جنيف:كيف يمكن أن نتجنب في المستقبل نجاح مبادرات شعبية من الصعب تنفيذها لتعارضها ببساطة مع حقوق الإنسان الأساسية؟:هذا السؤال الذي يشغل خبراء القانون والمدافعين عن حقوق الإنسان في سويسرا منذ نجاح مبادرتيْ المآذن 2009، وطرد المجرمين الأجانب 2010، كان محور نقاش أيضا بين أعضاء "منتدى تعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية المباشرة في سويسرا" في سياق دورته الثالثة المنعقدة في مدينة سولوتورن يوم 12 مارس 2011.
حضر هذه الدورة 80 مشاركا بينهم أعضاء من أحزاب سياسية، وكتاب وفلاسفة، ومدافعون عن حقوق الإنسان، ويأتي يوم العمل هذا في لحظة سياسية مهمة، إذ من المحتمل بحسب أندرياس غروس، نائب برلماني عن الحزب الاشتراكي، ورئيس فريق الاشتراكيين الديمقراطيين بمجلس أوروبا "أن تقدم الحكومة الفدرالية في الفترة القادمة على اقتراح تعديل دستوري يضع شروط مسبقة على المبادرات الشعبية التي يسمح بعرضها على الناخبين".
وقد ترجّح هذا الاحتمال أكثر بعد تقدم مجموعة من السويسريين بمبادرة شعبية تدعو إلى إعادة العمل في سويسرا بحكم الإعدام قبل سحبها لاحقا، مما صدم الرأي العام، ودفع جزءً هاما من السياسيين من أحزاب اليسار والوسط، إلى القبول لأوّل مرة بالحديث وبجدية عن وضع شروط مسبقة لإطلاق المبادرات الشعبية.
يكون منتدى يوم السبت الذي امتدت مداولاته يوما كاملا إذن نوعا من التحضير المسبق لهذا الاستحقاق الانتخابي، وقد رهن غروس، رئيس المنتدى، النجاح في هذا التحدي "بإستخلاص الدروس من الفشل المتكرر في الماضي، ومراجعة المفاهيم المعتمدة في الدفاع عن حقوق الإنسان في سويسرا، وتحديد الخطوات التي من الممكن المسارعة باتخاذها، لإنجاح الحملات الانتخابية المضادة لأجندة حزب الشعب في المستقبل". دروس الماضي أرجع المشاركون في نقاش يوم السبت فشل الحملات الانتخابية للمدافعين عن حقوق الإنسان والتعايش المشترك إلى عجز هؤلاء عن تقديم تصوّر واضح وإدارة نقاش حقيقي مع الناخبين حول ما عبّر عنه أحد الحضور " بالبديل الحقيقي والواقعي لما يطرحه اليمين المتشدد".
خلص النقاش، في علاقة بالتجربة الماضية، إلى وجود فراغ كبير بسبب غياب مؤسسة وطنية متخصصة في الدفاع عن حقوق الإنسان، بل ذهب رئيس المنتدى إلى حد "نفي وجود خطاب مضموني وجوهري حول حقوق الإنسان في سويسرا من الأصل".
وبالنظر في الطرق التي يدير بها حزب الشعب حملاته الانتخابية، ذهبت آراء الحضور إلى أن أحزاب اليسار الداعمة تقليديا لمنظومة حقوق الإنسان قد فشلت في التصدي للمغالطات التي يستخدمها اليمين الشعبوي، وكذلك استغلاله للنزعة الوطنية ولتاريخ البلاد، واعتباره المواطنين السويسريين أحق بالحماية ولو على حساب الآخرين، او كذلك وصمه لكل من خالفه بالتفويت في المصالح العليا للبلاد والإضرار بأمنها.
مقابل هذا كان بالإمكان بحسب متدخل آخر "أن يثبت معارضو حزب الشعب أن الحقوق الإنسانية كل لا يتجزّأ، وأن المستقبل إما ان يكون واحدا بالنسبة للجميع وإما ألا يكون".
وأرجع عضو آخر مقيم بزيورخ، قال أنه قضى الجزء الأكبر من حياته مهاجرا في الولاياتالمتحدة، هذا الفشل إلى أحزاب اليسار نفسها، وقال: "لاحظت أن اليسار لا يهتم كثيرا بواقع المواطنين وما يعانونه من بطالة، وأن المواطنين باتوا لا يراهنون عليه في الدفاع عن مطالبهم. وبالتالي ففشل المعارضين لحزب الشعب هو في جزء منه يعود إلى مشكلة الأحزاب اليسارية في ذاتها". مفاهيم للمراجعة المراجعة والنقد الذاتي تطرقا أيضا إلى ضرورة إعادة تفكيك مجموعة من المفاهيم المستخدمة في الخطاب السياسي السويسري كمفاهيم الواقعية والعقلانية، ومفهوم الأمن والاستقرار، ومقولات الشعب، ومرجعية حقوق الإنسان.
فبالنسبة للنقطة الأخيرة مثلا، أثار روجيه بلوم، رئيس سلطة الرقابة المستقلة، والبت في الشكاوى بشأن التلفزيون والراديو إلى المغالطة التي تحاول أن تجعل من الديمقراطية المباشرة "تقليدا سويسريا أصيلا"، ومن حقوق الإنسان "منتجا مستوردا من بروكسل أو ستراسبورغ"، أو جعل "سويسرا الليبرالية" تنحني أمام "سويسرا التقليدية التاريخية".
وبالنسبة لهذا المؤرخ السويسري: "لا مخرج من هذه الثنائية التي أوجدها حزب الشعب، إلا بتوضيح مرجعية حقوق الإنسان، وذلك بالعودة في نفس الوقت إلى المفكرين الأوروبيين الأحرار في عصر الأنوار، وإلى تجارب المجالس المحلية في القرى والمدن السويسرية التي خلقت تقاليدها الخاصة بهذا الشأن".
كذلك الأمر بالنسبة للديمقراطية المباشرة، التي ليست بحسب بلوم، وكما يدعي اليمين الشعبوي: "نتاج سويسري خالص، بل هي نظام فرنسي في الأصل نقل لاحقا إلى الكانتونات السويسرية".
وفي نفس الاتجاه، أوضح غي كرنيتا، كاتب ومؤسس لمعهد "الفن والسياسة": "أن رعاية حق الأفراد، وحق الجماعات، ورفض التمييز ضد النساء، والأقليات الدينية، وحماية الضعفاء، وتحقيق العدالة والتوازن بين المناطق كلها عناصر أصيلة في صلب النظام الاجتماعي السويسري".
وأشار أيضا بعض المتدخلين إلى أن "هذه التقاليد السويسرية هي التي حافظت على لغة الرومانش التي لا يتكلمها إلا 30.000 نسمة، وتم التعامل معها على قدم المساواة مع اللغات الوطنية الأخرى التي يستخدمها ما يزيد عن 4 مليون نسمة". كذلك من المعروف أن الديمقراطية السويسرية تميّزت منذ عصورها الأولى باحترام مبدأ التوافق، "فهي لا تحتكم إلى معياري القلة والكثرة"، على حد قول البعض الآخر.
أما مفهوم الشعب، والذي يتغنى بهذه اليمين المتشدد، هو في حاجة كذلك إلى توضيح، وأبسط هذه التعريفات وأكثرها بداهة أنه "وحدة سكانية تسكن بلد ما". وهو بهذا المعنى وحدة لا تقبل التمييز داخلها بين محليين وأجانب، ومن يحق لهم، ومن لا يحق لهم، ولا أن يتوفّر الأمن، والأمن الاقتصادي لفئة على حساب فئة أخرى في إطار المجتمع الواحد. التواصل..التواصل ما السبيل الأمثل لإعطاء ثقل لهذه الأطروحات ولهذه المراجعات، وكيفية تنزيلها على الساحة السياسية؟ يكمن الحل بالنسبة لأغلبية الحضور في إعادة النظر في الخطاب المعتمد حتى الآن، بما ييسّر التواصل مع الناخبين. ويمر هذا الامر بحسب نينا هويسلي، الناشطة في جمعية "solidarité sans frontière " (أو تضامن بدون حدود)، من خلال "إنشاء فدرالية سويسرية للدفاع عن حقوق الإنسان، واستخدام خطاب بسيط قادر على صناعة رأي عام داعم".
أما على المستوى العملي، فتقترح هويسلي: "إطلاق مسابقة وطنية عامة للحصول على مقترحات فعالة لتعزيز حقوق الإنسان، وإعداد موقع إلكتروني يحتوي على منتدى للنقاش والتفاعل".
ولم تخل الجلسة الختامية من اقتراحات غريبة ومثيرة، حيث اقترح احد المتدخلين إعلان إضراب عام يقتصر على الأجانب في سويسرا "لإثبات إلى أي مدى يعتمد المجتمع السويسري على هؤلاء"، أو حتى المطالبة بإلغاء لغة الرومانش (اللغة الرسمية الرابعة في الكنفدرالية) من أجل "إثارة الرأي العام، ولفت نظره إلى خطورة المبادرات الشعبية التي تتقدم بها بعض الأطراف السياسية ضد هذه الفئة الاجتماعية أو تلك".
هذه الأفكار والمقترحات اقتضت من المشاركين انتخاب "لجنة للمتابعة"، سوف تتكفّل بالتحضير إلى مؤتمر سلوتورن الرابع الذي تقرر أن يعقد يوم 10 سبتمبر 2011، لمناقشة التجربة التاريخية السويسرية في مجال حقوق الإنسان، والدروس التي بالإمكان إستفادتها منها. عبد الحفيظ العبدلي - سولوتورن- swissinfo.ch