في رابع ندوات المؤسسة العربية للديمقراطية محمد صلاح الجورشي: أزمة الأحزاب السياسية مكنت الحركات الإسلامية من الصعود د.السيد: الإسلام السياسي كسر التقليد السني بعدم اعتبار الشأن السياسي أصلا من أصول الدين يستمر عقد الندوات التي تنظمها المؤسسة العربية للديمقراطية، بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للديمقراطية في 15 سبتمبر، التي كانت آخرها حتى الآن ندوة تحت عنوان ( الحركات الإسلامية والمسألة الديمقراطية: لبنان نموذجا) والتي استضافت المؤسسة لها الدكتور رضوان السيد أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية، وشغل مناصب عدة منها: مدير معهد الإنماء العربي، ومدير المعهد العالي للدراسات الإسلامية، ورئيس تحرير مجلة الفكر العرب، والأستاذ الزائر لعدد من الجامعات مثل هارفارد وسالزبرج وشيكاغو وصنعاء، ويرأس حاليا تحرير مجلة التسامح. والأستاذ صلاح الجورشي أحد المفكرين الإسلاميين التونسيين. وفى الكلمة التي استهل بها الندوة قال الدكتور محسن مرزوق الأمين العام للمؤسسة العربية للديمقراطية: إننا ننظم الليلة هذه الندوة الرابعة، ونستضيف لها الدكتور رضوان السيد من لبنان والأستاذ صلاح الدين الجورشي من تونس، ليتحاورا ونحاورهما حول موضوع الحركات الإسلامية المعاصرة ومسألة الديمقراطية، مع تركيز على النموذج اللبناني اعتبارا لكون ضيفنا د.السيد واسع الاطلاع عليه من منطلقين، فكري وسياسي. وأضاف: ولأن الأستاذ صلاح الدين الجورشي هو أيضا حسن الاطلاع على التجربة التونسية فلا بأس أن يغني النقاش بإضاءات من المغرب الكبير, وموضوع مذاهنة الليلة شديد الأهمية وعظيم الحساسية، إنه لا يتعلق فقط بالمسألة الديمقراطية من جانبها السياسي فقط، بل يتناولها في ارتباطها بمقومات الوجود الحضاري والهوياتي لشعوبنا. ولقد سبق أن قلنا: إننا نعتقد أن لا إمكانية لصياغة نظريات في مجال الانتقال الديمقراطي لمنطقتنا، ولا إمكانية لتصور ديناميكية انتقال فعلية، لا يكون للدين فيها كنظام، قيم ونظام رموز وجوانب مؤسسة ودور, كذلك الشأن بالنسبة للجوانب العرقية والقومية والثقافية المتنوعة في منطقتنا، فإذا كان مما لاشك فيه أن أغلبية سكان أوطاننا هم عرب ومسلمون، فإن وطننا الكبير يعتمل بتعددية جميلة لا يجب الاعتراف بها فقط، فذلك من البديهيات ولا يجب التسامح معها فقط، فذلك من الفروض بل يجب الاحتفال بها أيضا. وأشار مرزوق إلى أن هذه التعددية الجميلة والثرية هي أساس لبناء عَقد مواطنة حديث، يؤسس للفرد صاحب الشخصية القانونية والسياسية على مستوى الحياة العامة، ويطلق جوانب ازدهار حياته الدينية كجزء أساسي من منظومة أمنه كإنسان. وقال مرزوق: ومن المهم الإشارة إلى أن معضلة تأخر الممارسة السياسية في المنطقة عن الارتقاء لمستوى بناء دولة المواطنة الحديثة، لا يتحمل وزره فقط المستأنسون بالمشروعية الدينية، بل من يَدَّثِرون بإزار العلمانية أيضا, إن مرض فقر الديمقراطية هو بكل أسف وباء منتشر بين المدارس اليسارية والقومية والليبرالية والإسلامية العربية، فلا يتفاخر أحد بالنجاة منه، ولا يدعي أحد أن مرجعيته تعطيه الحق في احتكار مشروعية الديمقراطية. وتساءل مرزوق: هل يستطيع أن يكون الحاضر نسخة أو إعادة من الماضي؟ نعم، هذا ممكن ولكن في أفلام الخيال العلمي فقط. إن تصوراتنا التاريخية هي بشكل عام استعارات جذابة جدّا. ولأنها كذلك فقد تغري بتجاوز الزمن. ولكن الزمن هو الزمن. الأمس واليوم وغدا. الإثنين الذي يعقبه الثلاثاء ويسبقه الأحد. لا شك في ذلك. فمسألة الراهنية هي أساس البراغماتية، التي قد تؤدي احتمالا إلى مساومة النهضة المرتقبة، واكتشاف البينونات الغائبة التي ستصنع الأساس المشترك للاجتماع السياسي في هذه المنطقة, ومسألة الراهنية بمعناها الزمني والاجتماعي والسياسي والدولي، هي أيضا شرط إبداعات التغيير داخل البنيات الدينية نفسها، سنية كانت أم شيعية أم غير ذلك. وأضاف هناك منطقة مشتركة يتقاطع فيها الجميع في هذا الوطن، والدليل على وجودها أن الناس في هذا الوطن عاشوا قرونا بعضهم مع بعض، ولم يكن ذلك ممكنا لولا أنهم خلقوا منطقة التقاء رمزي وسياسيي وحضاري، يجب بالحوار أن نعيد اكتشافها وتحديثها. إنها مشروع قومي جديد يتشكل بقيام المواطنة الحديثة المؤطرة بالنظام الديمقراطي والمدعومة ببنية رمزية، قيمية، وروحانية، يشكل الدين أحد مصادرها الأساسية، إلى جانب باقي المكونات الحضارية. يهدف طرح موضوع الدين والدولة والتحول الديمقراطي داخل المؤسسة العربية للديمقراطية، إلى البحث عن هذه المنطقة المشتركة المستترة وراء ضعف نظر القوى الأيديولوجية والسياسية الحالية. وسيأخذنا هذا الهدف إلى تنظيم مذاهنات ومناظرات ودعوة شخصيات متعددة من الحركات الإسلامية والعلمانية، لخلق التراكم وتوليد البينونات. فنحن نقف على نفس المسافة من الجميع، مادام الجميع يلتزمون بالحوار منهجا، ويرفضون العنف وسيلة. وعقب كلمة مرزوق، قال صلاح الجورشي سنناقش في هذه الليلة علاقة الإسلاميين بمسألة الديمقراطية: ففي اعتقادي هناك تسعة أسباب أذكرها بسرعة لكي نبرر لقاءنا اليوم، السبب الأول: أن الديمقراطية أصبحت خيارا إستراتيجيا لنا، بل هي الإمكانية المتاحة لنا لترتيب وحسم العلاقة بين الدولة والمجتمع لدينا. السبب الثاني: هو دور الإسلام في حياة مجتمعاتنا رغم كل المحاولات والجهود التي بذلت لفصل الدين عن الدولة، أو محاولة تحييد الدين، فإن الإسلام محور أساسي في حياتنا، سواء الدينية أم الاجتماعية أم السياسية، ولم يعد من المجدي الحديث عن إقصاء ذلك العامل، ولكن أصبح الحديث عن كيفية التعامل مع هذا العامل، ولا نجعله يعرقل التغيير الاجتماعي, والسبب الثالث الذي يدفعنا للحديث وطرح هذه الإشكالية: هو الصعود السياسي للحركات الإسلامية بشكل لافت، وتقريبا في كل البلاد العربية والإسلامية, أما السبب الرابع: فهو حالة استنفار تعيشها الأنظمة العربية منذ عدة سنوات، محاولة التصدي للحركات العنيفة من جهة، ولكن أيضا محاولة منها لاحتواء الجزء الآخر من هذه الحركات، التي طرحت نفسها كشريك في العملية الإسلامية, خامسا: وجود تجارب استطاع فيها الإسلاميون الانفراد بالحكم, سادسا: وهو أن الأحزاب الأساسية التاريخية التي شهدتها منطقتنا وهي غير إسلامية تمر بأزمة هيكلية جعلتها تتراجع، وبعضها لولا وجوده في السلطة لتلاشى كلية، مما خلق فراغا، استطاعت من خلاله الحركات الإسلامية الصعود على أنها البديل (وليس بديلا), سابعا: هناك أزمة شرعية لدى الأحزاب الحاكمة، ولدى الأنظمة القائمة، وتقريبا في كل بلد هناك أزمة سلطة, ثامنا: تزايد الشكوك لدى الباحثين والنشطاء وغيرهم من الأطراف حول مصداقية الحركات الإسلامية في مقدرتها على حماية وإنجاح عملية التحول الديمقراطي. ومن جانبه قال الدكتور رضوان السيد: سأركز حديثي حول الإسلام السياسي والديمقراطية تركيزا يشرح الإشكالية ويضعها في موضعها الصحيح، المقولة الأولى تقيم تفرقة بين الإصلاحية والإحيائية في الإسلام، باعتبارهما مرحلتين فكريتين مختلفتين، فالإصلاحية معروف عنها أنها مدرسة محمد عبده، وهي تعنى بالتجديد في الدين والدولة عن طريق التواصل مع الغرب، وفي عشرينيات القرن الماضي حدثت قطيعة عن طريق ظهور التيار الإحيائي, والسؤال: كيف اختلفت الإصلاحية عن الإحيائية؟ فالإصلاحية تعنى بمسألة النهوض والتقدم، أما الإحيائية فتعنى بالحفاظ على الهوية، وليس هذا استمرارا لذاك، والذي أحدث هذا التحول هو رشيد رضا تلميذ محمد عبده، وحسن البنا الذي هو تلميذ رشيد رضا وليس تلميذ محمد عبده ولا تلميذ جمال الدين الأفغاني, وما نشهده اليوم هو التيار الإحيائي، وهو الأب الحقيقي للإسلام السياسي الذي ظهر في الخمسينيات، والستينيات. وأضاف السيد: إن فائدة ذلك التحديد، هو أن الإسلام الإحيائي الذي تجلى في الثلاثينيات والأربعينيات في حركات وأحزاب، كلها هدفها الحفاظ على الهوية الإسلامية للمجتمع والدولة، وكلها كسر التقليد السني القديم والمستمر الذي لا يعتبر الدولة أصلا من أصول الدين، كما لا يعتبر الشأن السياسي أصلا من أصول الدين، إن قيام الدولة أصل من أصول الدين الإسلامي، بعكس كلام الإسلام التقليدي، وعلى هذا الأساس، ومنذ كتاب عبد القادر عودة (الإسلام وأوضاعنا السياسية) صار المسعى الأساسي هو إقامة الدولة الإسلامية.. وهذه هي المقولة الثانية، أما الثالثة: فإنه بالطبيعة، وعندما صار هدف التيارات الإسلامية إقامة الدولة الإسلامية، كان من الطبيعي الاصطدام بالأنظمة القائمة، ولا يهم من بادر إلى ذلك، ولكن في الحقيقة من بادر للاصطدام، هم الضباط الذين استولوا على الشأن في الخمسينيات، لكن لولا مبادرتهم لهزمتهم الحركات الإسلامية، لأنها لا تعتبر الأنظمة القائمة دولا إسلامية. ومن هنا حدث صدام مريع في 1954 بين جمال عبد الناصر والإخوان المسلمين، وهو مستمر حتى الآن. ونبه السيد إلى أن هناك شرطين لمن يريد أن يملك حظوظا في البقاء (بالنسبة للأنظمة)، الأمر الأول: هو البحث بجدية في مقولة الدولة المدنية، فالدولة الدينية غير ممكنة، كما أن الدولة العقائدية الاشتراكية غير ممكنة، فالدولة لا يمكن أن تكون عقائدية ما دامت تضم العديد من الطوائف وفئات من الشعب، فلا بد من الالتزام بمقولة الدولة المدنية، كما لابد على الجميع الالتزام بعدم ممارسة العنف بالداخل للوصول إلى أهداف سياسية، (للوصول إلى السلطة)، وهذا الأمر مطلوب من الإسلاميين قبل غيرهم، لأنهم التيار السياسي الرئيسي الآن في سائر بلدان الوطن العربي. وتطرق السيد إلى المسألة اللبنانية، قائلا: كان شعار "العيش المشترك" من صياغة المسيحيين المعتدلين في لبنان. بل إننا نجد جذوراً له لدى المسلمين أيضاً في بيان "الفجر الصادق" الذي أصدره مؤسسو "جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية" عام 1876م، والذي جاء فيه: أن لبنان مثل الطائر الذي لا يحلِّق إلا بجناحين، والجناح المنطلق القوي هو الجناح المسيحي، وعلى المسلمين أن ينهضوا بالجناح الآخر عن طريق التربية الحديثة والتعليم الحديث، اللذين سبقهم إليهما المسيحيون. بيد أن الصراع السياسي فيما بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن العشرين، ما أبقى على هذه الانفصالية القابلة للتلاقي. ويرجع ذلك إلى الأدلجة التي تطور إليها الأمر لدى المسيحيين كما لدى المسلمين. المسلمون اعتبروا لبنان وطناً عربياً خالصاً، كما اعتبروا شعبه شعباً واحداً، وإن اختلف الدين. فالمسيحية الشرقية عربية، والمسيحيون اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون عرب أقحاح. ولذلك لا داعي للتفرقة الثقافية أو السياسية. بَيْدَ أن النخب المسيحية خشيت على نفوذها ومواقعها وثقافتها الخاصة من هذه التسوية الاندماجية، فخاضت في نظريات حول الخصوصية السورية، أو اللبنانية الفينيقية، والكنعانية والمتوسطية، أو أن لبنان منفصل بالجبال الشرقية عن سوريا، أو أنه وطن الحريات وملجؤها وملاذ الأقليات عبر التاريخ، وهي الأقليات التي لاذت بجبال لبنان هرباً من الغلبة العربية أو الإسلامية. وبلغ الأمر بالأب سليم عبو (رئيس الجامعة اليسوعية في التسعينيات من القرن العشرين) أن ألَّف كتاباً عام (1959م) عن الثنائية اللغوية أو اللسانية، ذهب فيه إلى أن الخصوصية المسيحية اللبنانية، تجلت لغوياً عندما تحدث المسيحيون عبر التاريخ بلغات، هي دائماً غير اللغة العربية! وفي الحرب الأهلية اللبنانية - كما في كل الحروب المشابهة، ومنها الحرب الأسبانية، والنزاع في اليونان وعليها، بعد الحرب الثانية، ونزاعات البلقان في الثمانينيات والتسعينيات - استخدمت كل أنواع الأسلحة الباردة والساخنة. وقد أضر ذلك ولاشك بفكرة التعددية السياسية لدى القوميين العرب في لبنان، كما لدى خصومهم. فحتى العلمانية التي هي فكرة اندماجية في الأصل، استخدمها الأيديولوجيون المسيحيون للحفاظ على الترتيبات الطائفية الخالدة في الكيان اللبناني، منذ أيام الفرنسيين.