لقد غدا واضحا أن التيار الإسلامي التونسي تتجاذبه في الوقت الراهن رؤيتان أساسيتان في التغيير. الأولى ثورية تقليدية مثالية رافضة لكل شيء تعتمد أسلوب المغالبة والمحافظة والمراهنة على التحالفات الوهمية مُرتهنة في فعلها لضغط اللحظة الراهنة وردود أفعال تائهة،لا تصنع الحدث وإنّما تلهث وراءه ، تكرر ذاتها،كلما تقدمت خُطوة تأخرت خطوات . والأدهى من هذا أنها تُصِرّ ُ في مستوى سلوكها الميداني وخطابها المتشنج في غالب الأحيان على استمرار واقع الانغلاق السياسي، بل وخدمته وخدمته موضوعيا رغم وَعْيِنَا جميعا باستثنائية هذا الواقع وشذوذه. هي رؤية ترفع شعار الحرية والديمقراطية، ولكنها ميدانيّا تمارس التهميش والإقصاء والتشويه.وأستطيع أن أجزم أن ما خلصت إليه من أحكام في هذا النطاق، قد يعتبرها البعض قاسية، لم تكن استنتاجا ورجما بالغيب،وإنّما هي واقع حقيقي عشناه ولمّا حاولنا مقاومته داخل ما يسمى بالأطر القانونية سامونا سوء العذاب وخاصة منه النفسي والأدبي. وباختصار شديد هي رؤية تخشى التجديد والإصلاح وما يستلزمانه من شروط ومطالب، مثل التدوال على المسئوليات والقبول بالرّأي الآخر. وأستغرب، بعد كل الذي رأينا، كيف لا نكف عن رفع شعار الديمقراطية، نزايد به على خصومنا و لا نطبقه على أنفسنا ؟ أمّا الرؤية الثانية، فهي ولئن لم تتضح معالمها ولم يكتمل بُنيانُها، فهي تطمح لأن تكون رؤية إصلاحية عقلانية تعتمد الواقعية والتدرج والإقناع والمشاركة كمنهج للإصلاح والتغيير الحضاري الشامل والإستراتيجي.و هي مقاربة في فهم الواقع،وترتيب الأولويات واستشراف المستقبل لا تدّعي الكمال ولا ملك الحقيقة، وهي لا تزال تعاني أوجاع المخاض المبكر،لأنّها تنادي بالتجديد والإصلاح وإعادة التأسيس على ضوء ما يزخر به الواقع الجديد من مطالب وأولويات وتحديات جديدة لم تكن مطروحة بنفس الحجم في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. و بناء عليه أدعو كل أنصار التيّار الإسلامي التونسي في المهجر الذين لم تعد مناهج العمل السياسي و التنظيمي في الوقت الرّاهن، أسلوبا وفكرا و خطابا ، تسعهم أن يفكروا بجديّة في البديل المناسب الذي يمكنهم من خدمة بلادهم والمساهمة الجدّية في دفع عملية التصالح الحقيقي والمبدئي والإستراتيجي بين الدّولة والتيار الإسلامي الوطني و المعتدل.أدعوهم أن ينصرفوا إلى البناء وأن لا يستنزفوا جهودهم في نقاشات عقيمة أكل عليها الدهر و شرب.لقد آن الأوان أن نوضح المنهج الإصلاحي الذي نتبنّاه بدون لف ولا دوران. وهذا يقتضي منّا تَبَيُّنَ الحدود الفاصلة بين العمل الدعوي والسياسي، لندرك ويدرك النّاس أين تقف مساحة العمل الدعوي لتبدأ مساحة العمل السياسي والعكس كذلك ؟ وما هي طبيعة كل من هذين المجالين؟ كذلك نحتاج أن نحدد موقفا واضحا من السلطة ؟ كيف تكون العلاقة بها؟ ما هي شروطها و مستلزماتها؟ نحتاج أيضا أن نحدد موقفا من المعارضة المتعددة التوجهات والأجندات ،حالة،حالة. ولكن من حقنا أن نوفر لأنفسنا فرصة نستجمع فيها أنفاسنا و قوانا الذهنية والعلمية لنتأمل تجربتنا ونطرح على أنفسنا الأسئلة الصحيحة ليكون البناء فيما بعد قائما على أسس سليمة. يجب أن نعمل بكل ما أوتينا من جهد ولو من جانب واحد أن نضع حدّا لهذه المواجهات المغلوطة بين الدّولة وجزء مهم من شعبها من ذوي التوجه الإسلامي . فالخيار الصحيح والأسلم وطنيّا هو أن تصطلح الدولة مع كل التونسيين ولا تستثني منهم أحدا إلا من استثنى نفسه. فالمعالجات الأمنية لا يمكن أن تؤد إلى حلول جذرية ، شاملة وعميقة ، تعود على البلد بالأمن و الإستقرار والتفرغ للمعركة التنموية . كما أن عقلية القطيعة والمعارضة الآلية للدولة و من يمثلها هي خطأ سياسي،بل و استراتيجي فادح. فالتوافق على آليات ديمقراطية حقيقية ولو بالتدرج بين مختلف الأطراف الوطنية و القوى الحية في البلاد كفيل بتفعيل المنافسة الإيجابية لخدمة البلاد والعباد والصالح العام المشترك . ولعل من بين هذه الآليات ،التوافق على ميثاق وطني جديد لا يستثني أحدا يكون خارطة لطريق الإصلاح والمصالحة الوطنيّة الشاملة. المراهنة على هذا الخيار الحضاري من منطلق مبدئي لن يكون إلاّ في صالح كل الأطراف الوطنيّة ،شعبا و حكومة و مجتمعا مدنيّا وقوى حيّة. وما أدعو إليه كمناضل مستقل ومُحب لبلاده هو الإنخراط في هذا التوجه العام الدّاعم لكل التوجهات الوطنية والسياسات الإيجابية سواء على المستوى التنموي و الإجتماعي أو السياسي أو الثقافي ،والناقد لكل التوجهات الخاطئة ولكن بأسلوب هاديء ورصين ومُقنع. لا نريد أن نعارض من أجل المعارضة،ولا نريد أن تكون معارضتنا ردودا للأفعال،بل نريدها و إن كان لا بد ،أن تكون نقدية بناءة،لا عدميّة عرجاء .... وفي هذا الإطار وبحكم إقامتنا في المهجر أدعو كل المؤمنين بهذا التوجه،كخطوة أولية لكسر هذه المحاصرة، إلى تنظيم ندوة وطنية عامة تكون منفتحة لكل من يجد نفسه في هذا التيار للحوار الجاد حول جملة الإشكاليات المطروحة في الوقت الراهن. كما أدعو إلى تأسيس موقع إعلامي جاد و محترف ، كخطوة ميدانية في مرحلة ثانية، يكون فضاء لحوار وطني بناء و مفيد، لا مكان فيه للثّلب والنيل من أعراض النّاس و الدّعاية الحزبية الضيقة. أرجو ان يجد هذا المقترح لديكم قبولا حسنا، وأن يكون التفاعل إيجابيا، لنتعاون فيما بيننا على خدمة بلادنا وإستشراف المستقبل ، بعيدا عن ضغوطات اللحظة الراهنة وإكراهات العمل السياسي اليومي. فالإنصراف إلى العمل الجاد،دينا و عقلا، أولى من الاستقالة أو ردود الأفعال و الدوران في الحلقة المفرغة وإهدار سنوات العمر القصير فيما لا يعني. مصطفى ونيسي/ باريس الإثنين 4أكتوبر 2010-10-04