غزة - من بعيد تلمحهم قادمين، تنظر بقلق إلى أسلحتهم المخيفة وضجيج خطواتهم.. تنسل إلى بيتها وقلبها يرتل الأدعية والآيات.. تبتهل إلى الله أن يزيح شر ما يحملون.. وفجأة تنهمر الطرقات المخيفة على الباب الصغير تفتحه على مصراعيه.. الصوت يرتفع مطالبا إياها بأن تبتعد.. تصرخ في وجوههم: "لا ترعبوا الأطفال.. إنهم نائمون". تهديد لها ووعيد ولا اكتراث لنبرات تعبها وجسدها النحيل.. وكما كرة القدم يركلونها بعيدا.. ترتمي على الأرض.. يعلو النزيف وتصمت الأنفاس. "أمي.. جدتي.." تتعالى صيحات الغضب وعدم التصديق.. "لقد ماتت" يبكي حفيدها وهو ينحني ليقبل رأسها. الجميع يقف مذهولا وهو يودع الجدة "مريم أحمد عياد" (60 عاما) من قرية أبو ديس شرق مدينة القدسالمحتلة. إنقاذها.. ممنوع وكانت مريم عياد قد استشهدت أمس الأحد أثناء محاولتها منع جنود الاحتلال الإسرائيلي من اعتقال طلاب يقطنون في ذات البناية التي تسكن فيها. بصوت دامع وبنبرات تحترق شوقا وصفت هبة ابنة الشهيدة مريم في اتصال هاتفي مع "إسلام أون لاين" ما جرى ب"الجريمة البشعة".. تحاول أن تلملم دموعها المخنوقة: "لقد قتلوها بدم بارد.. طرحوها أرضا وتركوها تنزف". وترجع هبة بذاكرتها حيث تفاصيل المشهد الأخير: "اقتحم جنود الاحتلال بيتنا لاعتقال طلبة من جامعة القدس يقطنون في نفس البناية.. ولما ذهبوا في اتجاه شقة أخي حاولت منعهم والتصدي لهم، أخبرتهم أمي ألا أحد في المكان سوى أطفال صغار مع والدتهم.. وسيموتون خوفا إن هم اقتحموا بيتهم". تتنهد بعمق ثم تمضي قائلة: "ما من أحد اكترث لكلامها.. شتموها وانهالوا عليها بالسباب والضرب.. اشتدت وتيرة الجدال". تخون هبة الكلمات: "لا أستطيع أن أعبر عما اعتراني من ألم وعجز.. رأيتها تقع بعد أن قام الجنود بدفعها أرضا.. شاهدت الدماء فصرخت بأعلى صوتي وهرولت مسرعة إلى الخارج من أجل إحضار سيارة إسعاف.. فرفعوا في وجهي السلاح وأمروني بالبقاء.. لقد منعوني من إنقاذها". كيف سيأتي العيد؟! بعد دقائق مرت على قلب عائلة عياد وكأنها دهر أقلت سيارة الإسعاف "مريم"، وقبل أن تصل عتبات المشفى كانت قد فارقت الحياة. "لماذا قتلوها؟!" تلقي هبة الاستفهام الموجع الذي يبقى معلقا دون إجابة: "لا أتخيل الدار دون حضورها.. وضحكاتها وصوتها.. كانت لنا كل شيء". ولا تدري الابنة كيف ستمر الأيام القادمة على قلبها: "كيف سنمضي رمضان؟! من سيوقظنا على السحور ويعد لنا أشهى الطعام وألذه؟! من يحضن الصغار ويلاعبهم؟!" ويكفي أن تتذكر هبة أن العيد سيطرق الأبواب بعد أسبوع لتدخل في نوبة بكاء لا تنتهي: "هل سيمر العيد بلا قبلاتها؟! لقد حرمنا الاحتلال من تواجدها الجميل؟!". "فداء" ابنة الشهيدة "مريم" تقطن في الأردن ولم تتمكن من إلقاء النظرة الأخيرة على والدتها وتوديعها.. شقيقها صابر قال ل"إسلام أون لاين": "هي مثلنا لم تصدق الخبر، ولم تسكت عن البكاء". نزيف في الجمجمة "صابر" أكد أن أمه في أيامها الأخيرة كانت تكثر من قراءة القرآن والصلاة: "لم يكن المصحف يغادر يدها.. لقد نالت الشهادة.. أمس كان عرسا حقيقا لها.. لقد استشهدت في رمضان وفي العشر الأواخر وعلى مقربة من الأقصى الشريف". وبصوت حزين تساءل عن طعم الأيام القادمة: "ستمر ثقيلة لا لون لها". الجيش الإسرائيلي وكعادته نفى مسئوليته عن الحادثة، وقال في تصريحات صحفية إن "مريم" توفيت جراء سقوطها من على سلم البناية. "موسى داود" مدير العيادات التابعة لجمعية المقاصد الخيرية في أبوديس قال: إن الهلال الأحمر الفلسطيني أحضر الجثة إلى العيادة، وتبين أن سبب الوفاة كسر في أسفل الجمجمة ونزيف داخلي بها نتيجة دفعها بقوة، وأضاف في تصريحات صحفية: "لم نستطع تقديم أي إسعاف لها؛ لأنها كانت متوفاة". الفصائل والقوى الفلسطينية استنكرت وبشدة الجريمة البشعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي واستهجنت مواصلة الاحتلال انتهاكاته الصارخة والمنافية لكافة القيم والمواثيق الخاصة باحترام حقوق الإنسان وسط صمت عالمي مطبق.