( رئيس الحزب القومي العربي في ال 48) فارقنا الشاعر الكبير محمود درويش دون استئذان ودون إشارة إلى هذا الرحيل الأبدي، وبرحيله فقد شعبنا الفلسطيني والأمة العربية والعالم أحد أبرز رموزه السياسية والثقافية..إذ ليس سهلا ملء الفراغ الذي تركه هذا الرجل والذي حلق في فضاء العالم نسرا يطاول السحاب .. حاملا قضية شعبه على جناحيه محطما جدران العزلة المفروضة على شعبنا مخترقا عواصم العالم واخزا الضمائر... انه السحابة التي أبت إلا أن تمطرنا في كل يوم وفي كل مناسبة اناشيدا صارت مغناة لشعبنا وشعوب العالم . رجل عانى وقاسى في طفولته وهو الذي تفتحت عيناه على المأساة الفلسطينية وأفاق ذات صباح ليجد نفسه بين آلاف المهجرين المشردين وليجد بلدته كومة من الركام فارتسمت في قلبه الكبير كأنشودة التحدي وعلى جبينه كراية الصمود والعنفوان . طاف العالم بأبجدياته وقوافيه .. وعندما كان الأمر يتطلب التصدي والتحدي كانت قوافيه قنابل تدافع عن أجزاء الوطن المستباح.. وعندما كان الأمر يتطلب التذكير كانت قصائده قبضة تقرع أبواب العالم..كيف لا وهو الذي وقف شامخا بوجه جلاديه داخل فلسطين ممتشقا قوافي الانتماء صارخا بوجههم (( سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون إلفا )) فانتماء درويش ليس رقما أو معادلة بل هو انتماء للصخر والحجر ..للهواء والشجر للحقول ولفقراء لفحت وجوههم شمس بساتين الجليل .. فما أعظمه من انتماء (( انتمي لسمائي الأولى وللفقراء في كل الأزقة ينشدون صامدون وصامدون وصامدون )). *** محمود درويش ذالك الفارس الذي انتصر في الموت كما انتصر في الحياة والذي دحر أعداءه هنا في وطننا ... صخب قصائده أقلقهم عندما تفجرت الانتفاضة الأولى وخاطبهم متحديا (اخرجوا من برنا من بحرنا من هوائنا من أرضنا ) فأثارت أناشيده عاصفة وزوبعة في الكنيست الاسرائلي حتى وصلت حدود التهديد . لم يأبه لتهديداتهم وتابع مشواره على وقع حجارة الانتفاضه وعلى شجن البكاء والصراخ الخارج من عمق المخيم... كان ينسج ملاحمه الشعرية ويُخضِع القصيدة وقوافيها كيفما شاء مضيفا الى سجل ماساتنا توقيعا جديدا ولسان حاله يقول نعم سننتصر .سينتصر الكف على المحرز .. سينتصر الجرح على السكين . محمود درويش ضمير الأمة وحارس حلمها وراعي مشروعها .. مشروع التصدي للأعداء وكنس الاحتلال.. مشروع النهوض العربي في زمن الكبوات وزمن الردة .. مشروع الحياة الكريمة .. مشروع النهوض القومي والاستنهاض بعد أن اندحرت كل المشاريع الغربية الهادفة إلى الدوس على كرامة الأمة العربية . اليوم نودع فارسا من فرسان شعبنا وننثر قصائده ورودا على امتنا العربية ورايات خفاقة تطاول السحاب .. في فلسطين الجريح والعراق الذبيح ... في مصر الأبية والأردن الشامخ .. في تونس الخضراء .. اليوم ننثر قصائده على شعوبنا العربية من المحيط إلى الخليج .. اليوم نحمل رايات درويش الذي جمع بين الشعر والبندقية واختزل المسافة بين الرحيل والعودة بين الغربة والوطن. أخي محمود لماذا هذا الرحيل المبكر في قيض الخلاف الفلسطيني المستَعر ؟! وأنت الذي ناديت دائما بإنهاء الصراع على شكل يليق بتضحيات شعبنا وطهارة قضيته .. وأنت الذي رهنت حياتك وأفنيت عمرك من اجل أن تبقى القضية قضية وجدان وقضية شعب موحد وأمة واحدة ..لا قضية فصيل أو رجل أو قائد ،لأن قضيتنا بشموليتها السياسية والإنسانية لم تكن قضية محصورة بفصيل أو قائد .. انها قضية الإنسانية جمعاء .. قضية العرب وقضية أحرار العالم.. اعلم انه سيؤلمك كثيرا التمزق الحاصل على ساحتنا الفلسطينية وستبقى أخي تتألم كما تألمت في الحياة ! ستبقى تنادي وتحث شعبنا على التوحد .. تحث امتنا على التمرد .. كيف لا وأنت الذي أنشدت الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج وأنت الذي حملت صرخة المضطهدين وطفت بها في أرجاء العالم.. قصائدك كانت وما زالت أمل الغريب وضوء المنارة التي ستهدي كل أحرار العالم إلى طريق التحرر من الاحتلالات الجديدة والمتجددة .. فنم قرير العين أخي محمود .. كل الأجيال القادمة ستحمل رايتك وتنشد شعرك الذي كان السلاح الأقوى في المعركة... كل الشعوب المضطهدة ستذكرك وتذكر رؤيتك وقصائدك التي صارت قنابلا موقوته بوجه أعداء الحق والإنسانية ... شعبنا سيرفع رايتك الخفاقة على كل تلة وجبل في بلادي .. سيحفظ وصيتك الباقية كاشجار الزيتون في "البروة" .. فنم قرير العين اخي محمود سنحاصر الحصار ونحاصر الظلم والقهر القومي ...قسما أخي محمود سنتمسك بأبجدياتك الأولى ونبقى نردد بوجوههم (سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألفا ).
*كاتب المقال عضو كنيست سابق ورئيس (الحزب القومي العربي) في فلسطين أل 48 المصدربريدالفجرنيوز: [email protected]