مقالة "نهاية الكوزموبوليتية الديمقراطية في الشرق الأوسط" التي نشرتها الجزيرة نت لكاتبها عماد فوزي شعيبي تلخيص لكل الأفكار المعادية لمشروع غرس الديمقراطية في وطننا العربي مشرقا ومغربا، تضاف إليها سخرية خفيفة من "هزال مطلبية" "عتاة مثقفي الديمقراطية" وهم في أحسن الأحوال "من المثقفين السذج" وفي أسوئها متواطئون مع مشروع تشظية دولنا العزيزة. ثلاث ملاحظات يتقدم بها واحد من "عتاة مثقفاتية الديمقراطية" إلى مثقف عربي غير ساذج. الملاحظة الأولى أنه إذا كانت الديمقراطية فعلا نتاج الحضارة الغربية وصيرورتها التاريخية ومن ثم هي ظاهرة تمتاز بها لأنها من صلب ثقافتها، لا تزرع ولا تنمو إلا في هذه الثقافة، فكيف يفسر أن الغرب الأوروبي أنتج أكبر وأبشع دكتاتوريات العصر، أي الفاشية والنازية وحتى الستالينية، لأن الروس شاؤوا أم أبوا جزء من الغرب منذ عهد بطرس الكبير. ثم كيف يفسر أن الديمقراطية انتصبت في الهند منذ أكثر من نصف قرن وثبتت فيها، بل أفشلت كل المحاولات للانقضاض عليها ومن أخطرها تلك التي قادتها أنديرا غاندي في السبعينيات وكلفتها حياتها. "إنه حقا لأمر مضحك أن نضع من جهة الديمقراطية وفي المقابل الوطنية، والحال أن كل الأمة أصبحت واعية أن العدو الأول والأكبر للوطن والمواطن ليس الاستعمار والصهيونية والإمبريالية وإنما أنظمة الاحتلال الداخلي"
هل لأن الثقافة والصيرورة التاريخية في الهند نفسها في الغرب المسيحي؟ وبالمناسبة يجب التذكير بأن الهند بمليار ساكن تزن مرة ونصفا كل الغرب بجزءيه الأميركي والأوروبي، ولا أتحدث عن أميركا الجنوبية وجنوب أفريقيا، ومن ثم الدعوة لتعديل ساعة مفكرينا غير السذج وانتباههم أن الديمقراطية، كانت، لكنها لم تعد شأنا غربيا. والملاحظة الثانية هي ما جدية وما قيمة خطاب صقور المحافظين الأميركيين بخصوص فرض الديمقراطية علينا الذي استشهد به الكاتب كثيرا للتدليل على خطورة المؤامرة التي تتعرض لها أمتنا؟ إنه حقا لأمر مضحك أن نضع من جهة الديمقراطية وفي المقابل الوطنية، والحال أن كل الأمة أصبحت واعية أن العدو الأول والأكبر للوطن والمواطن ليس الاستعمار والصهيونية والإمبريالية وإنما أنظمة الاحتلال الداخلي. كيف نستشهد بآراء تقابلها آراء في مجتمع حرّ، ونتجاهل سياسيات فظة ميكيافيلية كلها داعمة للاستبداد العربي؟ وعوض التركيز على مؤامرة وهمية لدمقرطتنا بالقوة، يجب الانتباه للظاهرة السياسية الموضوعية الوحيدة وهي أن الحكومات الغربية منذ نهاية الحرب العالمية تحمي وتؤيد كل الدكتاتوريات العربية شريطة أن تنساق في برنامج هيمنتها. وأمثلة على ذلك بلدان الخليج، وعراق صدام، وجنرالات الجزائر، والنظام البوليسي في تونس، دون نسيان القذافي الذي غسلت كل ذنوبه، لا لأنه تاب عن الاستبداد، لكن لأنه تاب عن "الإرهاب". أضف لهذا خوفها المتعاظم من انتخابات حرة يمكن أن تأتي بنظم إسلامية. ما يعتقده بقوة عتاة المثقفين والسذج الديمقراطيون العرب أمثالي أنه إن وجدت الديمقراطية يوما طريقها لبلداننا فلن يكون ذلك بالتعاون مع سياسات الدول الغربية وإنما ضدها. أما الملاحظة الثالثة فهي أن خشية المثقفين غير السذج من تشظي أوطاننا وتمزقها وعودتها لما قبل الحقبة الوطنية أمر شرعي، لكن من أوصلنا لهذه الحالة: الديمقراطية أم الاستبداد؟ ثم ما الحل لنحافظ على القليل المتبقي من تماسكنا؟ أن نصرخ وداوني بالتي هي الداء، وأن نزداد تعلقا باستبدادنا الوطني ومكوناته المعروفة –التعذيب الوطني والفساد الوطني والتوريث الوطني.. إلخ- أم علينا أن نجد مخرجا من الوضع الذي أوصلنا له الاستبداد؟ وآنذاك ما هو؟ أي بديل تقترحون؟ صراحة، يجب أن يرفع المثقفون غير السذج من مستوى عدائهم للديمقراطية وها أنا أدلّهم على "عيب" رئيسي فيها، كان من الأحسن التركيز عليه. "خشية المثقفين غير السذج من تشظي أوطاننا وتمزقها وعودتها لما قبل الحقبة الوطنية أمر شرعي، لكن من أوصلنا لهذه الحالة: الديمقراطية أم الاستبداد؟"
"العيب" أو النقص الهيكلي هو الذي نستشفه من خلال تطور المؤشرات التي تقيس في أقوى دولة ديمقراطية انعدام المساواة من الناحية الاقتصادية مثل مؤشر جيني وهو بصدد التراجع. ففي سنة 1947 كان 20% من الأميركيين يتقاضون 43% من المداخيل السنوية، وفي سنة 2006 أصبح نفس ال20% يتقاسمون 50.5% أي أن الأثرياء زادوا ثراء. المثير في الأرقام ما يختفي وراءها. ففي الفترة الفاصلة بين التاريخين حصل تغيير كبير هو توسع الحقوق المدنية والسياسية للجميع وخاصة للأقليات وعلى رأسها السود. كأن توسيع رقعة المساواة السياسية وارتفاع درجة ممارسة الحريات الأساسية لم يؤد إلا لتنويع النخبة. كأن كل الانتصارات الديمقراطية التي تحققت في الولاياتالمتحدة قرابة نصف قرن لم تفعل سوى فتح باب هذه النخبة للسود والنساء والأميركيين من أصول إسبانية. أما الفقراء البيض فقد بقوا على فقرهم بل تزايد عددهم وكذلك الأمر مع الفقراء السود. في الواقع شيء كهذا غير مستغرب. خذ الهند التي اعتمدت الديمقراطية منذ نشأة دولتها الحديثة. لقد بقي فيها الفقر مستشريا إلى اليوم، في حين يتراجع في الصين الاستبدادية. ثمة قانون يمكن سنه دون خوف كبير من الاستثناءات: الديمقراطية لا تلعب دورا حتميا في تفعيل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للأغلبية الفقيرة في أي مجتمع، ولا تحقق العدالة الاجتماعية ولا تقلص الفوارق بين الطبقات. هذا ما رأيناه على امتداد نصف قرن في الهند، ومن أكثر من قرنين في بريطانيا أو أميركا، حيث لا يتوفر إلى اليوم أربعون مليون فقير على الحيطة الاجتماعية ويمكن أن ينتهوا في الشارع بين عشية وضحاها.. بالرغم من كل الانتخابات الحرة والنزيهة. هل يعني هذا أن علينا رمي الديمقراطية في سلة المهملات كما يفعل المثقفون غير السذج، خاصة في عصر عاد فيه شبح المجاعات وأصبحت القضايا الاجتماعية هي الشغل الشاغل للأغلبية في بلداننا وبقية بلدان العالم؟ ربما يجب قبل المسارعة للأمر التذكير ببعض البديهيات ومنها أن النقيض أي الاستبداد، خاصة عندما لبس ثوب الاشتراكية العلمية، لم ينجح لا في محو الفقر ولا في تقليص الهوة بين الفقراء والأغنياء، بل أنتج ولا يزال طبقة حاكمة تجمع بين الفساد المالي والوحشية القمعية. أما تجربة الصين الحالية فيجب على المنوهين بها أن ينظروا لما خلف الستار أي التوسع المخيف للهوة بين الأغنياء والثلاثمائة مليون عاطل ومشرد الذين يشكلون قنبلة موقوتة في بلد النمو السنوي برقمين. بطبيعة الحال يمكن هنا العودة للمساجلة الأيديولوجية المبتذلة وكل فريق يرمي الآخر بالحجج التي لا يأتيها الباطل من أمامها ومن خلفها وكل واحد يريد التدليل على صحة خياره وفشل الخيار الآخر. إنها طريقة عقيمة في النقاش لا تنفع إلا في توتير الأعصاب ولا تقدم شيئا لفهم ما نواجهه. "المطلوب التقدم بتقييم صحيح للديمقراطية أو لأي منظومة فكرية نعتمدها كمفتاح للفهم ومشروع للعمل" المطلوب التقدم بتقييم صحيح للديمقراطية أو لأي منظومة فكرية نعتمدها كمفتاح للفهم ومشروع للعمل. نعم هي على تعلق الديمقراطيين بها، بداهة الديمقراطية نظام غير قادر على تحقيق العدالة الاجتماعية، بل من الممكن أن تكون في بعض جوانبها أداة لتوسيع الفوارق لأنها تضمن توسيع النخب وتقويتها وتضع بين يديها كل وسائل التأثير الفعال على العقول والقلوب. السؤال هنا هل هذه مهمة الديمقراطية؟ والردّ في تفحص القيم التي تخدمها والتي تسعى لترسيخها. بالتمعن فيها نكتشف أنها تحوم كلها حول الحرية متمثلة في الحريات الفردية والحريات العامة والمساواة أمام القضاء وأمام صندوق الاقتراع. المشكلة أن المجتمعات لا تعيش بقيمة واحدة على أهميتها، وهي بحاجة إلى قيم أخرى تلبي حاجيات أخرى للإنسان ومن أهمها العدالة. ما لا نفهمه عادة أن المجتمعات تتباين في جملة من المعطيات وأساسا في ترتيبها لسلم القيم. نحن العرب والمسلمين نضع منذ بداية نهضتنا الأولى، أي عند بروز الإسلام، العدل كأول قيمة. أما الغرب فقد اختار الحرية. لكن كما لا بدّ للغرب من كمّ من العدل مع الحرية، لا بد لنا نحن العرب من كمّ من الحرية بجانب العدل. هذه المعادلة هي التي فشلنا فيها لحد الآن. فالاستبداد ولو كان إسلاميا لم يحقق يوما العدل لغياب حرية هي صمام الأمان ضد كل تجاوزات الحاكم الفاسد وبطانته. وفي المقابل لم ينجح الغرب في إحلال العدل بجانب الحرية التي وفرتها له الديمقراطية. معنى هذا أن عتاة الديمقراطية السذج أمثالي يعرفون حدود النظام الذي يدعون إليه لكنهم يعرفون أن الحرية بكل إيجابيتها السياسية هي أيضا شرط ضروري وإن كان غير كاف للعدل. لذلك إذا أردنا لبرنامج الاستقلال الثاني أن يتحقق فلا بد أن نجعله يمشي على رجلين الديمقراطية وهدفها تنمية الحريات والحفاظ عليها.. وشكل جديد من الاشتراكية هدفها تنمية العدالة والحفاظ عليها. وعندما يتحقق هذا فلا خوف على أوطان أنهكها وأذلها غياب العدل وغياب الحرية. المشكلة الكبرى للفكر العربي المعاصر في شقه السياسي أو الديني ليست السذاجة والسطحية وإنما التبعية.. التبعية لماض مخيل توضع فيه كل حلول مشاكل الحاضر والمستقبل.. التبعية البارحة للتجربة السياسية للروس واليوم للغربيين. "المطلوب من كل من يريد الفهم -لا السيطرة على الآخر بالعنف أو بالخديعة أو بالبلاغة- هو التعامل مع القيم كما لو كانت جلده ومع أفكاره كما لو كانت ثيابه الداخلية"
كأننا دوما تلامذة أمام مربين. نحن لا نفهم أننا أمام تجارب تاريخية جبارة يجب تقييمها موضوعيا بعيدا عن الرفض غير المشروط والقبول التام، أن علينا تشريحها لتقول لنا ما الإيجابيات وما السلبيات، ماذا حققت وماذا أخفقت وما حدودها وكيف وقع الاستيلاء عليها وتفويضها وإفراغها من أهدافها الأصلية. وما الذي تعلمنا لنبتكر نحن الجديد في التحليل والممارسة. ويوم نخرج داخل أدمغتنا من هذه التبعية الطفولية سنبدأ فعلا الخروج من التخلف الفكري الذي ما زلنا اليوم ندور في حلقاته المفرغة. المطلوب من كل من يريد الفهم، لا السيطرة على الآخر بالعنف أو بالخديعة أو بالبلاغة، هو التعامل مع القيم كما لو كانت جلده ومع أفكاره كما لو كانت ثيابه الداخلية. _________ كاتب تونسي