تضاربت آراء الرحالة والكُتّاب العرب والمسلمين في العصور الحديثة، إزاء أخلاقيات الغرب، فمنهم من وقف وقوفاً كاملاً عند مظاهر الفساد والمادية والأنانية، ومنهم من رأى فيها أشياء حميدة جديرة بأن يقتبسها الآخرون. أعجب الرحالة العرب ما بين عامي 1880 و1918 مثلاً، ومنهم أمين فكري، الذي أرسله الخديوي توفيق إلى مؤتمر المستشرقين المنعقد في استكهولم، فزار دولاً أوروبية أخرى في طريقه، ثم ألف كتاب "إرشاد الالبا إلى محاسن أوروبا". ومنهم محمد إبراهيم المويلحي، الذي نُفي من مصر على أثر اشتراكه في ثورة عرابي، فأقام في أوروبا ثلاث سنوات، ومنهم جورجي زيدان، الذي زار لندن سنة 1886، ثم قضى صيف 1912 في أوروبا، وغيرهم- أعجب هؤلاء جميعاً ببعض الصفات الأخلاقية التي تحلى بها الغربيون، وعلى رأسها نشاطهم ودأبهم على العمل، وقد تفوقوا بها على "الشرقي الكسول". وأعجب بعض هؤلاء بصدق الغربيين وأمانتهم، فضلاً عن إكرامهم الغريب وإحسانهم إلى الفقير. بل أكد أحمد زكي، الذي كانت الحكومة المصرية قد أوفدته عام 1892 إلى مؤتمر المستشرقين في لندن، وتجول في أوروبا على ذلك بقوله: "انظر إلى أين وصل التفنن بهم -أي الغربيين- في فعل الخيرات ونفع الجنس البشري، فيا حبذا لو قرأ هذه السطور بعض أبناء الأغنياء في بلادنا وتنافسوا في هذه الطريق بدلاً من الطرق الأخرى المعروفة لديهم". فمن مثل هذه الآراء، تقول الباحثة في تراث الرحالة العرب إلى الغرب، د.نازك سابا يارد "نحسُّ بأن رحالينا وجدوا في الغربيين صفات افتقر إليها الشرقيون، فكان من الطبيعي أن يتساءلوا عن علاقة الأخلاق بالتطور السياسي والحضاري، لا سيما وأن بعض المفكرين الغربيين- وعلى رأسهم لبون وديمولان- قد ذهبوا إلى أن الأخلاق تُكوِّن الفارق الأساسي بين الأمم المنحطة والأمم الراقية، وأن أخلاق الإنجليز هي التي جعلتهم يتوصلون إلى الحرية والديمقراطية الحقة والاستقلال، ويبزون الأمم الأخرى في المضامير الصناعية والتجارية والسياسية بل والحربية أيضاً". فالأخلاق الفاضلة، كما بيّن هؤلاء، أساس رقي الوطن وقوته واستقلاله، وقد كانت سر قوة الخلفاء الراشدين، بقدر ما كان الفساد الخلقي السبب في زوال ملك العباسيين والخلفاء الأندلسيين واحتلال البريطانيين مصر. وكما أن فساد الأخلاق كان السبب في تخلف الشرق، أوضح زيدان وآخرون، أن أخلاق الأوروبيين كانت من أسباب رقيهم وقوتهم السياسية ونجاح الحكم الديمقراطي في بلادهم. وإن سيطر الإنجليز على العالم، فلأنهم تميزوا بالأمانة ومعرفة الواجب، والمحافظة على النظام والتواضع والعمل في سبيل المصلحة العامة، ولا سيما الاتكال على النفس والاستقلال الفكري. ونتيجة لذلك، تلاحظ الباحثة، أن رحالينا أحسوا بأن من أسباب تخلف الشرقيين افتقارهم إلى الأخلاق التي كانت سر تطور الغرب، فحثوا مواطنيهم على الكد والعمل، ودفعهم زيدان وكُرد علي، إلى التحلي بأخلاق الانجليز، ولا سيما الأمانة ومعرفة الواجب، والمحافظة على النظام والاستقلال الفكري والاتكال على النفس. لكن ماذا يبقى للشرقيين من هويتهم وموروثهم، إن اقتبسوا أخلاق الغرب؟ هنا اختلف الرحالة الشوام عن المصريين. الأخلاق الفاضلة أساس رقي الوطن وقوته واستقلاله، وقد كانت سر قوة الخلفاء الراشدين، بقدر ما كان الفساد الخلقي السبب في زوال ملك العباسيين والخلفاء الأندلسيين. فقد شعر زيدان وكُرد علي، بأن في الأخلاق الغربية ما قد يناقض القيم الشرقية، فلم يحاولا التوفيق بينهما، بل أكدا أن هذا الاختلاف والتناقض أمران طبيعيان، إذ تتغير الأخلاق بتغير البيئات والبلاد والعصور، ولذلك حضّا العرب على تغيير مفاهيمهم الأخلاقية. ودعا كرد علي إلى مزج القديم بالحديث، فتضحى الحضارة العربية الجديدة "لا تشبه حضارة العرب أيام عزهم، ولا حضارة الغرب لعهدنا، بل تكون شيئاً جديداً فيه عبقريتهم وروحهم". ولكن المفكر الشامي المعروف لم يستطرد في توضيح ماهية هذا "الشيء الجديد". أما المويلحي، فأخذ أيضاً بمذهب الاختيار من المدنية الغربية والاقتباس من مآثرها، إلا أنه أوصى الشرقيين بأخذ العلوم والصناعات الغربية وحدها، إذ لم يجد غيرها نافعاً في الحضارة الغربية. وينتقد الكثير من الباحثين الطابع المادي والنفعي لحضارة الغرب، ولكنهم لا يوضحون لنا كيف يمكن بناء حضارة كبرى دون أن تكون مادية ونفعية، وتعاني من الكثير من السلبيات الأخرى، وهي سلبيات ومآخذ حقيقية، ولكنها تكررت مع كل الحضارات. ويحاول كُتاب "الإسلام السياسي" تجميع مثل هذه الانتقادات والاعترافات لضرب التوجهات الليبرالية والتحديثية والانتصار لأيديولوجياتهم ونظامهم الموعود. يقول محمد قطب مثلاً، منتقداً التربية الإنجليزية: (إنها تنشئ الفرد على كثير من الفضائل: لا يسرق ولا ينهب ولا يغتصب ولا يكذب ولا يغش، استقامة جميلة في الطبع والمعاملة، استقامة مريحة تثير الإعجاب، وميل إلى التعاون ونبذ للأنانية وإحساس بالصالح العام وتضحية بشيء من الصالح الخاص في هذا السبيل. كل ذلك نعم، ولكنه في حدود بريطانيا، في حدود القومية البريطانية. فإذا انتقل هذا الرجل الإنجليزي قيد شعرة خارج الحدود البريطانية، خارج الوثن الذي رُبي على عبادته، وقام منهج التربية كله على أساسه، فهنا يفاجئك منه شخص آخر لم تعهده من قبل، الأنانية البغيضة والجشع الكريه، الغش والخداع والكذب والدسيسة، والغصب والسلب والنهب، وإيثار الصالح الخاص على كل قيم إنسانية أو صوت للضمير، لماذا؟ هل تغير؟ كلا. وإنما هو ما يزال مخلصاً للوثن الذي يتعبده؛ ولم يكن قط مخلصاً ل"الإنسانية" لأنه لم يتربّ تربية إنسانية، ولم يكن قط مخلصاً لله، لأن قاعدة تربيته لم تكن الاتصال الحقيقي بالله. ذلك مثل يبين الفارق الحاسم بين منهج التربية الإسلامية ومناهج التربية غير الإسلامية). (منهج التربية الإسلامية، 1967، ص38). ولكن هل كل الإنجليز والأوروبيين يتصرفون بهذا الشكل خارج بلادهم، أم أن نقد محمد قطب ينصب على النموذج الاستعماري في بلدان المشرق وغيرها؟ من دعاة الإسلام الذين قرأت لهم، خلال الآونة الأخيرة، حول أخلاق الغربيين هو الدكتور عايض القرني، الذي سافر من المملكة العربية السعودية إلى فرنسا للعلاج، فنشر مقالاً في صحيفة "الشرق الأوسط" يوم 14/2/2008 يقول فيه: "أكتب هذه المقالة من باريس في رحلة علاج الركبتين، وأخشى أن أتَّهم بميلي إلى الغرب، وأنا أكتب عنهم شهادة حق وإنصاف، والله إن غبار حذاء محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم) أحبُّ إليّ من أميركا وأوروبا مجتمعتين. ولكن الاعتراف بحسنات الآخرين منهج قرآني، وقد أقمت في باريس أراجع الأطباء وأدخل المكتبات وأشاهد الناس وأنظر إلى تعاملهم، فأجد رقة الحضارة، وتهذيب الطباع، ولطف المشاعر، وحفاوة اللقاء، وحسن التأدب مع الآخر. أصوات هادئة، حياة منظمة، التزام بالمواعيد، ترتيب في شؤون الحياة". ثم يقول: "نحن مجتمع غلظة وفظاظة إلا من رحم الله، فبعض المشايخ وطلبة العلم -وأنا منهم- جفاة في الخُلُق، وتصحّر في النفوس، حتى إن بعض العلماء إن سألته اكفهرّ وعبس وبسر، الجندي يمارس عمله بقسوة ويختال ببدلته على الناس، الشرطي صاحب عبارات مؤذية، الأستاذ جاف مع طلابه، فنحن بحاجة لمعهد تدريب الناس على حسن الخُلُق وبحاجة لمؤسسة لتخريج مسؤولين يحملون الرقة والرحمة والتواضع، وبحاجة لمركز لتدريس العسكر اللياقة مع الناس". ثم يقول: "نسأل الرجل الفرنسي عن الطريق ونحن في سيارتنا فيوقف سيارته ويخرج الخارطة وينزل من سيارته ويصف لك الطريق وأنت جالس في سيارتك، نمشي في الشارع والأمطار تهطل علينا فيرفع أحد المارة مظلته على رؤوسنا، نزدحم عند دخول الفندق أو المستشفى فيؤثرونك مع كلمة التأسف". هل سنكون مثلهم؟ متى؟ وكيف؟ محمد قطب يقول: سنكون أفضل عندما يحكمنا حزبه. -------------------------------------------------------------------------------- * جريدة الاتحاد الإماراتية 20/5/1429 25/05/2008