغة العربية معرضة للانقراض….    تظاهرة ثقافية في جبنيانة تحت عنوان "تراثنا رؤية تتطور...تشريعات تواكب"    قابس : الملتقى الدولي موسى الجمني للتراث الجبلي يومي 11 و12 ماي بالمركب الشبابي بشنني    سلالة "كوفيد" جديدة "يصعب إيقافها" تثير المخاوف    سابقة.. محكمة مغربية تقضي بتعويض سيدة في قضية "مضاعفات لقاح كورونا"    181 ألف بناية آيلة للسقوط في تونس ..رئاسة الجمهورية توضح    الزمالك المصري يعترض على وجود حكام تونسيين في تقنية الفار    نابل: الكشف عن وفاق إجرامي يعدّ لاجتياز الحدود البحرية خلسة    أبطال أوروبا: دورتموند الأكثر تمثيلا في التشكيلة المثالية لنصف النهائي    زغوان: حجز 94 طنا من الأعلاف غير صالحة للاستهلاك منذ افريل المنقضي    كأس تونس: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ثمن النهائي    يمنى الدّلايلي أوّل قائدة طائرة حربية مقاتلة في تونس    التحقيق في جثّة لفظها البحر بقابس    دراسة صادمة.. تناول هذه الأطعمة قد يؤدي للوفاة المبكرة..    السلطات السعودية تفرض عقوبة على كل من يضبط في مكة دون تصريح حج.    عاجل/ الحوثيون يعلنون استهداف ثلاث سفن بصواريخ وطائرات مسيرة..    الزغواني: تسجيل 25 حالة تقتيل نساء في تونس خلال سنة 2023    مفزع: 376 حالة وفاة في 1571 حادث مرور منذ بداية السنة..    سليانة: تنظيم الملتقى الجهوي للسينما والصورة والفنون التشكيلية بمشاركة 200 تلميذ وتلميذة    حماية الثروة الفلاحية والغابية من الحرائق في قابس....و هذه الخطة    في وقفة احتجاجية أمام مقر الاتحاد الأوروبي.. "تونس لن تكون مصيدة للمهاجرين الأفارقة"    قضية مخدّرات: بطاقة ايداع بالسجن في حق عون بالصحة الأساسية ببنزرت    الثلاثي الأول من 2024: تونس تستقطب استثمارات خارجيّة بقيمة 517 مليون دينار    مقارنة بالسنة الفارطة: تطور عائدات زيت الزيتون ب91 %    الفيلم العالمي The New Kingdom في قاعات السينما التونسية    البطولة العربية لألعاب القوى للشباب: ميداليتان ذهبيتان لتونس في منافسات اليوم الأول.    كشف لغز جثة قنال وادي مجردة    على طريقة مسلسل "فلوجة": تلميذة ال15 سنة تستدرج مدير معهد بالفيسبوك ثم تتهمه بالتحرّش..    «قلق حامض» للشاعر جلال باباي .. كتابة الحنين والذكرى والضجيج    عاجل/ نشرة استثنائية: أمطار متفرقة بهذه المناطق..    بطولة روما للتنس للماسترز : انس جابر تواجه الامريكية صوفيا كينين في الدور الثاني    كتاب«تعبير الوجدان في أخبار أهل القيروان»/ج2 .. المكان والزّمن المتراخي    آخر أجل لقبول الأعمال يوم الأحد .. الملتقى الوطني للإبداع الأدبي بالقيروان مسابقات وجوائز    إذا علقت داخل المصعد مع انقطاع الكهرباء...كيف تتصرف؟    محمد بوحوش يكتب...تحديث اللّغة العربيّة؟    مدْحُ المُصطفى    ستنتهي الحرب !!    عشرات الشهداء والجرحى والمفقودين جراء قصف متواصل على قطاع غزة    سالفيني عن ماكرون بعد اقتراحه إرسال جنود إلى أوكرانيا: "يحتاج إلى علاج"    ماذا قال الفنان صلاح مصباح بعد إيقاف شقيقته سعدية ؟    بدء تشغيل أكبر محطة في العالم لامتصاص التلوث من الهواء    معهد باستور: تسجيل ما بين 4 آلاف و5 آلاف إصابة بمرض الليشمانيا سنوياّ في تونس    بعض مناضلي ودعاة الحرية مصالحهم المادية قبل المصلحة الوطنية …فتحي الجموسي    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المخيال بين المجتمعات المكبلة والديمقراطية
في المخيال والتاريخ:الحلقة الاولى: بقلم : سمير أبو زينب
نشر في الشعب يوم 10 - 03 - 2007

عرف القرن المنصرم دراسات عديدة حول المخيال وتأثيره على الفرد والمجموعة، في الحقيقة ان أول من تعرض للمخيال هو أرسطو وقد عبر عنه بفانتاسما وقد أخذه عنه الفلاسفة العرب كالفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم وعبروا عنه بكلمة فانتاسيا، اما الفلاسفة المعاصرين الذين اهتموا بهذه المسألة فنذكر منهم: كانت فيختة شيلنغ وغيرهم. ومع تطور علوم النفس والدراسات الانتروبولوجية توسعت الدراسات وظهرت بحوث جديدة كتلك التي قام بها «جان بول سارتر» و «جيلبار ديران». وقد أولى المفكر اليوناني: كاستورياديس أهمية خاصة لهذا الموضوع حيث خصص لها كتاب (التأسيس الخيالي للمجتمع).
I ما المخيال؟
يقول ابن رشد شارحا أرسطو: «محال ان يكون الخيال (المخيال) ظنا او حس او علم او عقلا وعموما أيا كانت من ملكات العقلانية... فهو ليس متركبا من الظن والحس كما يقول بعض القدماء... فجلي ان الخيال ليس ظنا مقترنا بحس ولا بملكة مركبة من الظن والحس... اذن الخيال ليس احدى تلك القوى ولا مركبا منها...» (1).
وفي مجال اخر يقول: «ان المعاني الخيالية هي محركة العقل لا متحركة... فالخيالات هي ضروب من المحسوسات عند غياب المحسوسات... (اذن) فالايجاب والسلب في غير الخيال... فالعقل يجرد التصور ويخلقه» (2) اي انه يجعل من الصور التي تتخيلها النفس (psychés) معقولة وهذا بخلاف ما يفعله العقل القابل او العقل المنفعل.
أرسطو في كتاب النفس قد تعرض للمخيال فهو يرى انه بالنسبة للنفس العاقلة والمفكرة فان الفانتاسمات هي مثل الاحاسيس... (عند غياب الاحاسيس) ولذلك يستحيل على النفس ان تفكر من غير فانتاسما. فبالنسبة لأرسطو وابن رشد: المخيال شيء مخالف للاقرار والنفي او الخطإ والصواب.
الانسان كائن بيولوجي نفسي اجتماعي تاريخي. هناك من يحاول اختزال هذه المستويات في جانب محدد كان نتصور ان التفاعلات الكيميائية او البيولوجية العصبية (Neurobiologiques) تحدد تصرف الافراد او ان الجينات تحدد الخاصيات الخ... فرويد يعتبر انه حتى واذ أمكن للانسان اكتشاف كل الاسس العصبية والبيولوجية للظواهر النفسية فان ذلك سيسمح لنا على أقصى تقدير وفي أقصى الحالات بمعاينة وتحديد المواقع (Localisations) الخاصة بهذه الظواهر ولكن ذلك لن يعطينا البتة فهما لمعنى (sens) هذه الظواهر.
فان تركب المستويات الاجتماعية والنفسية على المستويات البيولوجية والكيميائية فهذا لا يسمح لنا باختزالها وربط ذلك بمفهوم وظيفي.
المخيال الجذري (imaginaire radical) يتجاوز الجانب البيولوجي هو فيض ومنبع للتخيلات والارادة والمهج وهذا ما يميز الكائن البشري عن الحيوان. المخيال الجذري للفرد يستحيل القبض عليه واختزاله في الدلالات المخيالية الاجتماعية المهيمنة فهو يتمثل الاشياء ويصورها ولكنه لا يتوقف على ما فيها من دلالات معهودة ومألوفة فهو يعين من جديد ومنه ينبثق الآخر والمغاير. كل تفكير هو تمثل وصياغة ولا وجود لعقل دون مخيال او كما يقول الفارابي لا وجود دون فانتاسيا وهذه الاخيرة لا تعرف الحدود ولا تستقر على اي تحديد عقلاني.
«الفانتازما لا تريد الحياة الوهمية بل انها تخلق عالمها الحقيقي... فنحن نقول هذا تصرف انساني... ولا نقول ذلك عن الكلب مثلا والمسألة تتجاوز البلاغة او اللعب على الألفاظ. اننا نخلق انسانيتنا والعقل وحده (مختزل في عقلانية ومنطق صافيين) لا يجعل منا بشرا» (3).
فالعقل والمخيال سيان ولا يمكن الفصل بينهم وفرز ما هو راجع الى العقل الخالص وما هو مخيالي. (لقد أثبتت الدراسات العصبية البيولوجية المعاصرة: neurobiologiques ان «مراكز» المنطق مرتبطة مباشرة ب «مراكز» التخيل والارادة والاحساس) لذلك لا يستقيم الحديث مثلا عن العقل السياسي كنقيض للمخيال السياسي أو عن معقول عقلي كنقيض لللامعقول العقلي (محمد عابد الجابري) لأن ذلك يفترض وجود عقل خالص شفاف وعقلانية مجردة من كل مخيال.
لا يمكن فصل العقل عن المخيال فهما وجهان لنفس العملة لكن الانسان ينشيء الدلالات المخيالية والرموز ولكنه يتوهم ان هذه الدلالات متعالية او هي حصيلة قوانين موضوعية تاريخية. انه ينشيء الدلالات المخيالية ويحيلها الى قوى خارجة عن ارادته فيصبح أسيرا لها.
ان الانسان بمفرده غير قادر على الحياة والنفس (la psyché) لن تقدر ان تتحول الى فرد الا بقدر ما تخضع لسيرورة اجتماعية بدءا من الأم ومرورا بكل المؤسسات الاجتماعية، فالعالم الاجتماعي او المجتمع هو عالم دلالات ومعاني يضع ويؤسس «من عدم» عندما نقول ذلك فنحن لا نعنى ان هذا الخلق غير مشروط بالظروف الاقتصادية والاجتماعية او انه يقع بغض النظر عما هو موجود ومتوفر وعن الماضي بعيده وقريبه الا ان هذه الشروط لا تفعل في عملية الخلق هذه فعلا سببا. فنفس الشروط يمكن لها ان تؤدي الى امكانيات تاريخية متباينة. وكما انه لا يمكن اختزال الاجتماعي في النفسي والنفسي في البيولوجي فان المخيال الاجتماعي لا يمكن تلخيصه في مجموع الافرازات المخيالية الفردية. فعندما يتعلق الامر بمجتمع فان المسألة تتخذ بعدا اكثر تشابكا وتعقدا. فالدلالات المخيالية لا تنحصر في تمثلات (représentations) أو مفاهيم او اشكال. هي افراز تاريخي متواصل يبني المجتمعات والثقافات والدلالات لا تحيل لأي واقع او فكر عقلاني محض. اذن تتجسد عملية خلق وتأسيس المجتمعات في وضع دلالات (significations) مخيالية تفلت من كل تحديد عقلاني صرفو ترتبط بالكائنات والاشياء والمجتمع بعلاقات رمزية فتحدد الغايات وتعطي لكيانها معنى وتختص بميول عاطفية ومهج.
تأسيس المجتمع يهدف بالاساس الى الحفاظ على اجتماعية النفس وانتاج افراد يتطابقون مع هذا التأسيس ويندمجون فيه. ان الدلالات المخيالية الاجتماعية تعبر نفسية الانسان تطولها في عمق اعماقها، تكيف تصرفات الفرد سواء تعلق الامربمعتقداته او نشاطه الفكري والعلمي او في علاقته بالناس والمحيط والكون اوفي مواقفه من الحياة والموت. الا ان هذا التأسيس هو في حد ذاته تغيير بما ان وضع الدلالات المخيالية نفسه يفترض تجاوزا لأخرى. فالتأسيس الاجتماعي لا يمكن له ان يقبض على النفس ويدمجها كليا في المجتمع وبصفة تطابقية فلابد للمجتمع ان يسمح للفرد بإيجاد معنى للدلالات الاجتماعية المؤسسة، كما انه يترك للفرد حيزا خاصا ومجالا أدنى للنشاط المستقل والارادة.
«فالمجتمع لا يمكن له ان يقبض على النفس بصفتها مخيالا جذريا» (4). فكما ان النفس لا يمكن اختزالها في الدلالات الاجتماعية فان هذه الدلالات لا تحيل رأسا الى النفس. فالعلاقة بينهما جد معقدة ومتشابكة. المجتمع يسمح بمجال خاص للنفس وذلك شرط من شروط تكيف واندماج الثانية في الاول فمع ان ظاهر المجتمعات هو التواصل والتكرار فان الحقيقة العيمقة هي انها تعيش يوميا تغيرات وانها حبلى بالجديد والمغاير فلا وجود لتأسيس نهائي ونمط تنظيم مكتمل البناء. فهناك تفاعل بين المخيال الجذري المؤسس (بكسر السين) والمجتمع المؤسس (بفتح السين) بما انه لولا ذلك المخيال الجذري لما وجدت مؤسسات وقوانين ودلالات.
المخيال الجذري الذي يتمثل الاشياء ويصورها لا يتوقف على ما فيها من دلالات معهودة ومألوفة فهو يعين من جديد ومنه ينبثق الآخر والمغاير.
II المخيال بين المجتمعات المكبلة
(الهيثرونومية) Héteronomiques والديمقراطية:
يجرنا الحديث عن المخيال ودوره في تأسيس المجتمع والتاريخ الى مسألة اخرى ألا وهي المجتمعات التقليدية. نرمز بهذا المصطلح الى المجتمعات التي تؤسس على قاعدة مرجعية مطلقة يستمد منها النظام السياسي الاجتماعي سرعيته كمصدر للتشريعات والاخلاق والعلاقات... «باستثناء المجتمعات اليونانية الغربية فان المجتمعات تأسست على قاعدة الانغلاق ومبدأ السياج الكامل: فالمجتمع المنغلق يعتبر ان نظرته للعالم هي الوحيدة الصحيحة ولها معنى. كل المواقف الاخرى تبدو غريبة. اقل قيمة. غير متماسكة، غير مقبولة، عديمة... (وحتى وان) تمكن بعض افراد هذا المجتمع من فهم بعض سمات المجتمعات الاخرى فالسبب في هذه «الكونية» (والانفتاح على المجتمعات الاخرى) لا يعود الى العقلانية بل الي قدرة هذه الافراد على التخيل الخلاق» (5) اي قدرتهم على تصور شيء مخالف ومغاير وغير معهود ومختلف عما عهدوه.
ولكن مادامت هذه هي مميزات المجتمعات التقليدية المنغلقة على ذاتها والتي ترفض اي تأويل مخالف للنظرة السائدة فيها ولا يندرج ضمن دلالاتها كيف نفسر الشروخ التي اصابت هذه الدلالات وأدت ببعضها الى الانهيار؟ بماذا نفسر مثلا انهيار سلطة الكنيسة؟ كما سبق وان قلنا لا يمكن للدلالات المخيالية الاجتماعية ان تقبض على النفس فوجود علاقات رمزية مع الموجودات يعني ان هذه الاخيرة لا تتطابق مع الدلالات.
كما ان هذه الاخيرة يبقى السؤال مفتوحا حول مدلولها على سبيل المثال: السؤال الذي ما فتئ يحير افراد المجتمع: هل الانسان مجبر ام مخير في افعاله. المخيال الجذري للافراد لا يكتفي بالتقبل والاندماج بل يتجاوز ذلك الى تخيل وابتكار الجديد والمغاير (على سبيل المثال ان الاثر الفني والفكري والثقافي العربي الاسلامي من بناء ونحت ومعمار وشعر وأدب وفلسفة لا يتطابق تماما مع الفكر الرسمي وفي بعض الاحيان يتعارض معه او يستقل عنه...).
ان الحاكمين الذين يسوسون الدولة والامة يقومون بذلك بصفتهم بشرا لهم رؤى ومصالح خاصة (لا تمثل المصالح الطبقية سوى احد ابعادها): مصالح فردية، قبلية، عشائرية، طبقية، جهوية، ورؤى عصبية،مفاهيم وتأويل للأصل المؤسس متضاربة... كل ذلك يجعل الدلالات معرضة للاهتزاء والتآكل وقابلة للتجاوز. لكن ذلك لا يقع بصفة آلية ووفق قانون تاريخي معين. فهي ليست بمواد بيولوجية قابلة للاهتراء والتفتت: (Biodégradable). ان ذلك ليس قدرها المحتوم فكل تغيير للدلالات مرهون بتأسيس جديد وخلق بشري مغاير، وما دام هذا الخلق لم ير النور فان هذه الدلالات المخيالية يمكن ان تستعاد وتستحضر في صيغ وصور مختلفة. ولان اليونان ومن بعده الغرب تجاوزا عن وعي هذه المؤسسات التقليدية ونفيا وجود مرجعية مطلقة يستمد منها الجهاز السياسي الاجتماعي الثقافي... سلطانه وشرعيته كانت الديمقراطية وكانت المساءلة والعود الى الذات ومراجعة المسلمات وكات الفلسفة ونزعت عن المؤسسات الدينينة قدسيتها.
«ان نزع القدسية عن مؤسسة المجتمع قد حصل في الرأسمالية منذ القرن 19 فالرأسمالية هي نظام يقطع ظاهريا كل علاقة ورابطة بين المؤسسة الاجتماعية واي سلطة خارجة عنها. الرأسمالية لا تعترف الا بالعقل (la raison) الذي يعطي له مفهوم خاص (سنتعرض الى ذلك في مناسبة اخرى). لكن وجهة النظر هذه مشوبة بغموض كبير حف بثورات القرن الثامن عشر والتاسع عشر. فمن ناحية هناك اعتراف بأن قانون تطور المجتمعات ينبع من نشاط المجتمع ذاته (لا وجود لقوانين متعالية وقدر محتوم وقوة خفية خارجة عن ارادة المجتمع المجتمع مسؤول عن اختياراته ومؤسساته وهو منبعها) ومن ناحية اخرى وفي نفس الوقت يستند قانون تطور المجتمعات على طبيعة عقلانية أو «عقل» طبيعي يمتد على كامل التاريخ (هناك قانون يحكم تطور وتاريخ المجتمعات: «عقل» تاريخي ينسحب على كل الفترات). انه نفس الوهم الماركسي.
فان يكون التاريخ قدر تقف وراءه قوى خفية متعالية او قوانين تاريخ موضوعية فهذا يعني ان التاريخ يملى على البشرية» (6).
لقد كانت الثورة الديمقراطية الغربية تجاوزا السلطة الكنيسة أعيد فيما اكتشاف الديمقراطية اليونانية والاوتونوميا (Autonomie) او الاستقلال الذاتي. لقد حملت هذه الثورة دلالة مخيالية جديدة لم يعرفها اليونان من قبل ولا حضارات العصور الوسطى: انها وهم التحكم العقلاني واللامحدود وفي الكون والطبيعة. لقد امتلكت الانسان فكرة السيطرة على الكون وعلى التاريخ وتوجيهه الوجهة التي تؤول الى «التقدم» و «النمو» ومراكمة القوة وصولا الى اخضاع الطبيعة والمحيط فكانت الحاجة لسلطة مركزية وظهور «وهم الدولة الامة» واذا بالانسانية جمعاء مطالبة (ان اختياريا او بالقوة) بأن تسير في حركة خطية متصاعدة موحدة. فالدلالة المخيالية التي تقول بالتحكم اللامتناهي للعقلالية على الكون واخضاعه لا تعترف الا بالحساب والتحديد الكمي. كان على الشعوب «المتحضرة» و «المتقدمة» ان تعمل على «تحضير» الشعوب «المتخلفة» لتحلقها بالمسيرة الانسانية ومن هنا ظهرت المغامرة الاستعمارية وصعود الفاشية. نحن اليوم بالخصوص خلال الثلاثين السنة الاخيرة نعيش ارتدادا لدلالة «الأوتونوميا» و «الاستقلال الذاتي» وشيوع وتقدم وتغلب الدلالة الداعية للتحكم في الكون واخضاعه لعقلانية تحولت الى «عقلنة» حميدة بفضل ما تمسح به التكنوعلوم التي تعصم من كل نقد وننزه وتقدم على انها محايدة وانها ملاذنا الاخير (سنتعرض لهذه المسألة في مناسبة اخرى) ووسيلتنا لتحقيق مجتمع الرفاه والحرية.
ان ازمة الديمقراطية وما يسميه كاستور ياديس «صعود اللامعنى» (وهو عنوان لكتاب) بقدم ذريعة من طرف بعض الاصوليين او المفكرين التراثيين العرب لكي يتغاظوا عن جانب الاستبداد في تاريخنا مدعيين ان «لكل مجتمع نمطه وآلياته الخاصة في ممارسة السلطة والحرية» (7) مصرحين بأنه «قد تم اختراع اليونان المعجزة وفق نموذج التأصيل الغربي» (8) أو أن «حضارة الغرب هي حضارة القوة والصراع وتسلط الانسان على الانسان... انها حضارة جباية وحقد وعدوان... بينما نرى حضارتنا حضارة انسانية، حضارة رحمة وحب وهداية واحتساب واعتراف بالاخر وليست حضارة حقد وصراع...» (9) فان تتحول الدول الصناعية الى قوى استعمارية هيمنية فذلك لا علاقة له بالديمقراطية والحرية في شيء: «فالذين يرفضون الديمقراطية والحرية بدعوى انها فان اتت بها البورجوازية الصاعدة في الغرب لبسط نفوذها وسيطرتها يخلطون بين الديمقراطية والديمقراطية والديمقراطية الشكلية «فتقدم الديمقراطية لا يعود الى نزعة تحررية لدى البرجوازية بل ان هذه الاخيرة جهدت وعملت ما في وسعها لوضع حد لنموها وتوسعها. ففي القرن التاسع عشر عملت البرجوازية على تحديد وتعيين ماسمته بالمجتمع الطيب او خيرة المجتمع (la bonne société) داخل الشعب الواحد، هذه الفئة المتكونة من أناس لهم القدرات والشرف... لقد قاومت الاقتراع العام وحرية تجمع العمال» (10) فالديمقراطية الفصلين هي تخلص المخيال الجذري من اي تحديد خارجي هي اعتراف ضمني وصريح بأن الفرد والمجتمع هما المنبع ومنهما ينبثق المعنى ومن هنا يبرز الاستقلال عن المرجعيات والوثوقيات وحرية الاختيار والحكم والقرار.
III المخيال والتاريخ:
كل الظواهر المعاصرة تشير الى اننا نمو بمرحلة حافلة بالتقلبات محفوفة بالمخاطر تستوجب منا التوقف وإعمال الرأي ومساءلة التاريخ. في خضم هذا الغموض والفوضى تتعالى اصوات بعضها يدعو للرجوع الى الماضي واخر يطالب بعقلنة المسيرة البشرية وضبطها بأخلاقيات وقوانين واخر يعلن نهاية التاريخ (فوكوياما) ومبشرا بانتصار ساحق للنيوليبيرالية الفاحشة. اننا اليوم امام سؤال تاريخي لا يقبل بأنصاف الحلول والاجوبة: الى اين نسير؟ هل هذا الاتجاه محتم على البشرية؟ ألا يحق لنا ان نسأل الماضي القريب والبعيد والحاضر لكي نضيء طريق المستقبل؟ هل ننفض عنا غبار الماضي ولا نعبأ الا بم سيحيل ويأتي؟ كل هذه التساؤلات تحيلنا الى قضية واحدة: ما معنى التاريخ؟ ما تاريخ الشعوب والحضارات والافكار والفنون؟ كيف يخلق الانسان تاريخا ومؤسسات ومجتمعات وحضارات؟ هل نجزم كما فعل هيجل بأن التاريخ يتقدم في اتجاه العقلانية ويخضع لمنطق فاذا بنا امام جدلية تاريخية واذا بالاختلافات بين الحضارات والثقافات والافكار ليست سوى أوجها للعقل ويصبح «كل ما هو واقعي عقلاني» حسب عبارة هيجل نفسه: هل يسير التاريخ في خط تصاعدي بحيث تكون افكارنا السابقة حالات خاصة لأفكارنا الحاضرة وينتج عن ذلك تماثل وتطابق بين مسيرة العقل الانساني ودرجة تعقد المواضيع التي يتوجه لها فكرنا؟ هل التايخ تواصل واستمرار؟ ام هو نحو الارقى ام هو استئناف للحظة توقف بعدها التاريخ وظل يجتر فيها نفسه دونما تجديد فنأخذ بيده ونسوقه الى حيث يجب ان يتجه ونصالحه مع العقل؟ ام هل ان التاريخ انتهى ولم يعد موضوع درس الا لمن بقلوبهم مرض وعلة وحنين؟
في الحقيقة و «منذ أفلاطون ومرورا بالليبرالية المعاصرة وصولا الى الماركسية فان الفلسفة السياسية قد تسممت بمسلمة مفادها انه يوجد نظام عام و «عقلاني» للعالم قاطبة ومنه يمكن استنتاج نظام (Ordre) للشؤون البشرية ونسمي ذلك بالانطولوجيا التوحيدية، هذه المسلمة تخفي وتزيف الحقيقة الجوهرية ألا وهي ان التاريخ البشري هو خلق لولاه لما كان هناك تساؤل واصدار أحكام ولما تحدثنا عن اختيار سواء تعلق الامر بالامور الموضوعية او الذاتية كذلك فان الاعتقاد في نظام (Ordre) يحكم تطور المجتمعات يعنى الغاء المسؤولية. ان هذه الانطولوجيا التوحيدية مهما كان تمظهرها وسواء تلحفت بهذا القطاع او ذاك ترتبط اساسا بالهيترونوميا (عكس الاوتونوميا). ففي اليويان القديم فان انبثاق الاوتونوميا ارتبط برؤية غير موحدة او توحيدية للعالم وتشهد على ذلك الميثولوجيات الاغريقية» (11).
ولكن اذا كان المنطق يحكم تطور التاريخ كيف نفسر ظهور الاديان والفلسفة والديمقراطية والكليانية والفاشية؟
«ان التاريخ هو المجال والميدان الذي يخلق فيه الانسان اشكالا أنطولوجية بما فيها تاريخ الانسان نفسه وتاريخ المجتمعات» (12).
فالتاريخ خلق بشري انساني لدلالات وضوابط ومعايير ولا وجود لتاريخ خارج الارادة البشرية او تاريخ تحكمه قوى متعالية وقوانين تاريخية موضوعية او اقتصادية خفية. فها هي ذي قوانين التاريخ التي وضعها ماركس (المادية التاريخية) تتحطم وتتبخر على وقع الاحداث التاريخية وذلك لا فقط بسقوط «البيروقراطية السوفياتية» ولكن وبالاخص بانصهار الطبقة العاملة في المجتمع الرأسمالي وانسياقها وراء مجتمع الاستهلاك. ثم ها هو ظهور الفاشية يؤكد مرة اخرى ان «لا براءة للتاريخ» وانه «مازال لنا ما نفعله... ولا ضمان للتاريخ» (كاستور ياديس) وانه سيظل الفعل البشري والمساءلة والتقيم الذاتي مسألة قائمة.
التاريخ خلق، انه خلق ذاتي (Auto-création)، تأسيس اجتماعي تاريخي، التاريخ لا يخضع لمنطق عقلاني وقوانين ثابتة بحيث «ننتقل من مرحلة منطقية الى اخرى وكلها تخضع لحتمية منطقية» كما يقول الجابري. طبعا لا يمكن لأي كان ان يشتغل على موضوع تاريخي دون اللجوء الى منطق السببية لكن» الاجتماعي التاريخي يفترض ايضا اللاسببية ويبرز ذلك على مستويين: مستوى تصرف الافراد مقارنة مع ما هو تصرف طبيعي ومتلائم مع ما هو معهود ومألوف... وبالاخص مستوى التصرف الغير قابل للتكهن ألا وهو التصرف الخلاق للأفراد والجماعات والمجتمعات... (فبخلاف الميكروبات) فان رد الكائن التاريخي اي الانسان على الاوضاع الجديدة يتجاوز حدود الكائن الطبيعي الذي يغير أجوبته وردوده فالانسان يتجاوز ذلك التأقلم الى خلق اوضاع جديدة فذة لا يمكن التكهن بها» (13).
كل ذلك لا يخضع لحتمية ولا لقانون تاريخي.
اذن نقيم التاريخ؟ بادئ ذي بدء اقرارنا بجعل الماضي موضوع درس وفحص ونقد ومراجعة هو في حد ذاته موقف خاص. فالذين يعتبرون التاريخ تعاقب حوادث مقدرة وان الزمان يخفي اسرارا تمتد الى المستقبل لا يكلفون انفسهم عناء البحث فنظام الفكر الذي ينضوون في ظله مريح مطمئن. فهم في حالة اكتفاء ذاتي وفي حل من المشاق والمتاعب. اما اذا اعتبرنا انه لا ضمان للتاريخ وان هذا الاخير مسرح للتراجيديا والمخاطر وان التقدم التاريخي المضمون محض وهم، اما اذا اعتبرنا انه لا يمكن لنا الحكم على الماضي بأنه ترهات لاننا بذلك نكون قد حكمنا على كلامنا بالنسيان والتفاهة بمجرد مرور اللحظة التي نطقنا فيها حينئذ نقر بمسؤولياتنا تجاه التاريخ ونرفض الاستقالة والانصياع للاحكام والقوانين عندما نقر بأن التاريخ خلق لمعنى فذلك يعني ان لا وجود لتفسير لهذا الخلق فكل الذين حاولوا تفسير نشأة الحضارات والاديان والديمقراطية... وقرنوا ذلك بأسباب غاب عنهم انه للقيام بذلك لابد من تمثل المخاييل التي سادت تلكم العصور وبالتالي وضع انفسهم في دائرة مخيالية سابقة وهذا ما يعجز عنه كل مفكر. ما يمكن فقط القيام به هو فهم هذا التاريخ (لا تفهمه) وذلك بعد عملية الخلق الاجتماعي والتاريخي لانه لا وجود لاتجاه ومعنى للتاريخ الا ما يخلقه ويتمثله الانسان والمجتمع. فالمعنى يخلق. اذن كيف الماضي حاضرا في الحاضر والمستقبل؟ ونه حاضر بما يعطيه له الحاضر والمستقبل من معنى ودلالة» (14).
اما محاولة البعض استخراج المعاني والدلالات من النصوص على ان في هذه الاخيرة إمكانا لا ينضب وقابلية للتأويل لا حصر لها (على حرب) بحيث ينطقوها بما لم تنطق بها فذلك هراء لأنه ليست النصوص هي التي نطقت ولكنهم هم الذين نطقوا وصاغوا افكارهم ونسبوها للنصوص فالحضر والتفكيك هروب من المسؤولية. إن الماضي يعيش فينا جزء من مقدمات فكرنا لكننا ككيانات حاضرة غير مسؤولين عما وقع ولا نقدر سوى على تقييمه ونقده ومراجعته بما ادى الى هذا الحاضر:
«فلا يمكن لنا ان نعطي أفضلية وحضوة للحقيقة التاريخية الماضية. فما الماضي والحاضر سوى مادة خاما لا قيمة لها الا بقدر ما نهضمها بصفة نقدية... فالماضي ليس له قيمة افضل من الحاضر وهذا الاخير لا يكون مثالا او نموذجا بل مادة. فالتاريخ الماضي لا يمكن اعتباره طاهرا ومقدسا بل قد يكون هذا التاريخ ملعونا لانه استبعد تواريخ اخرى كانت ممكنة التحقيق. فهذه الامكانيات التاريخية لها نفس الاهمية والمكانة والقيمة بالنظر الى مواقفنا العملية وبالنظر الى التاريخ الفعلي» (15).
من هذا المنطلق نتخلص من كل نزعة تقريضية او احتقارية للماضي ولا نتغاضى عن نقد الدلالات والمؤسسات التي شكلت اطارا ومرجعا للفكر والممارسة وهذا هو الخطأ الذي سقط فيه كبار المفكرين: فهيجل لم ينطق شيئا عن الملكية البروسية وماركس سكت عن التكنيك واعتبره محايدا وماكس فيبر اعتبر البيروقراطية المعاصرة تجسيما للعقلانية وسمة من سماتها الجوهرية التي لا تقبل المساءلة.
المراجع
(1) ابن رشد: الكتاب الكبير للنفس لأرسطو، نقله من اللاتينية الى العربية الاستاذ ابراهيم الغربي، دار الحكمة، 1997، ص 218 221.
(2) ابن رشد: نفس المرجع ص 308.
(3) Edward : Quand les conditions ont la force de la réalité, l'unanimité, l'immigration et la cinquiéme dimension. Le Monde janvier 2001, page 26-27.
(4) Cornélius Castoriadis : L'institution imaginaire de la société, Editions Seuil, 1975, page 431.
(5) Cornélius Castoriadis : La polis grecque et la création de la démocratie, Domaines de l'homme, les carrefours du labyrinthe II, 1986, page 262 et 265.
(6) Cornélius Castoriadis : Une interrogation sans fin : Domaines de l'homme, op cité, p 251.
(7) علي حرب : نقد النص، المركز الثقافي العربي، الطبعة الاولى، الدار البيضاء 1993، ص 163.
(8) عمر كوش : نقد المركزية الغربية، الآداب 3 و 4، 2000، ص 25.
(9) أحمد القديدي : الاسلام وصراع الحضارات، كتاب الامة، قطر وزارة الأوقاف والشورى الاسلامية، ص 33.
(10) Claude Lefort : Entretiens avec le monde, la découverte, 1982, page 164. Voir aussi : Claude Lefort : l'invention démocratique : les limites de la domination totakitaire, Fayard, 1981.
(11) Cornélius Castoriadis : La polis grecque et la création de la démocratie, op cité, page 286.
(12) Cornélius Castoriadis : Les intellectuels et h'histoire, in Le monde morcelé, les carrefours du labyrinthe III, Seuil, 1990, page 103.
(13) Cornélius Castoriadis : Le marxime, bilan provisoire, in L'institution imaginaire de la société, op cité, 61.
(14) Cornélius Castoriadis : Les intellectuels et l'histoire, op cité, p. 104.
(15) Cornélius Castoriadis : La révolution devant les théologiens in Le Monde morcelé op cité, page 179.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.