تمر الذكرى الثالثة للانقلاب الذي أطاح بالرئيس الموريتاني الأسبق "معاوية ولد الطايع" والبلد يعيش أزمة سياسية تراوح مكانها بعد أن تجلت في أكثر من مشهد على مختلف الأصعدة. وكان آخر مشاهد هذه الأزمة رفض الحكومة لطلب ما بات يعرف "بنواب حجب الثقة" باستدعاء دورة برلمانية استثنائية، علما بأن عطلة البرلمان الموريتاني تستمر حتى شهر نوفمبر القادم. و"نواب حجب الثقة" هم مجموعة من أعضاء الجمعية الوطنية (الغرفة السفلى في البرلمان) ينتمون لحزب "عادل" الذي يرأسه الوزير الأول (يحي ولد أحمد الواقف) تقدموا بملتمس لحجب الثقة عن الحكومة الماضية، ما أدى إلى تقديمها لاستقالتها قبل شهر من الآن. النظم الداخلية أحيل الطلب الموقع من نحو خمسين نائبا (من أصل 95 في الجمعية الوطنية) من طرف النائب الثاني لرئيس هذه الغرفة، "كان حاميدو بابا" (من حزب تكتل القوى الديمقراطية المعارض) باسم رئيس الجمعية الوطنية "مسعود ولد بولخير". ذلك أن ولد بولخير، حليف الرئيس الموريتاني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، يوجد حاليا في إجازة خارج العاصمة نواكشوط. وجاء في طلب "نواب حجب الثقة" أن الغياب "غير المعهود للنصوص التي كان يجب أن تنظر فيها الجمعية الوطنية وتناقشها خلال الدورة العادية الماضية ليطرح بإلحاح ضرورة استدعاء دورة استثنائية للبرلمان". واقترح النواب الموقعون على الطلب جدول أعمال للدورة الاستثنائية يتكون من "دراسة ومناقشة النظم الداخلية للجمعية الوطنية" و"انتخاب أعضاء محكمة العدل السامية" و"دراسة ومناقشة المقترح القانوني المتعلق بحماية المستهلكين" و"تشكيل لجنة رقابية برلمانية يعهد إليها بالنظر في تسيير وتنفيذ برنامج التدخل الخاص" و"تشكيل لجنة برلمانية (من طرف مجلس الشيوخ) لتسليط الأضواء على تسيير وطرق تمويل هيئة ختو بنت البخاري الخيرية" (عقيلة الرئيس) و"تشكيل لجنة رقابة برلمانية (من طرف مجلس الشيوخ) للنظر في التسيير المالي والإداري لمجلس الشيوخ".
وبررت هذه المجموعة مبادرتها من الناحية القانونية بتطابقها مع "المهمة العامة المسندة للبرلمانيين في إطار الترتيبات الدستورية والتي تمنحهم صلاحيات واسعة في مجال تقصي المعلومات فيما يتعلق بتسيير الممتلكات العامة" وبالوعي بجسامة الرهانات التي يكتسيها بالنسبة للمواطنين "التسيير الحسن للمصالح والمؤسسات العمومية المستهدفة في هذا الطلب" وضرورة "إكمال دراسة بعض النصوص ومقترحات القرارات التي ما زالت معروضة أمام البرلمان ومناقشتها" والوعي "بالضرورة المزدوجة لاحترام رقابة برلمانية أكثر فعالية للحسابات الاجتماعية للأمة من جهة، واحترام جدول الأعمال المحدد بهدف برمجة أفضل لأعمال البرلمان من جهة أخرى".
رفض حكومي غير أن الحكومة لم تبطئ كثيرا في الرد على طلب الدعوة لدورة استثنائية للبرلمان، حيث أصدرت بيانا أكدت فيه أن المادتين 53 و9 من النظام الداخلي للجمعية الوطنية تنصان على أن رئيس هذه الغرفة هو الذي "ينقل بيانات الجمعية إلى رئيس الجمهورية وإلى الحكومة" وأن مساعدي رئيس الجمعية الوطنية يخلفونه في "حالة غيابه أو وجود مانع لمزاولته لمهامه وذلك حسب ترتيب انتخابهم، وتقتصر مهام مساعد الرئيس المدعو لخلافته على رئاسة المجلس وتمثيل الجمعية في المناسبات الرسمية". وخلصت الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان التي أصدرت البيان إلى أن "نائب الرئيس ليس مخولا بمخاطبة الحكومة باسم الجمعية الوطنية". وقام نواب "حجب الثقة" بإحالة الطلب من جديد إلى الحكومة عن طريق النائب الأول للجمعية الوطنية، "العربي ولد سيدي عالي"، المنتمي للأغلبية، لكن الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان رفضته من جديد، متحججة بنفس المبررات السابقة.
التهديد بالحل هذا التجاذب بين السلطة التنفيذية وجزء من السلطة التشريعية تجلى في مشاهد أخرى من بينها تلميح الرئيس الموريتاني إلى احتمال حله للبرلمان إذا حصلت لديه قناعة بأنه لم يعد يتوفر داخله على أغلبية تساعده على تنفيذ البرنامج الذي انتخبه الشعب على أساسه. وقال ولد الشيخ عبد الله في مقابلة مطولة مع قناة تلفزيون الجزيرة القطرية: "عندما أشعر أنه لم يعد هنالك مجال للتعاون لإنجاز هذا البرنامج فسوف نصل إلى ما تحدثنا عنه من قبل من حلول خاصة كحل الجمعية الوطنية أو أي حل آخر". هذا التهديد بحل البرلمان أثار العديد من ردود الفعل من بينها تعليق زعيم المعارضة الموريتانية "أحمد ولد داداه" الذي قال "إن حل البرلمان هو من الصلاحيات المقررة دستوريا لرئيس الجمهورية ولكن ينبغي أن لا يكون على خلفية قيامه بدوره الرقابي والتشريعي". وأضاف ولد داداه الذي كان يتحدث هو أيضا على شاشة الجزيرة أن "حجب الثقة والتحقيق في المخالفات القانونية هما من صلاحيات البرلمان بمقتضى الدستور ذاته". وتمنى زعيم المعارضة الذي يساند حزبه (17 نائبا) "نواب حجب الثقة" أن يقوم رئيس الدولة بدور تيسيري للهيئات الدستورية وأن يحرص فعلا على أن تؤدي هذه الهيئات دورها بشكل مطرد. من جانبه، اعترف النائب البرلماني "كابه ولد اعليوه" وهو وزير داخلية سابق وقيادي في مبادرات النواب المتذمرين بحق الرئيس في حل الجمعية الوطنية قبل أن يردف قائلا: "لكن لابد من وجود أسباب موضوعية تتطابق مع القانون والدستور، أما الحل من أجل الحل فهو نوع من التجاوز والتعطيل للمؤسسات الديمقراطية". وأضاف: "إذا أقدم الرئيس على حل البرلمان فلن نخالف القانون وسنتوجه إلى الميدان للمواجهة الانتخابية، وأعتقد أن التشكيلة القادمة، إذا لم تكن هي الحالية، ستكون أشد وأقرب لنهج البرلمان الحالي". وبدوره اتهم الناطق باسم "نواب حجم الثقة"، المحامي "سيدي محمد ولد محم" الرئيس الموريتاني "بتعطيل دور المجلس النيابي من خلال التعاطي مع الشائعات والتهديد المستمر بحله". وأكد ولد محم أن "النواب ماضون في توجههم السياسي بغية دفع عجلة الإصلاح في المجتمع الموريتاني".
عقيلة الرئيس المشهد الآخر الذي تجلت فيه الأزمة هو المنازلة الكلامية بين عدد من أعضاء مجلس الشيوخ وعقيلة الرئيس الموريتاني "ختو منت البخاري". هذه الأخيرة اتهمت مؤخرا مجموعة الشيوخ المذكورة "بالكذب والخديعة". وقالت منت البخاري في مدريد أثناء اجتماع للرئيس مع الجالية الموريتانية بأسبانيا إنها تأسف لكون "أمثال هؤلاء استطاعوا خديعة الشعب الموريتاني حتى انتخبهم وأصبحوا أعضاء في مجلس الشيوخ". وكان الشيوخ المعنيون قد طالبوا في وقت سابق بتشكيل لجنة برلمانية تحقق في الهيئة الخيرية التي تقودها عقيلة الرئيس، معلنين امتلاكهم لمعلومات تفيد بحصول هذه الهيئة على أموال من خزينة الدولة واستغلالها للنفوذ.
العسكر في الخلفية هذا هو الجانب المرئي من جبل الثلج، أما جانبه الخفي برأي بعض المحللين للشأن السياسي في موريتانيا فهو مواجهة بين رئيس الدولة وما أصبح يعرف محليا بالجنرالات، وهي إشارة إلى قائد القوات المسلحة الخاصة التي تضم الحرس الرئاسي وقائد القوات المسلحة الوطنية. ويجدر التذكير في هذا المقام بأن هذين الرجلين لعبا دورا محوريا في الإطاحة بولد الطايع وصنفا بعد ذلك على أنهما دعما بقوة ترشيح الرئيس الحالي في موريتانيا. ويرى هؤلاء المحللون أن "نواب حجب الثقة" هم في الواقع الواجهة السياسية للجنرالات. وهو طرح أعلنه صراحة بعض قادة الأحزاب السياسية من بينهم "محمد ولد مولود"، رئيس حزب "اتحاد قوى التقدم" المعارض سابقا والحليف حاليا لولد الشيخ عبد الله. حيث قال ولد مولود في مؤتمر صحفي في نواكشوط إن "تدخل هؤلاء الضباط في سير المؤسسات الجمهورية يعد خيانة لكل الالتزامات التي قطعوها علي أنفسهم عند انتهاء الفترة الانتقالية وهو السبب الرئيسي للأزمة السياسية المصطنعة والتي كان بإمكان البلاد تجاوزها". معروف ولد أداع نواكشوط موريتانيا