مشكلة ثبوت رؤية الهلال أشد وطأة على المسلمين في البلدان ذات الغالبية غير المسلمة، وهي شديدة الوطأة عموما على المسلمين في عصرنا الحاضر، بعد أن أصبح كل مظهر من مظاهر توحيد كلمة المسلمين مطلوبا وضروريا، وهذا دون إغفال ما سبق أن اجتهد به العلماء الأوائل بشأن توحيد المطالع واختلافها فضلا عن الرؤية البصرية وما يتعلق بضرورتها. المشكلة باقية والمسئولية تبدلت هنا في ديار الغربة الأوروبية كانت توجد - قبل أن تبلغ الصحوة ما بلغت - ظروف موضوعية تحول دون توحيد المسلمين في يوم صيامهم ويوم فطرهم، فلم يكن عدد الملتزمين بالعبادات كبيرا يلفت الأنظار، ولم تكن الاجتهادات بشأن الهلال قد نضجت على أساس دراسات متعمّقة بشأن الجمع بين الحسابات الفلكية والرؤية البصرية كما هو الحال منذ سنوات، كما أن التواصل مع البلدان الإسلامية التي تتابع ثبوت رؤية الهلال مباشرة كان مرتبطا بصعوبات كبيرة قبل ثورة الاتصالات. آنذاك قبل عدة عقود كانت القاعدة المتبعة والأشهر من سواها بين عموم المسلمين في الغرب على اختلاف جنسياتهم وغلبة عنصر المسلمين الوافدين على مجموع عددهم، هي اعتبار أول أيام رمضان وأول أيام العيد ساري المفعول مع أول بلد إسلامي يعلن ذلك، ولكن بقيت قطاعات كبيرة من المسلمين لا تلتزم بهذه القاعدة، فالمغاربة يصومون ويفطرون مع المغرب، والأتراك مع تركيا، والمصريون مع مصر، وهكذا.. وكان يقال في أوساط المسلمين الناشطين في المراكز والاتحادات والجمعيات، أو ما اصطُلح على وصفهم بالإسلاميين، إنّ هذا من تأثير آثام العصبيات، القومية وسواها، ومن تأثير غلبة العلمانية على أنظمة الحكم والفرقة بين البلدان الإسلامية. ما مدى صحّة هذا المقولات اليوم؟ ما هي مسئولية "الإسلاميين الناشطين" عن التفرقة بين المسلمين في يوم صومهم ويوم فطرهم، وقد أصبحت غالبيتهم في الغرب الأوروبي في الوقت الحاضر، من أهل البلاد الأصليين والمتجنسين والمستقرين بإقامة شبه دائمة؟ كيف نسوّغ وجود مصليات معدودة في مدينة واحدة مثل بون بألمانيا، وقد أصبح بعضها فجرا يؤدي صلاة العيد على أساس ثبوت شهر شوال بينما بات بعضها الآخر مساء على الإفطار المشترك على أساس أنه في آخر يوم من رمضان؟ إننا لنشهد هذه المشكلة منذ نشأتها الأولى من داخل أنشطة العمل الإسلامي ثم من خلال التواصل المستمر مع الناشطين في حقبة جديدة لا ينقطع الحديث فيها عن التنسيق والتوحيد والتكامل، ليكون للمسلمين وزنهم الأدبي والمعنوي في بلاد يعيشون فيها، ولا يستطيعون تحصيل حقوقهم الأساسية وترتيب أمورهم الدينية المحضة فيها، ما دام الانقسام هو الصفة السائدة في منظماتهم واتحاداتهم الكبيرة، في مختلف القضايا وليس في الجوانب التعبدية الاجتهادية فقط.. ونشهد استمرارها مع تبدل المسئولية عنها. عيد فطر 1429ه رغم شذوذ بلدان معدودة بدا في مطلع رمضان 1429ه أنّ وحدة غالبية المسلمين على هلال رمضان قد تحققت من مشارق الأرض إلى مغاربها، وهو ما استدعى الاستبشار بشبيه ذلك مع نهاية رمضان وحلول عيد الفطر، وخاب الأمل هذا العام أيضا كما خاب في أعوام سابقة، رغم أن المسلمين في البلدان الأوروبية أصبح لهم مجلس إفتاء أوروبي ولجنة شرعية لمتابعة مسألة الهلال حسب آخر الاجتهادات المنبثقة عن مؤتمرات عديدة على أعلى المستويات الإسلامية والاختصاصية الفلكية. وكان مما أثار الأسئلة المذكورة آنفا في أواخر رمضان 1429ه أن يُنشر في ألمانيا - بلد إقامة كاتب هذه السطور - إعلانان متعاقبان تم توزيعهما في يومين، صدر أحدهما عن لجنة الأهلة التابعة لمجلس الإفتاء في أوروبا، وهي الجهة الاختصاصية في موضوع الهلال، فأكدت الاستحالة الفلكية لرؤية الهلال مساء الإثنين وبالتالي انتظار أن يكون العيد يوم الأربعاء، أي باكتمال الأيام الثلاثين لرمضان، وبعد يوم واحد صدر بيان معاكس عن "المجلس التنسيقي" للمنظمات والمراكز الإسلامية في ألمانيا يقول إن عيد الفطر سيكون يوم الثلاثاء وليس يوم الأربعاء. لكل طرف رؤيته، ولكل رؤية قيمتها الذاتية.. مجلس الإفتاء يعتمد على تعميم ثبوت الشهر الجديد في أحد البلدان الإسلامية بالرؤية البصرية (ومؤخرا في مكة بالذات) شريطة قابلية ذلك فلكيا، أما المجلس التنسيقي فيعتمد على الحساب الفلكي دون الرؤية البصرية، ويتبنى في بيانه المذكور ما ذهبت إليه تركيا منذ زمن بعيد، وهو دخول الشهر القمري إذا أكد الحساب الفلكي قابلية دخوله في أي بقعة من الكرة الأرضية، (وتقول مصادر المجلس إن ذلك اعتُمد في المؤتمر الدولي للفقهاء والفلكيين في إستانبول عام 1976م.. بينما تقول مصادر مجلس الإفتاء الأوروبي إنّ هذا القرار لم يكن موضوع التزام من جانب معظم المشاركين في المؤتمر، فتطور مضمونه في مؤتمرات تالية)، ولكن المشكلة تظهر للعيان عندما نقدّر أن عموم المسلمين في بلد كألمانيا لا يتابعون خلفية كل موقف وكل قرار، عاما بعد عام، وليس المطلوب من عامة المسلمين مثل هذه المتابعة، فما الذي يمكن أن يصنعه الفرد المسلم في مدينة يفطر بعض من فيها من المسلمين تبعا لقول أئمتهم في المصليات والمساجد، ويُتمّم بعضهم صيام الشهر إلى ثلاثين يوما تبعا لقول أئمتهم أيضا.. بل توجد أسر مسلمة سادت في بيتها المشترك هذه الحالة أيضا. القضية ليست قضية اجتهادات فقط، ولا قضية مسئولية فقهية أو مسئولية تنظيمية فحسب، بل هي بالغة التعقيد، متعددة الجوانب، وقد رصدنا في ألمانيا هذا العام أن عموم المراكز والجمعيات التي يتردد عليها مسلمون غالبيتهم من أصل تركي، قد اتبعت سريعا "المجلس التنسيقي"، وهنا لا بد من طرح السؤال: ألا يرتبط بذلك أن رئاسته الدورية حاليا هي في يد "مجلس الإسلام في ألمانيا" وهو قائم منذ تأسيسه على الإخوة ذوي الأصل التركي، ويوصف بأنه قريب من منظمة ميلّي جوروش المعروفة؟ ورصدنا أيضا أن بعض المراكز والمساجد والجمعيات الأخرى تابعت المجلس التنسيقي فيما أعلن، حرصا على مظهر "وحدة المسلمين في ألمانيا"، والسؤال حسبما ورد في إعلان بعضها رسميا عن تعليل ذلك: ألم يكن القرار من باب دفع أكبر الضررين، وليس من باب الاقتناع بمشروعية هذا الاجتهاد؟ ورصدنا أيضا أن كثيرا من المراكز والجمعيات التي يغلب الأصل المغربي على المترددين عليها قد أكملت الأيام الثلاثين لرمضان، ولكن إن سئل بعض المسئولين فيها عن السبب، ألا يغلب على الجواب التعليل بأن "المغرب" لم تعلن يوم الثلاثاء عيدا، بغض النظر عن توافق ذلك مع ما أعلنه مجلس الإفتاء الأوروبي؟ مسئولية الإسلاميين عن الفرقة الجهتان المذكورتان، أي مجلس الإفتاء (الذي يعمل على مستوى أوروبي) والمجلس التنسيقي (الذي يعمل على المستوى الألماني)، لا تخضعان لتأثير أنظمة حكم في البلدان الإسلامية، ولا تحرّكها مؤثرات عصبيات قومية أو غير قومية ولا توجهات علمانية وشبه علمانية، بل يفترض أن يكون القائمون عليهما من أهل الصحوة الإسلامية أو من صلب الناشطين في العمل الإسلامي، فهم أقرب إلى التيار القائل - كما ورد آنفا - إن تلك المؤثرات هي سبب الفرقة، "أما الإسلام الذي ندعو إليه فيوحد ولا يفرّق". الإسلام بحد ذاته لا يحتاج إلى شهادتهم أو شهادة سواهم في هذه المسألة أو سواها، إنما السؤال الحقيقي مطروح عما يصنعون هم بهذا الإسلام، وإذا ما كانوا يطبقون ما يريده الإسلام فيوحدون ولا يفرقون فعلا، ولو على مسألة واحدة كمسألة الهلال. إن مسألة الهلال تشهد عليهم عاما بعد عام، وليس لهم، فليست القضية قضية قوميات، ولا عصبيات، ولا أنظمة حاكمة، إنما هي ببساطة قضية "فرقة الإسلاميين الناشطين" على ألف طريق وطريق. لقد أدمن المسلمون الخلاف على الهلال، بل أدمن "الناشطون الإسلاميون" ذلك الخلاف وسواه، وهو مسألة قد لا تستوقف المسلم الفرد كثيرا من حيث اطمئنانه إلى ما يراه من اجتهاد فيطبقه، أو من حيث ثقته بجهة معينة فيتبعها، فلا تتأثر علاقته الفردية مع رب العباد، لا سيما وأنه يلجأ في قبول الصيام واستقبال العيد إلى رب العباد وليس إلى العباد. إنّما لا يفيد الاعتذار في اختلاف المؤسسات والمنظمات في أوروبا بشأن مسألة الهلال بأن كثيرا من علماء المسلمين داخل البلدان الإسلامية لا يلتزمون بما سبق أن اتفقوا عليه في مؤتمرات كبرى بشأن طريقة ثبوت شرعية بداية الشهر القمري على قاعدة تقول إن الرؤية البصرية لا تثبت إلا إذا كانت إمكانية رؤية الهلال ثابتة فلكيا، وكثيرا ما أصبح يقال ذلك عن السعودية، فطالما أُعلن فيها عن رؤية الهلال، وهي مستحيلة وفق الحسابات الفلكية، التي لم تعد قطعا تقديرية، بل هي ذات قيمة علمية لها مكانتها إسلاميا، وتقوم عليها تقنيات حديثة واسعة النطاق لا تحتمل خطأ بضع ثوان أو بضع دقائق، وليس خطأ يوم كامل. إن استمرار الخلاف بمثل ما تكررت صوره السلبية العديدة خلال بضعة أعوام متتالية يجعل الإسلاميين يفقدون المصداقية فيما يدعون إليه على أصعدة عديدة أخرى، فالعاجزون عن توحيد كلمة منظماتهم ومؤسساتهم على التعامل "المشترك" مع مسألة شرعية فرعية نسبيا كمسألة الهلال، سيان أي اجتهاد يتم تبنيه، لا يُؤْمَنون على مسائل كبرى في حياة المسلمين ومستقبلهم، من قبيل توحيدهم على الطريق الصحيح في التعامل مع قضايا مصيرية يواجهونها في علاقاتهم بين بعضهم البعض وعلى مستوى الأسرة البشرية، في عالم يضيع فيه من لا ينتمي إلى تكتل من التكتلات على أساس قويم. المسلمون في أوروبا أقرب ما يكونون إلى تثبيت وجودهم المتميز على أساس مشترك، وليس على أساس تعدد انتماءات الجيل الأول من الوافدين قبل عشرات السنين، ولا على أساس الارتباط بهذه الجهة أو تلك من الجهات الرسمية وشبه الرسمية من الحكومات وسواها في البلدان الإسلامية، ولكن المسلمين في أوروبا يحتاجون إلى "قيادات جماعية أصيلة" لها من المصداقية ما يكفي لجمع الكلمة والسلوك على طريق مشترك، قد تتعدد الاجتهادات في إطاره، ولكن لا يكون ذلك في صيغة أقرب إلى التنازع على الصلاحيات والزعامات. أسئلة بانتظار أجوبة إن المثال الوارد آنفا حول نهاية شهر رمضان 1429ه يطرح فيما يطرح أسئلة عديدة، يحمل الإسلاميون بمنظماتهم ومؤسساتهم المتعددة واجب إيجاد أجوبة مشتركة مقبولة عليها، ومن ذلك: 1- هل من المصلحة إعطاء مظهر وحدة المسلمين في أحد بلدان الاتحاد الأوروبي (كما أظهر التعامل مع المجلس التنسيقي في ألمانيا) الأولوية على السعي إلى مظهر وحدة المسلمين على المستوى الأوروبي الجامع؟ 2- هل يمكن دفع المسلمين إلى اتباع فتاوى مجلس الإفتاء الأوروبي واجتهاداته، دون أن تكون له شبكة تواصل دائمة وواسعة النطاق مع عموم المسلمين ومنظماتهم في أنحاء المنطقة (أوروبا) التي يريد أن تشملها صلاحياته وأن تسري فيها توجيهاته القائمة على رؤية فقهية؟ 3- هل يمكن لمجلس تنسيقي أعضاؤه منظمات ومراكز واتحادات إسلامية أن يكون هو مصدر القول الفصل في جوانب فقهية مثل ثبوت بداية الشهر القمري، وهي التي تحتاج إلى فتوى شرعية / فلكية (علمية دينية وعلمية اختصاصية) وليس إلى قرار تنظيمي؟ 4- كيف ندعم مكانة مؤسساتنا، مثل مجلس الإفتاء، أمام الجهات المسئولة الأوروبية، عندما يعلن عن فتوى أو موقف في قضايا من قبيل تدريس الإسلام للمسلمين، وتعاملهم مع القوانين، وحجاب الفتيات المسلمات في المدارس، وغير ذلك مما يحتاج إلى خلفية شرعية، إذا كانت المنظمات على مستوى قطري أو حتى أوروبي، تتجاوزه وترفض مواقفه في قضية شرعية تعبدية أو تتجاهلها؟ 5- كيف ندعم مكانة منظماتنا الجامعة (اتحادات ومجالس تنسيقية وما شابه ذلك) على المستوى القطري الأوروبي، إذا كان بعض مؤسساتنا على المستوى الأوروبي الشامل لا يأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الواقعية المحلية، مثل غلبة ذوي الأصل التركي في ألمانيا والمغربي في هولندا وبلجيكا والجزائري في فرنسا والباكستاني في بريطانيا وهكذا، فضلا عن تفاوت تعامل السلطات – نسبيا - مع الوجود التنظيمي الإسلامي ما بين بلد أوروبي وآخر؟ إنّ ما نحتاج إليه هو أن ترتقي منظماتنا ومؤسساتنا إلى مستوى الإسلام واحتياجاته واحتياجات المسلمين الذين تريد أن تتحدث باسمهم أو تقودهم أو تدافع عن حقوقهم أو سوى ذلك مما تعلن من أهداف وشعارات، وأن ترتقي إلى مستوى متطلبات العصر وما وصل إليه العالم من مستويات علمية وتنظيمية وإدارية وغيرها، ولا يمكن أن يرتقي التنظيم - أي تنظيم - إلا بارتقاء أفراده، لا سيما من يتصدى إلى القيادة والزعامة منهم، وما أحوجنا في ذلك إلى شبيبة المستقبل إذا ما أعطت هذا الواجب الجوهري حقه من الإعداد الذاتي والارتقاء العملي. -------------------------------------------------------------------------------- كاتب فلسطيني المولد (عكا) سوري الأصل، من مواليد 1947 م، ومقيم في ألمانيا منذ عام 1965م.