ثلاث نساء في سرير واحد وحراس يقتحمون الغرف الداخل إلى قسم الأمومة والولادات بمستشفى بني مسوس ليس كالخارج منه، هذا هو الشعور الأساسي لأي امرأة مرت عبر عنابر التعذيب، لتضع مولودها في إحدى حجرات مبنى تسكنه الفوضى والقاذورات، وتحكمه قوانين غريبة لا تمت للعلاج و الاستشفاء بصلة، من أول مداخله حتى قاعة العمليات. ''هل يعقل أن يكون مكتب تسجيل الدخول بهذه الرداءة والبؤس؟''، كان هذا أول انطباع راودني عندما ذهبت لأجلب تذكرة الدخول، من أحد الأبنية الجاهزة والتائهة بين ركام الخردة، حيث سمعت سيلا من شكاوى الموظفين القابعين خلف مكاتب مكسوة بالغبار. وقد تلقيت ثاني صدماتي عندما لم أجد أي مكان أجلس فيه انتظار إجراء العملية القيصرية، فأمرت بالبقاء داخل مصلحة الولادات العادية، لا سرير بها، لا كرسي، لا مرحاض قابل للاستعمال، إنما كنت أقف في الرواق وأتنحى كل مرة بضعة سنتيمترات إلى اليمين أو الشمال، كلما نهرتني إحداهن، وفي كل مرة تنهال علي إحداهن بأسئلة ما تلبث أن تعيدها علي أخرى بعد لحظات.. في قاعة حبلى بالحوامل والصراخ، امتلأت الأسرة بالنساء من اثنتين إلى ثلاث بكل سرير، وفي الزاوية مرحاض لوثت رائحته كل المكان. لفتت انتباهي امرأة مسودة الوجه بشكل غير عادي، كانت تروح وتجيء وهي تجر معها قارورة المصل وعقار تسهيل الولادة، نظرت إليها، فبادرتني ''أنا هنا لليوم الثاني عشر، وهم يرفضون إراحتي بعملية قيصرية ، ويستمرون في تسميمي بهذا العقار'' وأشارت إلى القارورة ''.. هذه هي التاسعة''. بقيت على هذه الحال أكثر من ثلاث ساعات، ولم أحظ بسرير إلا بتوصية من إحدى المريضات لدى قريبة لها هناك. سألت المقيمات معي في الغرفة ''أين تغتسلن؟'' كوني غادرت البيت منذ الصباح، أجبنني بالإشارة إلى قارورات موضوعة في النافذة ''عليك أن تعبئي الماء حالما تسيل الحنفية'' أضافت إحداهن. لم يحضر الماء في تلك الليلة بالحنفية، لأن حوض الاغتسال مسدود بالقاذورات ولم يصلح، ''يحدث هذا تقريبا كل يوم بما أنه لا ينظف سوى مرة واحدة في اليوم'' أوضحت لي زميلة بالغرفة. و لم أعلم بموعد العملية، فكررت الذهاب لغرفة العمليات بحثا عن الطبيبة الجراحة، بما أن حالتي كانت مستعجلة، لكن الإجابة كانت نفسها ''نصف ساعة ونستدعيك''. أربع ساعات قضيتها في الغرفة روت لي فيها نصيرة قصتها، فزادت من قلقي. لقد وصلت إلى المستشفى قبل ستة أيام وكان الجنين ميتا في بطنها في شهره السادس، ومع ذلك أرجئ إدخالها لليوم الموالي، وفوق ذلك ولدت بمفردها بعد أن تركت لنفسها وهي تنادي ولا من مجيب.. جهود طبية تهدرها القسوة والإهمال كان الألم الجسدي والقلق غير كافيين، فكان علي أن أستمع لمتاعب الآخرين اليومية. عند رأسي وقفت واحدة من أفراد الطاقم الطبي أمام طاولة العمليات، سألتها إن كنت سأخدر جزئيا كما رغبت، فأجابتني ومرت تسألني عن سني ومهنتي.. وما لبثت أن هاجمتني بلطف ''لماذا لا تكتبون في الجريدة عما نعانيه نحن؟ هل رأيت الظروف التي نعمل فيها.. كم عملية نجريها في الليلة الواحدة''.. كان الطبيب المخدر امرأة هادئة جدا رغم وجهها المنهك بالتعب، فلم أجرؤ على عدم الوثوق بها، وحزّ في نفسي أن تدفن كفاءات ويهدر جهدها وسط فوضى وتسيب لا يد لها فيها، وقد علمت أن الطاقم أجرى في تلك الليلة تسع عمليات جراحية. بدت لي أجمل لحظة في حياتي بسماع أول أهأهأة من صغيرتي قصيرة جدا، بعد أن اصطدمت بالجدار عدة مرات أثناء دفع الممرضة لعربتي بعنف، وأنا أستجديها كي لا تفعل لأنه كان مؤلما جدا لي وقد زال المخدر، إلا أنها استمرت في ذلك، وقد استجديتها أيضا كي لا ترمي بجسدي من العربة إلى السرير وأن تستعين هي وزميلتها في ذلك، كما يفترض، برداء، إلا أنهما حملتاني من أطرافي ورمياني على السرير. ظروف أقرب إلى الاعتقال لم أتوقع أن أبدا أن أضطر للذهاب مشيا على الأقدام ساعات قليلة بعد العملية كي أصل إلى الحمام، ورغم اعتيادي على مشكل انعدام النظافة، إلا أن الوضع هناك فاجأني، مرحاض وحيد في الطابق بآخر الرواق، عفن لا ينظف سوى مرة كل صباح، تستعمله أكثر من ثلاثين امرأة، وعلى المريضة من صباحها الأول، أن تحمل قارورة المصل المعلقة بجسدها وقارورة الجافيل المطهر وو.. وأن تعبر أمتارا عديدة منحنية الظهر خوفا من تمزق الجراحة، لتصل في نهاية المطاف إلى باب بجانبه فتحة تتعدى مساحتها المتر المربع، تطل مباشرة على الساحة، حيث يتجمع الزوار المعلقة أبصارهم بالمبنى.. ولم أفهم الفائدة من حوض الاغتسال ذاك الذي يشغل حيزا هاما بالغرفة، بحنفية ملغاة وبثقب في أسفله، ولا تلك الفتحة الكبيرة والمظلمة في الجدار عند رأس السرير، لكني عرفت أني ملزمة بالحراسة طوال الليل، لأن بقربي ممر مريح لجرذان المستشفى. وفي ماعدا الأسرة الثلاثة، لا يوجد شيء بالغرفة يمكن استعماله لوضع اللوازم، أو لتناول الطعام، وفوق ذلك على المريضات بمن فيهن اللواتي خضعن للجراحة، أن ترفعن الأمتعة عن الأرض عند حضور عاملة النظافة، التي لا يتجرأ أحد ليطلب منها خفض صوتها المجلجل بين الغرف، بينما تنتقل هي فجأة بيديها، من دلو التنظيف إلى تقديم الطعام دون اغتسال. هذا هو نصيب المرأة من أبسط الحاجات الإنسانية في مستشفى بني مسوس. كادت الفترة الصباحية تنتهي وأنا أطلب الطبيب أو مسكنا للألم، وعند المساء احترت في إيجاد واحدة من المكلفات بتحضير الرضاعات للأطفال لأن غرفتهن كانت شاغرة، فبحثت لي إحدى المريضات عنهن في كل الطوابق بينما كانت ابنتي تبكي، وانتهت بإحضار قليل من الحليب من مريضة أخرى. .. وحراس يقتحمون الغرف دون سابق إنذار في ساعة مبكرة من صباح اليوم الثاني، سمعنا صوت رجل ينادي بلقب امرأة، ولم يلبث أن فتح الحارس الباب فجأة دون استئذان، دخل ونظر إلينا ثلاثتنا وفي الوضعية التي كنا عليها ''هل أنت فلانة؟ أنت لا؟''، وخرج ليستمر في البحث غرفةً غرفة. فاجأنا صوت عاملة النظافة، لتخبرنا أن امرأة من الغرفة مغمى عليها في الرواق، فهبت نصيرة لتجد مليكة ساقطة على الأرض، والهاتف يرن بجانبها، وقد أغمي عليها وفقدت صوتها من الألم بعدما خضعت لتغيير الضمادة، إلا أن واحدة من الممرضات لم تهتم لأمرها. كانت كل النسوة بانتظار مرور الطبيب على الغرف، وفي نفس كل منهن غايتها، أما غايتي أنا فكانت أن أطلب إذن الخروج من ذلك المعتقل، لكن زميلاتي أخبرنني باستحالة الأمر ''هل أنت مجنونة تريدين أن يسمحوا لك بالخروج بعد أقل من يومين من العملية؟''. لم أكن أستمع لأقوالهن، واستمريت في تحضير أمتعتي بانتظار زيارة أهلي.. في لحظة هدوء نسبي، ارتفعت موجة من الضجيج المفاجئ، وكانت تلك أصوات الزوار، وهم يلجون الرواق دفعة واحدة. وما أن دخلت عائلتي حتى علمت أنهم طلبوا من الطبيبة إخراجي بعد الزيارة، لكنها رفضت وأخبرتهم أنهم في حال فعلوا، سيكون عليهم تحمل أي تدهور لحالتي الصحية. لم يستدع الأمر أي تفكير، بما أنني لم أكن أتلق أي علاج، ولم أحظ بأي مراقبة رغم خصوصية حالتي بسبب مشاكل الضغط، كما أنه لم يسمح لشقيقتي بالحضور لإرضاع المولودة التي تركت لعناية الله، ولم يتبق لي سوى الحصول على تذكرة الخروج، لأنجو من ليلة أخرى من العذاب. وعجزت عائلتي عن العثور على كرسي متحرك لنقلي إلى السيارة، فجاءنا الفرج من أحد الموظفين الذي طلب إرجاعه بسرعة، ''قبل أن يتفطن المسؤولون. وأنا أخرج من الغرفة كنت أسمع أصوات النسوة من المريضات ومن قريباتهن، يوصينني بنقل ما رأيت بأم عيني هناك، وآلمني جدا أن أتركهن خلفي. استقلينا السلالم لأن المصعد الكهربائي تم تعطيله في تلك اللحظات، ولم أصدق أني نجوت، إلا وأنا أعبر من جديد باب مستشفى بني مسوس. الحديث عن تدهور مستشفياتنا مثل النفخ في الريح، معاناة المرضى من انعدام النظافة، من قسوة المعاملة، موت بعضهم من الإهمال، الحاجة إلى ''المعريفة'' في أبسط الحاجيات، تسريب الأدوية بطرق ملتوية والتعسف في التطبيق الغبي لقوانين بالية وغير مدروسة.. كل هذه الأمور تجعل الجزائريين يتعوذون من المستشفيات أكثر من المرض نفسه، وتجنبها كلما أمكن الاستشفاء بالعيادات الخاصة، أو الاستمرار في التعايش مع المرض، وإن كان ما رأيته من خلال تجربتي في بني مسوس، مجرد نسخة مكررة لأغلب المستشفيات، فذلك سبب إضافي لأتحدث عنه.