مجلس نواب الشعب : جلسة عامة غدا الثلاثاء للنظر في اتفاق قرض بين تونس والبنك الإفريقي للتنمية    سعر "علّوش العيد" يصل 1800 دينار بهذه الولاية.. #خبر_عاجل    عاجل/ وزير اسرائيلي: نحن بصدد احتلال غزة وعلى الإسرائيليين تقبّل كلمة "الاحتلال"    الرابطة المحترفة الاولى : برنامج الجولة 29    سليانة: 2735 تلميذا وتلميذة من 22 مؤسسة تربوية يشرعون في إجراء اختبارات البكالوريا التجريبية    عاجل/ قتلى في اصطدام سيارة تونسية بشاحنة ليبية    عاجل/ حملة أمنية في سيدي حسين تُطيح بعناصر خطيرة مفتّش عنها    محمد رمضان يشعل جدلا على طائرته    تتمثل في أجهزة التنظير الداخلي.. تونس تتلقى هبة يابانية    تونس تتلقى هبة يابانية تتمثل في أجهزة التنظير الداخلي    رفض مطلب الإفراج عن النائب السابق وليد جلاد في قضية فساد مالي    الدورة الاولى لتظاهرة 'حروفية الخط العربي' من 09 الى 11 ماي بالقلعة الصغرى    الرّابطة الثانية : برنامج مباريات الدُفعة الثانية من الجّولة 23.    دوّار هيشر: السجن 5 سنوات لطفل شارك في جريمة قتل    تونس تحصد 30 ميدالية في بطولة إفريقيا للمصارعة بالدار البيضاء منها 6 ذهبيات    الهند توقف تدفَق المياه على نهر تشيناب.. وباكستان تتوعد    بداية من الغد: اضطراب وانقطاع توزيع المياه بهذه المناطق..#خبر_عاجل    المديرة العامة للمنظمة الدولية للهجرة في زيارة عمل إلى تونس بيومين    تصنيف لاعبات التنس المحترفات: انس جابر تتراجع الى المرتبة 36    وفد من هيئة الانتخابات في رومانيا لملاحظة الانتخابات الرئاسية    الإدارة العامة للأداءات تُحدد آجال إيداع التصاريح الشهرية والسنوية لشهر ماي 2025    قيس سعيّد يُجدّد دعم تونس لفلسطين ويدعو لوحدة الموقف العربي..    عاجل/شبهات تعرّض سجين للتعذيب ببنزرت: هيئة المحامين تُعلّق على بلاغ وزارة العدل وتكشف..    عاجل -فلكيا : موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك 2025    كل ما تحتاج معرفته عن ''كليماتيزور'' السيارة ونصائح الاستعمال    تقلبات جوية متواصلة على امتداد أسبوع...تفاصيل    مفتي السعودية يوجه رسالة هامة للحجاج قبل انطلاق الموسم بأيام    بطولة مدريد المفتوحة للتنس للأساتذة: النرويجي كاسبر رود يتوج باللقب    البطولة الفرنسية : ليل يتعادل مع مرسيليا 1-1    عاجل : دولة عربية تعلن عن حجب 80% من الحسابات الوهمية    محرز الغنوشي: حرارة صيفية الظهر وأمطار منتظرة    ترامب يأمر بفرض رسوم بنسبة 100% على الأفلام غير الأمريكية    الرحيلي: الأمطار الأخيرة أنقذت السدود... لكن المشاكل الهيكلية مستمرة    العثور على جثث 13 موظفا من منجم للذهب في بيرو    سوريا.. انفجار الوضع في السويداء مجددا.. اشتباكات وقصف ب"الهاون"    معرض تونس الدولي للكتاب: الناشرون العرب يشيدون بثقافة الجمهور التونسي رغم التحديات الاقتصادية    بوسالم.. فلاحون يطالبون بصيانة و فتح مركز تجميع الحبوب بمنطقة المرجى    بورصة تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث الأداء بنسبة 10.25 بالمائة    رئيس اتحاد الناشرين التونسيين.. إقبال محترم على معرض الكتاب    الرابطة الثانية (الجولة العاشرة إيابا)    معرض تونس الدولي للكتاب يوضّح بخصوص إلزام الناشرين غير التونسيين بإرجاع الكتب عبر المسالك الديوانية    بوشبكة.. حجز أجهزة إتصال متطورة لدى اجنبي اجتاز الحدود بطريقة غير قانونية    طقس الليلة.. أمطار رعدية بعدد من الجهات    ثنائية مبابي تقود ريال مدريد لمواصلة الضغط على برشلونة المتصدر بالفوز 3-2 على سيلتا فيغو    انتفاخ إصبع القدم الكبير...أسباب عديدة وبعضها خطير    هام/ بالأرقام..هذا عدد السيارات التي تم ترويجها في تونس خلال الثلاثي الأول من 2025..    الفول الأخضر: لن تتوقّع فوائده    رفع اكثر من 36 الف مخالفة اقتصادية الى أواخر افريل 2025    هام/ توفر أكثر من 90 ألف خروف لعيد الاضحى بهذه الولاية..    النفيضة: حجز كميات من العلف الفاسد وإصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن    الدورة الاولى لصالون المرضى يومي 16 و17 ماي بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة    سوسة: الإعلامي البخاري بن صالح في ذمة الله    لبلبة تكشف تفاصيل الحالة الصحية للفنان عادل إمام    صُدفة.. اكتشاف أثري خلال أشغال بناء مستشفى بهذه الجهة    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلوم الدينية والعلوم العقلية في الإسلام : هاشم صالح
نشر في الفجر نيوز يوم 01 - 09 - 2008


الحضارة العربية الإسلامية حضارة وسطي
هناك تفاسير كبري وضخمة لم يبتديء الباحثون المعاصرون بدراستها علمياً حتي الآن
علي علماء المسلمين بلورة منهجية نقدية لفصل الصحيح عن الزائف في الحديث الشريف
علم الناسخ والمنسوخ مهمته حل المشاكل الناشبة داخل نصوص القرآن أو الحديث
العبادات تصوغ الفرد أخلاقيا وتجعله قادراً علي ممارسة عمل دنيوي مفيد للجماعة أو الأمة
المعركة مع السلفية المتزمتة ستكون ضارية وتدوم عشرات السنين

يري محمد اركون ان بعض المستشرقين كانوا علي حق عندما وصفوا الحضارة العربية الاسلامية بانها حضارة وسطي او وسيطة او وسائطية.
فهذه الحضارة الممتدة منذ عهد الرشيد والمأمون وحتي سقوط بغداد علي يد هولاكو عام 1250 أي طيلة اربعة قرون كانت تمثل مرحلة وسطي من حيث الزمان والمكان. فمن حيث الزمان نلاحظ انها تتموضع بين فترة الحضارة اليونانية- الرومانية من جهة وفترة حضارة عصر النهضة الاوروبية من جهة اخري.
بل انها هي التي نقلت الفلسفة والعلم اليوناني الي الاوروبيين لكي ينهضوا ويصنعوا نهضتهم المقبلة. ولكنها لم تكن فقط مجرد ناقلة للعلم والفلسفة الي الآخرين وانما كانت ايضا صانعة لهما وخالقة لابداعها الفكري الخاص. وعباقرتها في جميع المجالات من الجاحظ الي المعري وابن خلدون مرورا بالتوحيدي والمتنبي وعشرات غيرهم اكبر شاهد علي ذلك.
ثم انها كانت وسطي من حيث المكان. فالعرب المسلمون شكلوا امبراطورية ايام عزهم تحتل منطقة شاسعة واسعة وتتوسط بين اوروبا وافريقيا السوداء من جهة ثم الهند والصين من جهة اخري. وهكذا شكلت صلة الوصل بين كل الحضارات السابقة شرقا وغربا. ثم انها كانت حضارة وسطي بالمعني الثقافي للكلمة. فهي تتموضع بين الثقافة الرومانية العلمانية الي حد كبير من جهة وبين الثقافة الاكليروسية لاوروبا المسيحية القروسطية من جهة اخري.
يضاف الي كل ذلك ان هذه الحضارة الجميلة عاشت علي يد الطبقة الوسطي التي ازدهرت بفضل الاقتصاد القائم علي المبادرة الحرة وتحت تأثير العلم الاغريقي الذي غزا كل جوانب المادة والروح في آن معا.
وهذا يعني ان الفكر كان جزءا من البنية الشاملة للمجتمع وليس معزولا عنها. فالطبقة الوسطي واقتصاد التجارة الحرة كانا هما المنشطان والداعمان لحياة الروح والفكر والادب والفن في بغداد العباسية او القاهرة الفاطمية او قرطبة الاندلسية او سواها من الحواضر العربية الاسلامية ..وعن هذه الحياة الروحية الغنية نتجت الاعمال الكبري التي لا يزال العرب المسلمون يفتخرون بها حتي الان. وهي تنقسم الي قسمين: العلوم الدينية او النقلية، والعلوم العقلية او الدخيلة. فلنحاول ان نفصل القول في كل منهما بقدر المستطاع..
أولا: العلوم الدينية
يقول اركون بما معناه: كنا قد تحدثنا عن البدايات الاولي لهذه العلوم التي سوف تثبّت في العصر العباسي نهائيا الاصول الذاتية والموضوعية للاسلام. والاصول الموضوعية ثلاثة هي: القرآن والسنة والاجماع. ويمكن القول هنا بان جميع المسلمين علي اختلاف فرقهم ومذاهبهم متفقون علي ضرورة تبرير كل حكم شرعي من خلال الاعتماد علي واحد من هذه الاصول علي الاقل. ولكن المسلمين مختلفون جدا بخصوص حجم النصوص المستخدمة وطريقة استخدامها او تفسيرها ولهذا السبب فان كل مذهب من المذاهب الاسلامية بلور كتبه المدرسية المتداولة من اجل الدفاع عن فتاواه الفقهية وحلوله للمشاكل المطروحة علي المسلمين.
اما فيما يخص العلوم المرتبطة بالقرآن فاننا نلاحظ ان علم القراءات كان عرضة لمناقشات صاخبة واحتجاجات خطيرة حتي القرن العاشر الميلادي او الرابع الهجري: أي حتي بعد اربعة قرون من غياب النبي محمد.
وبالتالي فلا ينبغي ان نعتقد ان القرآن فرض نفسه بسهولة علي كل المسلمين منذ لحظة النبي او بالاحري منذ جمع مصحف عثمان. فالاجماع عليه كان حصيلة تسوية أدت الي تبنيه في نهاية المطاف ولكن ليس بدون مخاضات عسيرة جدا وخلافات صاخبة. أيا يكن من أمر ولكيلا يفرط عقد الامة نهائيا فان الشيعة وبقية المذاهب المعارضة قبلوا بالامر الواقع وتبنوا المصحف العثماني وتخلوا علي مضض ولكن نهائيا عن مصحف علي وأبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود.
ثم تم الاتفاق علي سبع قراءات رسمية او شرعية. وقد تمت دراستها في كتب مخصصة لهذا الغرض ككتاب المصاحف لابي بكر السجستاني(م317/930)، والمحكم في نقط المصاحف للاندلسي ابو عمرو عثمان بن سعيد الداني(م.445/1053).
وبالطبع فان التفسير هو احد اهم العلوم القرآنية، سواء أكان تفسيرا حرفيا كلمة كلمة لسور القرآن وآياته، ام كان شرحا مطولا أي تأويلا بتصرف، ام الاثنين معا: أي تفسير- تأويل. وقد ظهرت تفاسير كبري وضخمة جدا ولم يبتديء الباحثون المعاصرون بدراستها علميا حتي الان الا بالكاد. والواقع انه اذا ما أردنا ان نعرف كيف حصلت عملية التجويق الروحي لكلام الله، تماما كما نقول التجويق الموسيقي، من قبل مختلف ممثلي الاسلام فانه لا بد من اقامة المقارعة بين التفاسير التالية:
التفاسير السنية كجامع البيان للطبري، وكمفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي
التفاسير المعتزلية كتفسير الكشاف للزمخشري
التفاسير الشيعية الامامية كمجمع البيان لابي علي الطبرسي
التفاسير الاسماعيلية كتفسير مزاج التسنيم لضياء الدين اسماعيل بن هبة الله
التفاسير الزيدية كتفسير فتح القدير للشوكاني
التفاسير الصوفية كذلك التفسير المنسوب الي ابن عربي
وأخيرا التفاسير الخارجية، والتفاسير الفلسفية، وتفاسير الفقهاء.
وقد حصل بالنسبة للحديث النبوي، الذي يمثل المصدر الموضوعي الثاني للاسلام، نفس التنافس بين فرق الامة المتنازعة من اجل التسابق علي جمعه وتدوينه وتعليم الصحيح منه فقط او ما يعتقدونه كذلك دون ان يخطر علي بالهم لحظة واحدة ان ما تعتبره هذه الفرقة من صحيح الحديث تعتبره الأخري مختلقا ومزورا او قل دون ان يطرح هذا الوضع عليهم أي مشكلة.
وهذه هي سمة العقل الاصولي الارثوذكسي المسجون داخل جدران عقائده فلا يري شيئا غيرها. فلو ان ما جمعوه كان صحيحا بالفعل لما كان هناك الا جمع واحد فقط لا ثلاثة جموعات او صحائح: الصحيح السني والصحيح الشيعي والصحيح الخارجي الاباضي. وبالتالي فالمؤرخ الحديث يشعر بوجود مشكلة حقيقية لا يشعر بوجودها المؤمن التقليدي او قل يقلل من اهميتها ويمررها تحت ستار من الصمت. وهنا تكمن استقالة العقل الديني او سذاجته او نزعته للتسليم والتواكل.
امام هذه التعددية من الاحاديث النبوية المختلفة لزم علي علماء المسلمين ان يبلوروا منهجية نقدية لفصل الصحيح عن الزائف وهي ما دعوه: بنقد الحديث وكتب الرجال. واعتقدوا بان هذه المنهجية كافية للتوصل الي الاحاديث الصحيحة.
وهذا العمل الضخم كان قد أنجز عمليا خلال قرن واحد: أي من منتصف القرن الثالث الهجري الي منتصف القرن الرابع. ولكن بدلا من ان يتوصلوا في ختام هذا العمل الهائل والمضني الي نفس الاحاديث الموضوعية المعترف بها من قبل جميع المسلمين بصفتها وحدها الصحيحة راحوا يتوصلون الي ثلاث مجموعات سنية وشيعية وخارجية تدعي كلها انها صحيحة!
هناك علم ديني آخر يدعي الناسخ والمنسوخ. ومهمته حل المشاكل الناشبة داخل نصوص القرآن او نصوص الحديث. فقد يحصل تناقض بين هذه السورة او تلك او هذه الآية او تلك، او بين مضمون هذا الحديث او ذاك. فما الحل؟
للجواب علي هذا السؤال نشأ علم الناسخ والمنسوخ الذي يفترض معرفة الآية التي نزلت قبل والآية التي نزلت بعد لكي يقول بان الثانية تنسخ الاولي. ولكننا نعلم حجم الصعوبات الهائلة فيما يخص هذه النقطة. ففي حالات كثيرة يستحيل معرفة ايهما السابق في النزول وايهما اللاحق..ومعلوم ان القرآن ليس مرتبا اطلاقا بحسب التسلسل المتدرج زمنيا للآيات والسور..
اما المصدر الموضوعي الثالث من مصادر الاسلام فيخص الاجماع. وقد نظّروا له كثيرا ولكن دون ان يحظي بتطبيقات عملية. انه يعبر عن اتجاه كامن لدي الاسلام كدين وكأمة نحو التحقيق الفعلي للوحدة وتجاوز الانشقاقات والخلافات التي عصفت بالمسلمين الاوائل. والمذهب السني يقدم نفسه دائما بصفته يمثل عقيدة الاجماع.
من هنا نتجت التسمية التالية: أهل السنة والجماعة. هذا من حيث التنظير والأمنيات. ولكم من حيث الواقع نلاحظ ان الناطقين الرسميين باسم المذهب السني لم يتفقوا ابدا علي حجم هذا الاجماع ومدي اتساعه. فبالنسبة للحنابلة والظاهريين فان الاجماع الصحيح ينحصر فقط بالصحابة والتابعين. اما بالنسبة للآخرين فيمكن ان يكون اوسع من ذلك بكثير. يمكن ان يشمل كل الفقهاء المؤهلين دينيا في عصر معين. هكذا نلاحظ انه لا يوجد تحديد واحد للاجماع او قل لا يوجد اجماع علي الاجماع!
اما بالنسبة للاصول الذاتية للاسلام فاننا نقصد بها المجريات التي يستخدمها الفقهاء من اجل استنباط الاحكام الشرعية من النصوص المقدسة. وعددها ثلاثة: الاستحسان والاستصلاح والقياس. المجريتان الاولي والثانية مستخدمتان بشكل خاص من قبل الحنفيين والمالكيين وهما تؤديان في نهاية المطاف الي الرأي.
وبالتالي فهما تغلّبان المعيار البشري علي المعيار الالهي، وهو الشيئ الذي يزعج الحنابلة كثيرا. ولهذا السبب فان الشافعي حدد القياس من اجل حصر الاختلافات وتحجيمها عن طريق ربط كل حكم شرعي بنص من القرآن او الحديث.
ثم يردف محمد اركون قائلا: ينبغي العلم بان كل هذه المناقشات التي دارت حول الاصول تختزل الي مفهومين اثنين: الاجتهاد- والتقليد. المقصود بالاجتهاد الجهد الشخصي الذي يبذله الفقيه من اجل البلورة العقائدية، وبالتقليد خضوعه العفوي المباشر لتعاليم شيخه او معلمه دون أي تفكير شخصي.
اخيرا فيما يخص الفقه والكلام ينبغي تصنيفهما داخل العلوم الدينية علي الرغم من انهما يستخدمان العقل الي حد كبير في بلورة اطروحاتهما او استنباط احكامهما. لماذا؟ لانهما يعلنان خضوعهما وعن طيبة خاطر الي هيبة النصوص المقدسة. وكلاهمانشأ وترعرع داخل الحدود المثبتة من قبل علم الاصول.
الفقه الذي يترجمون اسمه الي اللغة الفرنسية بالقانون الإسلامي وهي ترجمة غير كافية او غير دقيقة تماما يخص الفكر الديني ضمن مقياس انه يحدد التطبيقات العملية للفروع، أي فروع الاسلام. وكل كتب الفقه الكلاسيكية تربط بشكل لا ينفصم بين العبادات والمعاملات. وبالتالي فان الفصل بينهما يعني التراجع عن فهم المعني الحقيقي للفقه.
في الواقع ان العبادات تصوغ الفرد اخلاقيا وتجعله قادرا علي ممارسة عمل دنيوي مفيد للجماعة او للامة. وقد ألحت كتب الاخلاق الإسلامية كثيرا علي هذه الوظيفة الايجابية والعملية للعبادات.
انظر ما كتبه عن الموضوع العلماء الاكثر شهرة كابن حزم والماوردي والغزالي وابن تيمية وابن خلدون الخ..وهذا ما يجعل الآخرين يقولون بان الاسلام هو دين ودولة في آن معا، او دين ودنيا. وبذور هذا التوجه المزدوج للاسلام موجودة منذ البداية في القرآن.
ثم يردف اركون قائلا: وكما ان العباسيين الاوائل حبذوا تعاليم علماء أصول الدين وأصول الفقه من اجل توحيد الدين فان السلالات المحلية التي حلت محلهم لا حقا راحت تعتمد علي مذهب واحد من اجل فرض هيبتها وسلطتها. وبدءا من القرن الرابع الهجري راح مفهوم المذهب والامام المؤسس له يحل محل البحث الحر المنتعش عن طريق الاحتكاك بالحقائق الاجتماعية او السوسيولوجية.
وعندئذ اصبح الفقهاء الرسميون يميلون الي تطبيق التعاليم السابقة حرفيا الي درجة انهم أثاروا غضب بعض الشخصيات المتعطشة الي الحقيقة الدينية كالغزالي مثلا في كتابه المنقذ من الضلال وكابن رشد في كتابه مناهج الادلة في عقائد الملة.
هذا من جهة واما من جهة اخري فنلاحظ ان التنافس الذي جري بين الفقهاء من اجل نيل الاعتراف الرسمي للدولة بهم أدي الي تصفية بعض المذاهب وانتصار اخري. من بين المذاهب التي صفيت نذكر مذهب الاوزاعي والطبري وداؤود الظاهري.
وهذا الوضع مرتبط ايضا بترسيخ المصادر الموضوعية لكل مذهب ككتاب الأم للشافعي، وكتاب المسند لابن حنبل، وكتاب الموطأ لمالك بالنسبة للسنة. وهناك كتاب من لا يحضره الفقيه لابن بابويه بالنسبة للشيعة الامامية، وكتاب دعائم الاسلام وكذلك كتاب الاقتصار للقاضي النعمان بالنسبة للاسماعيليين الخ..
اما علم الكلام فهو في الاصل عبارة عن تساؤلات مطروحة علي كلام الله. وبالتالي فهو بشكل من الاشكال محاولة لايضاح الوحي وتفسيره. وبهذا المعني فهو يقابل علم اللاهوت في الغرب المسيحي. ولذلك نقول احيانا علم الكلام واحيانا اخري علم اللاهوت والمعني واحد في نهاية المطاف. فهو علم يخص التساؤل عن الله وكلام الله وصفات الله الخ..
والواقع ان علم الكلام اصبح بدءا من القرن الثالث مطبقا فقط علي تلك الادبيات النضالية الهجومية التي تدافع عن الاسلام ضد العقائد والاديان الأخري المنافسة. وبالتالي فهو كالفقه مستلهم من قبل الاسلام الارثوذكسي.
انه عبارة عن تبجيل دفاعي عن الاسلام. ففي مواجهة المخاطر التي تشكلها الفلسفة والتيارات الغنوصية أي الصوفية والباطنية علي الاسلام الارثوذكسي الرسمي المسيطر راحت تظهر عدة كتب للدفاع عنه. نذكر من بينها:
اولا : كتب العقائد والشهادات الايمانية التي تنص بطريقة دوغمائية قطعية علي العقائد التي اذا ما خرج عليها المسلم قيد شعرة اصبح هرطيقا او زنديقا. و تنص ايضا علي انه خارج هذه العقائد لا فوز ولا نجاة في الدار الآخرة. وبالتالي فهي كتب موجهة ضد ما يعتبرونه الزنادقة او أهل الأهواء كما كانوا يقولون..
ثانيا: الكتب التي تؤكد علي الفكرة السابقة وتفصّل فيها الحديث. وهي التي تقسم الاسلام الي قسمين: قسم الفرقة الناجية، وقسم الفرق الأخري الضالة بحسب تصنيفات الاسلام الرسمي المنتصر سياسيا. من بين هذه الكتب نذكر الكتب التي تتحدث عن مقالات الاسلاميين، او الملل والنحل، او الفرق..وكلها مكتوبة من وجهة نظر المذهب المسيطر والسلطة الرسمية التي تدعمه.
ثم هناك كتب الجدل الكلامية التي تهيمن عليها تلك المناقشة العنيفة المتعلقة بالمسائل اللاهوتية الكبري. وعددها ستة: اولا مسألة الله، وجوده وصفاته. ثانيا أفعاله تعالي: مسألة الجبر والقدر وهل الانسان مسير ام مخير. ثالثا مسألة النبوة. رابعا مسألة البعث والنشور والحياة الآخرة: او المعاد والوعد والوعيد. خامسا مسألة الاسماء والاحكام. سادسا واخيرا: مسألة الامامة.
حول كل مسألة من هذه المسائل نلاحظ ان لكل عائلة روحية او لكل فرقة اسلامية تعاليمها الخاصة. وهنا ينبغي ان نطبق نفس المنهجية التي طبقناها علي التفسير والفقه بمعني ينبغي ان نقيم المقارنة والمقارعة بين أجوبة كل الفرق التي دافعت عنها باسم الاسلام لكي نستطيع التمييز بين مضامينها اللاهوتية المحضة وبين وظائفها السياسية- الثقافية. بمعني آخر ينبغي ان نقارع بين آراء المذاهب التالية:
اولا: الاشعري والاشعرية. وقد تجسد هذا التيار في شخصيات فكرية كبري من أمثال الباقلاني(403/1013)، والبغدادي(429/1037)، والجويني(478/1085)، والغزالي(م.1111)، الخ..
ثانيا: الحنفية- الماتريدية. مع الماتريدي الذي توفي عام (334/945)
ثالثا: المعتزلة. وقد تلقت في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي صياغتها النهائية الرائعة علي يد القاضي عبد الجبار(415/1025). ولكن بما ان المعتزلة حوربوا واضطهدوا فان كتابه الشهير المغني ضاع لمدة الف سنة تقريبا حتي وجدوه في اليمن الزيدية في الخمسينات من القرن الماضي.
وكانت معجزة ان يجدوه بعد كل تلك الفترة الطويلة من الاختفاء. كانت معجزة ان ينجو من الاندثار النهائي كما حصل لعشرات الكتب التنويرية في تراثنا العظيم. انظر مثلا ضياع كتاب التوحيدي الشهير: الحج العقلي اذا ضاق الفضاء الي الحج الشرعي، وكذلك عشرات المخطوطات المعتزلية والفلسفية الأخري. كلها انقرضت الي الابد.. ومن عبارات القاضي عبد الجبار الشهيرة قوله: اشكال كبير ان يظن ان اعمال العقل يوصل الي الالحاد ولايوصل الي الايمان!
محمد اركون سمعته اكثر من مرة يتحسر علي ما فعله التراث الإسلامي بنفسه عندما بتر منه افضل اجزائه واكثرها حيوية واستنارة: أي كتب المعتزلة والفلاسفة والادباء الكبار والمفكرين الاحرار عموما.
وقد حصلت عملية البتر منذ الف سنة ولا تزال مستمرة حتي اليوم. لهذا السبب نقول بان المعركة مع السلفية المتزمتة والظلامية ستكون ضارية وستدوم عشرات السنوات. وذلك لانك لا تستطيع ان تناضل ضد الف سنة من الانغلاق الفكري والانحطاط الحضاري وتقضي علي آثارها السلبية المدمرة خلال عشرين او ثلاثين سنة فقط. وانما يلزمك اربعون او خمسون سنة وربما اكثر.
حقا انها معركة المعارك ، معركة القرن الواحد والعشرين علي مستوي العالم العربي والاسلامي بل وحتي علي مستوي العالم كله لان المسألة لم تعد تخصنا وحدنا بعد كل ما حصل منذ 11 سبتمبر وحتي اليوم. فهل يستيقظ العرب اخيرا؟
وهل يعيدون الي المعتزلة والفلاسفة اعتبارهم ام انهم سيظلون يلاحقونهم الي أبد الآبدين كما يفعل الشيخ سفر الحوالي؟ يخطيء من يظن ان المعركة بين التنويريين العرب والاصوليين العرب سوف تنتهي غدا او بعد غد. انها بالكاد ابتدأت.. وسوف تكون حامية الوطيس ولن تنجلي الا عن غالب ومغلوب. وهذه المرة سوف يدفع الاصوليون الثمن. وسوف يخسرون المعركة بدون أدني شك لان حركة التاريخ ضدهم ثم لان القوي العالمية دخلت في الساحة ايضا وليس فقط القوي المحلية..ولكن كم سيكون عدد ضحاياها؟ الله وحده يعلم..
بالاضافة الي كل ما سبق من مذاهب وتيارات اسلامية نذكر ايضا:
المذهب الحنبلي الذي لم ينتج اعمالا فكرية ضخمة علي عكس المعتزلة وانما اكتفي بتأليف كتب العقائد والشهادات الايمانية. ولكن لا ينبغي ان نستهين بها، أي بالحنبلية، فهي تشكل موجة عميقة داخل التاريخ العقائدي والاجتماعي للاسلام. والدليل علي ذلك هو ان معظم الحركات الاصولية والجهادية المتشددة الحالية بدءا من الاخوان المسلمين وانتهاء ببن لادن والقاعدة خرجت من رحمها.
وقد أسسها احمد بن حنبل(241/855) الذي عاني من المحنة الشهيرة في عهد المأمون ايام هيمنة المعتزلة القصيرة والعابرة علي التاريخ الإسلامي. وهي هيمنة سوف يدفعون ثمنها غاليا لاحقا. والمذهب الحنبلي يندرج ضمن خط أهل الحديث ويتميز برفضه الراديكالي لكل العلوم النظرية العقلانية بما فيها حتي علم الكلام وليس فقط الفلسفة. فهم يقولون بما معناه: الله تكلم عن نفسه وعن الانسان والعالم او الخلق في القرآن.
وبالتالي فلا داعي لتأويل كلامه وانما يكمن واجب المؤمن في اتباع المعني الظاهري الحرفي لكلام الله الأزلي غير المخلوق وكذلك اتباع التفسير الذي قدمه النبي فقط. وقد سار علي خط التشدد العقائدي هذا داؤود بن خلف( 270/ 884) مؤسس المذهب الظاهري. وينبغي ان نفهم هذا التشدد علي اساس انه جهد مبذول للتقليص من حجم الانقسامات داخل الامة الاسلامية.
ينبغي الا ننسي ان هذا التشدد يرتكز علي احساس حاد جدا بالتعالي الرباني ويجسد بذلك الموقف الديني الاكثر تماسكا. وهذا ما يفسر لنا سبب مهاجمة كتب الحنابلة العنيفة لكل المذاهب السنية والشيعية علي حد سواء ما عدا الصوفية.
ثم يردف محمد اركون قائلا: اما من الناحية الاجتماعية والسياسية فان الحركة الحنبلية كانت تتمتع باستمرار بدعم الجماهير الشعبية وانضمامها اليها بشكل عفوي ودون نقاش. فهي التي ألهمت في بغداد ابان القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي الصراع المسلح ضد الشيعة المهيمنين آنذاك في عهد البويهيين.
وهي التي تحاربهم اليوم من خلال الزرقاوي والقاعدة. وبالتالي فلا يمكن ان نفهم الصراع الجاري حاليا في العراق ان لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار. وعندما ننظر الي الامور عن كثب نكاد نصرخ قائلين: ما أشبه الليلة بالبارحة! قبل الف سنة وبعد الف سنة لم يتغير شيء تقريبا ولم يتبدل. بالطبع فان الديماغوجيين العرب سوف يطمسون الامور قائلين: احتلال امريكي! لا يوجد في الساحة الا الاحتلال الامريكي.
هو الذي يفسر كل شيئ وهو المسؤول عن كل شيء. ولكن هذه نظرة سطحية جدا للامور. فبدون ان نبريء هذا الاحتلال البغيض من مسؤولياته وتجاوزاته فان اصغر مفكر يعرف ان هناك عوامل مذهبية تختلج في أعماق التاريخ العراقي منذ مئات السنين وهي التي ستحسم الامور في نهاية المطاف.
كل ما نتمناه هو ان تتمخض الامور في نهاية الامر عن حكم لا سني ولا شيعي، حكم يتجاوز الطائفية ويعلو عليها. فهذا هو خط المستقبل، خط الاستنارة العقلية والنزعة الانسانية والتقدم. انه الخط الذي يؤسس المواطنية علي اساس علماني حديث لا مذهبي ولا طائفي. ولكن هل سيستطيع العراق ان ينجز كل ذلك خلال فترة قصيرة؟ اذا ما فعل وتحققت المعجزة فانه سيصبح مختبرا وقدوة ومثالا لكل العرب..
ثم يقول اركون بان اهمية الحركة الحنبلية تكمن في انها تواصلت علي مدار التاريخ دون انقطاع من خلال ابن تيمية المشهور بتشدده وعلمه الغزير في القرن الثالث عشر والرابع عشر، ثم من خلال محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية ابان القرن الثامن عشر، ثم من خلال حركة الاخوان المسلمين التي اسست عام 1928 وكل الحركات السلفية المعاصرة. ويمكن القول بان المواجهة الكبري بين هذه الحركة والتيارات التحديثية داخل العالم العربي وخارجه قد فتحت علي مصراعيها اليوم.
اخيرا كان ينبغي ان نقول كلمة سريعة عن المذاهب الاسلامية الأخري كالمذهب الظاهري الذي أسسه ابن حزم الاندلسي(456/1064)، والمذهب الامامي الشيعي الذي اسسته كتب الكليني(329/940) وابن بابويه، والشيخ المفيد(413/1022)، وابو جعفر الطوسي(460/1068) الخ.. وينبغي ان نذكر المذهب الزيدي السائد في اليمن الشمالي والمعروف عن طريق مصادر غير مباشرة، وكذلك المذهب الاسماعيلي الذي أدي الي ابداع مؤلفات ذات تحليق روحي وفكري كبير مع اخوان الصفا وابي حاتم الرازي(322/933)، وحميد الدين الكرماني(408/1017)، الخ..
وهناك ايضا الفلسفة التي اسست لاهوتا خاصا بها: أي تفسيرا محددا للدين الإسلامي. وهو بالطبع اكثر التفسيرات عقلانية في الاسلام بل ويكاد يصل الي حد تغليب العقل علي الدين كما حصل مع الفارابي. وبالتالي فقد ذهبوا في العقلانية الي حد أبعد مما ذهبت اليه المعتزلة بكثير. فالفارابي بالاضافة الي ابن رشد الذي جاء بعده يمثل بدون ادني شك قمة العقلانية العربية الاسلامية.

المصدر: الراية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.