تحضير أغاني "ليلة العمر" وانتقاء أحلاها من بين عشرات ألبومات المطربين تعالت صرخات الحزن محملة بأنباء استشهاد جارهم.وعلى مرأى مشهدٍ حزين دامع قذفت "مها" بأشرطة الغناء بعيدا، وبدأت رحلة البحث عن الأناشيد الإسلامية لتتصدر حفل زفافها. لم يكن من خيار أمامي سوى أن أفعل هذا"، وتابعت مها: "لا يعقل أن نرقص طربا وعلى بعد أمتار منا تذرف العبرات وتنطلق الآهات". وهل أمامي خيار؟ ولم تكن "مها" وحدها من غير خططه وما رسمه من تفاصيل؛ إذ اضطر الكثير من المقبلين على الزواج لتبديل خططهم وآرائهم مراعاةً لشعور مدينتهم الجريحة والمكلومة بوجع الشهداء وأنين الأسرى وألم الجرحى، وزاد جرح غزة وما تتعرض له من بطش إسرائيلي ليل نهار من إقبال سكانها على الأفراح الإسلامية. رامي شاب في العشرينيات من عمره اعترف أنه لم يخطط لفرحٍ يحمل الطابع الإسلامي: "لست على درجة عالية من الالتزام.. ولكن ما خلفه الاحتلال من أحزان في كل بيت وشارع جعلني أعيد النظر والتفكير". أما عصام السقا، فكان اشتراط خطيبته لعرسٍ إسلامي الدافع وراء قبوله بالفكرة، وبابتسامة عريضة تساءل: "وهل أمامي خيار؟! ربما في البداية لم أقتنع ولكن حديث خطيبتي عن البدايات الجميلة لحياتنا و"رضا الرحمن" وما تعيشه غزة من وجع أزال ترددي وشكي". ولأفراح غزة ما يميزها عن أقرانها في أرجاء المعمورة؛ إذ يكتب على بطاقة الدعوة: "أفراحنا إسلامية"، ولحفل الزفاف الإسلامي احتفال خاص للعريس يسبق موعد "العرس" بيوم، ويتم تخصيص مكان منفصل للنساء. "أم أحمد" رأت أن الإقبال على حفلات الزفاف الإسلامية زاد وبشكلٍ ملحوظ، وأضافت في حديثها: "الناس بدأت تعزف عن الأفراح الغنائية، في حين تتهافت للذهاب نحو الصالات الإسلامية". ووافقتها جارتها "أم هاني" الرأي ومضت تقول: "أن يصدح النشيد الإسلامي في قاعة الفرح فذلك يعني أن الحضور سيملأ الصالة، ولن تجد لك مكانا.. أما لو كانت الأصوات الخارجة لمطربين فالعزوف سيكون سيد الموقف". وتعد المحافظة على التقاليد والالتزام الديني سمة واضحة في قطاع غزة؛ وذلك لانتشار حركات المقاومة الإسلامية به، واستهداف القطاع من قبل العدو الإسرائيلي. "أم عدي" الرافضة لحضور أي فرح لا يحمل الطابع الإسلامي عللت رفضها بصوتٍ واثق: "كيف أذهب لأعراسِ تضع ما هو مبتذلا.. أكاد أتخيل ملك الموت وأنا أجلس في الصالة يقبض روحي فألف وأتراجع". "لا أتخيله بدون أسماء الله الحسنى" "ليلى" تستعد بعد أيام لدخول مملكتها أكدت أن حفل زفافها سيكون إسلاميا: "لا أتخيل فرحي بدون "أسماء الله الحسنى، أو أنغام الأناشيد الهادفة"، وأشارت إلى أن أداء الفن الملتزم تطور على كافة المستويات (المؤثرات الصوتية واللحن والكلمة). ولأنها ترى أن أغاني اليوم السائدة مطعمة بكلماتٍ ودلالات مبتذلة فإن "أم هشام" لا تبدي دهشتها من تربع النشيد الإسلامي على العرش: "إلى جانب أن هناك صحوة دينية واسعة في أوساط الناس". "إسلام" كانت ترى في الأعراس الإسلامية "مأتما" ولكن سرعان ما تغيرت نظرتها وبدأت تصافح هذا اللون: "الألحان والكلمات جميلة.. والرائع أن أفراحنا وطنية؛ حيث يتم تطعيم الفرح بالأناشيد الجهادية". وفي غزة تصدح ألحان حب الوطن وإبراق التحيات للأسرى والجرحى والحب لللاجئين والحنين إلى عودتهم. مسرحيات سياسية ومع أن الالتفات حول النشيد الإسلامي بات سمة واضحة في الآونة الأخيرة في كافة البلدان العربية إلا أن الزفاف الإسلامي في غزة نما منذ سنوات عديدة، وتحديدا حين قام الشيخ الشهيد أحمد ياسين بتأسيس أول فرقة إسلامية تشرف على تنظيم الحفلات وإحيائها في القطاع. وبخطواتٍ هادئة بدأت تتبوأ مكانتها وتحل بديلا عن الفن غير الملتزم، وخرجت للنور عشرات الفرق الإنشادية، ولم يعد الأمر مقتصرا على ما تقدمه الفرق المنتشرة في الدول الأخرى، ومن أبرز فرق غزة "فرسان الأقصى، وفرسان الياسين، والمشاعل، والفوارس الفنية، والرباط". ومع تطور الأداء الفني لا يكاد يخلو الحفل من مسرحية اجتماعية وسياسية هادفة بقالب كوميدي تجذب الكثير من الشرائح وفي مقدمتهم الأطفال. وتتناول مسرحيات الأفراح قضايا مثل: الحصار، والقصف، والاعتقال، وغلاء المهور. مسئولية أخلاقية "أبو غالب" رأى أن ما يميز أفراح فلسطين الإسلامية أنها "تنبع بالحس الوطني"، وتابع: "الشعب الفلسطيني يعيش حياة رباط وجهاد ومقاومة، فكيف سأحتفل بابني على وقع أغاني هابطة وجاري شهيد وشقيقي أسير وقريبي جريح؟! سأشعر بالخجل وبعدم الانتماء إن لم يكن الزفاف إسلاميا.. إنها مسئولية أخلاقية". "محمد السوافيري" منشد فرقة "الفوارس الفنية" أكد أن "الأفراح الإسلامية" انتشرت وبصورة لافتة في غزة، وأضاف: "بيئتنا تشجع على نموها؛ حيث لا يمكن لوطنٍ جريح يلفه الوجع أن يرقص على أنغام الأغاني الهابطة.. إلى جانب أن الصحوة الإسلامية ساهمت في إعلاء رصيد هذا اللون". ومن خلال رحلة إنشاده وإقامته لحفلات الزفاف الإسلامية شدد السوافيري على أن كثيرًا من غير الملتزمين باتوا يتهافتون لطلب هذا اللون: "الكثير يظن أن أصحاب هذه الأفراح من المنتمين للتيار الإسلامي وهذا غير صحيح؛ ففرقتنا أحيت العديد من الحفلات لأناسٍ ليسوا على درجة عالية من الالتزام". وعن السبب رد قائلا: "هناك من كان يعتقد أن الأناشيد الإسلامية "دروشة" لا أكثر.. وكلمات بلا معنى.. ولكن لأن الفن الإسلامي تطور وتقدم في أدائه وتأثيره، وبهر الجماهير بقوة اللحن والكلمة والأداء؛ فقد تغيرت اتجاهات تفكير الناس، واندفعوا بقوة نحو إقامة الأفراح الإسلامية". ولا يكاد يمر يوم صيفي إلا ويقوم المنشد السوافيري بإحياء حفلة إسلامية بمعية فرقته: "واحد يفوز بالحجز من بين عشرة يطلبون ذلك". ولفت إلى أن تكلفة الحفل الإسلامي مقارنة بالغنائي متواضعة فالأولى ب"300 دولار" والثانية تتكلف "900 دولار". وفي حفلات زفاف فلسطين تنهمر على أسماع الحاضرين الألحان الشجية الدافئة، ومن أشهرها أناشيد ألبوم "نورت يا عمري" للمنشد أبو راتب ولا يكاد فرح يخلو من "بالحب جينا وهنينا" و"طلوا الغوالي" للمنشد السوري "موسى مصطفى"، إلى جانب الأناشيد التراثية والجهادية، كما لا يتم الاستغناء عن اللون الخليجي.