تونس قفصة: بقدر ما أثلجت الانجازات البطولية للمقاومة اللبنانية وما حققته المقاومة الباسلة من انتصارات باهرة وخالدة على العدوّ الاسرائيلي وآخرها تحرير الأسرى واسترجاع رُفات شهدائها من اللبنانيين والفلسطينيين والعرب صدور كل أحرار الأمة بقدر ما أحيت العملية الأخيرة في نفوس جميع أفراد عائلة الشهيد البطل التونسي عمران كيلاني المقدمي الأمل في استرجاع رفات ابنها. «الشروق» اتصلت بعائلة الشهيد وأجرت معها الحوار التالي: السيدة خالصة والدة الشهيد عمران حدثتنا بفخر واعتزاز بما أنجزه ابنها البطل وبما ساهم به ودفعه ثمنا في سبيل تحرير فلسطين ولكنها كانت تخفي لوعة ولهفة أم عظم وكبر شوقها إلى استلام رفات ابنها الشهيد وموارتها التراب إلى جانب رفات شهداء تونس الأبرار بقفصة. تقول السيدة خالصة متحدثة عن ابنها: «لقد تعلّق بالحرّية منذ نعومة أظافره وزاده تعلّقا بها ما حدثه به والده المناضل المرحوم كيلاني عن مساهماته في حركة تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي فتشبع بمبادئ التحرير والنضال عن وطنه الأكبر أينما كان الجزء المحتل من الوطن العربي. وبذلك أعدّ العدّة للاستشهاد في سبيل فلسطين دون أن يكشف عن ذلك إلا لبعض المقربين من أصدقائه وبعد أن أتم الدراسة الثانوية بمدينة قفصة بإحرازه على ديبلوم في التركيب والصيانة الميكانيكية اشتغل بإحدى المؤسسات بالجهة وادخر خلال الفترة التي قضاها في العمل مبلغا من المال. وبعد أن أدى الواجب الوطني أصرّ على السفر إلى سوريا بتعلة ظاهرها مواصلة الدراسة وباطنها في الواقع الشهادة ضمن الشهداء الأحرار والبواسل. ولم يمض وقت طويل على سفره إلى سوريا وكان ذلك في سنة 1984 حتى أحرز شهادة الباكالوريا ثم التحق بالجامعة السورية ودرس علم النفس لمدّة عامين وانخرط بعد ذلك في العمل المسلح ضمن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وشارك في بعض العمليات الفدائية ضد العدو الاسرائيلي كلّلت بالنجاح وكان يعود بعد كل عملية الى موقعه سالما». * 3 شهداء وتضيف الأم: «إثر اغتيال المناضل الكبير الشهيد أبو جهاد بتونس يوم 16 أفريل 1988 قاد ابني الشهيد عمران مجموعة من الفدائيين في عملية ثأرية لاغتيال أبي جهاد أطلق عليها اسم «أبو جهاد» وذلك بعد مرور عشرة أيام فقط من اغتيال هذا القيادي الفلسطيني واقتحمت المجموعة موقعا عسكريا اسرائيليا بمنطقة اصبع الجليل شمال فلسطين بين مستعمرتي «دان» و»شيرباشوف» وأبلت هذه المجموعة الفدائية المتركبة من سبعة أفراد البلاء الحسن إذ احتلت موقعا عسكريا للعدو وكبّدته خسائر مادية هامة كما تمكنت خلال العملية من قتل سبعة عناصر من جيش العدو من ضمنهم ضابطان أحدهما برتبة عقيد وذلك بالاضافة الى جرح 15 آخرين وأسر جنديين اسرائيليين واستمرالاشتباك حوالي 12 ساعة. وبحكم التعزيزات العسكرية الاسرائيلية التي وصلت الى الموقع وشدّة القصف بالطائرات استشهد ابني عمران المكنى بأبي خالد مع رفيقين له هما محمّد حمد داود (أبو زرد) ونضال حسن (أبو عمير) بينما تمكّن رفاقهم الأربعة من الانسحاب والعودة الى مواقعهم بلبنان. وهنا تقول والدة الشهيد البطل إن كل هذه المعلومات قدمها لها رئيس الكتيبة الفدائية (أبو يوسف) عندما شارك في أربعينية ابنها بتونس. وتصمت الأم ثم تتابع قائلة: «بعد مرور عشرين عاما من استشهاد ابني رحمه الله مازلت انتظر عودة رفاته ليرقد هنا في تراب الوطن ولا أخفيكم أنني سئمت الوعود الكثيرة التي أعطيت لي دون أن تنفذ وأنا أرجو بل أطلب من كل أحرار لبنان وفلسطين أن يحققوا أمنيتي فيساعدونني على جلب الرفات قبل أن يتوفاني الأجل المحتوم». تصمت مرة أخرى ثم تضيف ملاحظة أنها قد رأت ابنها منذ أشهر في المنام وكان واقفا بالنهج القريب من منزلها وهو يحمل اسمه (نهج الشهيد عمران المقدمي) وكان يرتدي بزة عسكرية فأسرعت الخطى نحوه لمصافحته لكنه توارى عن أنظارها. وفسّرت ذلك بعدم تطبيق الوصيّة التي تركها قبل استشهاده والتي أوصاها فيها بألا تحزن وأن تنثر الورود في كل مكان من دروب مسقط رأسه، وقد وعدت روحه إثر هذه الرؤية بتطبيق الوصية وهذا ما بدا واضحا حين حدثتنا بقلب أم للشهيد دون أن تذرف أي دمعة وباعتزاز وفخر كبيرين. * أين المساندة ؟ وفي الأثناء تدخل شقيقه رشيد وبارك في البداية مواقف كل من آزرهم وساندهم في السنوات الثلاثة عشرة الأولى من استشهاد شقيقه (من سنة 1988 إلى سنة 2001) واحياء ذكراه كل سنة من خلال إقامة تظاهرات ثقافية شارك فيها العديد من الشعراء العرب والفلسطينيينوالتونسيين وعدة رموز وطنية وفلسطينية لكنه استغرب واستنكر انقطاع المؤازرة والتوقف عن إحياء الذكرى منذ سنة 2001 وأضاف رشيد مبينا أن رفات شقيقه نقلت منذ مدة الى لبنان وكان ذلك في عملية سابقة من عمليات تبادل الأسرى بين المقاومة اللبنانية وإسرائيل وناشد جميع المنظمات الانسانية والتحرّرية بالعمل على تحقيق رغبة العائلة في جلب الرفات ليدفن في مسقط رأس الشهيد البطل وليكون رمزا من رموز الحرية والنضال والتضحية بالنفس من أجل قضية العرب الأولى، القضية الفلسطينية. أما شقيقته سميّة فقد أفاضت في الحديث «لقد كان شقيقي عمران بن الكيلاني المقدّمي عّف القلب.. عفّ اللسان، عفّ الضمير، ولقد أوتي نعمة التوفيق والقبول، ولقد سافر الى سوريا للدراسة وهو يعتقد أن الدفاع عن فلسطين قصدا وعدلا، ولم يعد يبصر شيئا سواه! ومن هناك انخرط في سلك المقاومة الفلسطينية وبسط يمينه كأنه يطلب الموت في سبيل عروس العروبة... وكان مقداما.. ودائما في المقدمة أوليس لقبه «المقدمي»؟ وفي يوم 16 أفريل 1988 استشهد في عملية فدائية بإصبع الجليل شمالي فلسطينالمحتلة ردّا على اغتيال «أبو جهاد» ولقد كانت والدتي «خالصة» تشاهد التلفزة يومها، ولم تكن تشاهد التلفزة من قبل، ولقد أحسّت قلبها ينقبض، وأحسّت إحساسا خاصا وغريبا على أرواح وأشلاء من قاموا بالعملية، وقالت مساكين، ودعت لهم بالرحمة، ولم تكن تعرف المسكينة أن ابنها عمران المقدمي، كان من ضمن الشهداء الذين سقطوا في تلك العملية الجريئة التي شهدت وقائعها عبر شاشة التلفزة. ولقد سمعنا بالخبر لاحقا، ولقد سمعت أمي بالخبر بصبر وثبات ثم شعرت بالفخر عندما علمت أن ابنها كان يؤدّي واجبا مقدّسا، وهي إلى حدّ الآن تنتظر عودة رفاته الى أرض الوطن وكأنها تقول وعلى رأي الشاعر: أحبّ أرضي وأرض الطهر تعشقني حبّا بحبّ وما في الحب من عجب متى سرى الخوف مرّا ها أنذا إليك روحا بغير الموت لم تطب. الشروق * منذر الجبلوطي