تفاصيل الاحكام السجنية الصادرة في قضية "التسفير"    دعما للتلاميذ.. وزارة التربية تستعد لإطلاق مدارس افتراضية    ترامب يبحث ترحيل المهاجرين إلى ليبيا ورواندا    الدوريات الأوروبية.. نتائج مباريات اليوم    جلسة عمل بين وزير الرياضة ورئيسي النادي البنزرتي والنادي الإفريقي    نصف نهائي كأس تونس لكرة اليد .. قمة واعدة بين النجم والساقية    ملكة جمال تونس 2025 تشارك في مسابقة ملكة جمال العالم بالهند    مهرجان «كنوز بلادي» بالكريب في دورته 3 معارض ومحاضرات وحفلات فنية بحديقة «ميستي» الاثرية    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الاتحاد الجهوي للفلاحة يقتحم عالم الصالونات والمعارض...تنظيم أول دورة للفلاحة والمياه والتكنولوجيات الحديثة    تحسّن وضعية السدود    معدّل نسبة الفائدة في السوق النقدية    عاجل: بينهم علي العريض: أحكام سجنية بين 18 و36 سنة للمتهمين في قضية التسفير مع المراقبة الإدارية    القيروان: هلاك طفل ال 17 سنة في بحيرة جبلية!    اللجنة العليا لتسريع انجاز المشاريع العمومية تأذن بالانطلاق الفوري في تأهيل الخط الحديدي بين تونس والقصرين    تحيين مطالب الحصول على مقسم فردي معدّ للسكن    المانيا.. إصابة 8 أشخاص في عملية دهس    تونس تسجّل أعلى منسوب امتلاء للسدود منذ 6 سنوات    عاجل/ تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق    مأساة على الطريق الصحراوي: 9 قتلى في حادث انقلاب شاحنة جنوب الجزائر    عاجل: إدارة معرض الكتاب تصدر هذا البلاغ الموجه للناشرين غير التونسيين...التفاصيل    عاجل/ أمريكا تجدّد غاراتها على اليمن    تونس تستعدّ لاعتماد تقنية نووية جديدة لتشخيص وعلاج سرطان البروستات نهاية 2025    اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتأمين صابة الحبوب لهذا الموسم - الرئيسة المديرة العامة لديوان الحبوب    النّفطي يؤكّد حرص تونس على تعزيز دور اتحاد اذاعات الدول العربية في الفضاء الاعلامي العربي    عاجل/ زلزال بقوة 7.4 ودولتان مهدّدتان بتسونامي    الشكندالي: "القطاع الخاص هو السبيل الوحيد لخلق الثروة في تونس"    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    مدنين: مهرجان فرحات يامون للمسرح ينطلق في دورته 31 الجديدة في عرس للفنون    عاجل/ تسجيل إصابات بالطاعون لدى الحيوانات..    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    الانطلاق في إعداد مشاريع أوامر لاستكمال تطبيق أحكام القانون عدد 1 لسنة 2025 المتعلق بتنقيح وإتمام مرسوم مؤسسة فداء    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    كلية الطب بسوسة: تخرّج أول دفعة من طلبة الطب باللغة الإنجليزية    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    تطاوين: قافلة طبية متعددة الاختصاصات تزور معتمدية الذهيبة طيلة يومين    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    ريال بيتيس يتغلب على فيورنتينا 2-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي عزت بيكوفيتش الوحدة ثنائية القطب: تأسيس للحوار ونبذ للعنف
نشر في الحوار نت يوم 18 - 10 - 2009


في الذكرى السادسة لوفاته: علي عزت بيكوفيتش
الوحدة ثنائية القطب: تأسيس للحوار ونبذ للعنف
توفي علي عزت بيكوفيتش1، رحمه الله، يوم (23 شعبان عام 1424ه الموافق 19 أكتوبر 2003م) في سراييفو، ولكنه ترك لنا تراثا هائلا تمثّل في ثروة فكرية وفي تجربة سياسية وجهادية فريدة
ففي الأولى ترك لنا موسوعتين معرفيتين هما "الإسلام بين الشرق والغرب"2 و"هروبي إلى الحرية"3 وفي الثانية ترك لنا تجربة سياسية قامت على إحياء هوية شعبه والدفاع عنها وكسب الأنصار والمؤيدين لها.
ويهمنا في الذكرى السادسة لوفاته أن نشير إلى بعض الجوانب المضيئة من ثروته الفكرية والنظرية، ولعل أهم ما يستوقفنا في النظرية البيكوفيتشية هو مفهوم "الوحدة ثنائية القطب" التي هي المفهوم المركزي لنظامه الفلسفي.
فماذا يعني هذا المفهوم وما هي تجلياته العملية في الواقع؟
الإسلام: الوحدة ثنائية القطب
في تحليل معمق للثقافة والحضارة4 يثبت بيكوفيتش أن الإسلام أسس نظاما موجها إلى الثقافة والحضارة لأن الإسلام لم يكن يستهدف الثقافة فقط وإنما الحضارة أيضا ويظهر ذلك في دعوة الإسلام إلى الكتابة والقراءة ودعوته إلى معرفة العالم الخارجي ومقاومة الشر والظلم وهي في حقيقتها أعمال لا يقوم بها الدين المجرّد5.
ويشير بيكوفيتش إلى أنه في هذا المستوى تكمن مشكلة الغربيين والصعوبة التي يجدونها في فهم الإسلام. فاليهودية ركزت على العالم الخارجي، وبالتالي على الحضارة، وسعت إلى تحقيق جنة أرضية، لذلك لم يقبل اليهود المسيح الذي يتحدّث عن جنة اخروية وعن عدالة أخروية لأنهم كانوا ينتظرون بطلا قوميا يقيم دولة لشعب الله المختار6. وأما المسيحية فإنها كانت تتجه نحو تأسيس مملكة الرب، ولذلك ركزت اهتمامها على الإنسان الذي يجب أن يتطهّر، وأن يهجر الواقع واقتصرت المسيحية بذلك فقط على بناء الثقافة، ف"إله المسيحية هو ربّ عالم الأفراد ( الناس والأنفس ) بينما يملك الشيطان زمام العالم المادّي."7 ولذلك فإن المسيحية لا تقبل أن يكون النبي بشرا رسولا يتألم ويفرح ويحزن ويمشي في الأسواق،كما لا تقبل اليهودية الجانب الروحي والتعبدي الذي يهتم بمملكة الله في حين أنهم يطمحون إلى تأسيس مملكة الأرض.
على عكس ذلك فإنّ الإسلام دين لا يستهدف الثقافة فحسب وإنما الحضارة أيضا فالإسلام لا يميّز بين الناس في التكليف، فهم كلّهم سواسية أمام الواجب. ويذهب علي عزت بيوكوفيتش ، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري، إلى أن تركيبة الإنسان مرتبطة تمام الإرتباط بثنائية الإنسان والطبيعة، أي باختلاف الواحد عن الآخر رغم تفاعلهما. هذه الثنائية هي نقطة انطلاقه، والركيزة الأساسية لنظامه الفلسفي ومن خلالها يقدّم الإسلام للغرب.
ولبيان ذلك يعقد بيكوفيتش مقارنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه السلام، فالرسول كان يتعبد في غار حراء ثم يعود إلى مكة "أي المدينة"، ليشارك في الحياة المادية، فيناقش ويدافع عن الدين، وأما المسيح عليه السلام فإنه رفض الدخول إلى القدس لأن فيه الفريسين الذين يجادلون كثيرا في الدين. وخلص بيكوفيتش بعد ذلك إلى أن القرآن حوّل الدين المجرد، كما عرفناه في اليهودية أو المسيحية، إلى إسلام بمعنى أنه جعله دينا متكاملا يحتوي ثنائية الروحي والمادي، وهذه الخاصية الإسلامية اختار لها بيكوفيتش مفهوما خاصا وهو "الوحدة ثنائية القطب" ورأى أن هذه الثنائية التي تتبدى في كل جوانب الإسلام بما في ذلك أركانه الخمسة هي صميم الإسلام وبسببها تطورت جميع الميادين العلمية في تاريخ الإسلام.
الوحدة ثنائية القطب: تنبذ العنف وتقضي على التطرف
يثبت بيكوفيتش أن الوحدة ثنائية القطب مفهوم يوجد أينما بحثت في العقل المسلم وخاصة في أركان الإسلام الخمسة.
فالصلاة ليست مجرّد تعبير عن موقف الإسلام من العالم، وإنّما هي أيضا انعكاس للطريقة التي يريد بها الإسلام تنظيم هذا العالم. فالصلاة تعلن أمرين: أوّلهما ، أنّه يوجد هدفان إنسانيان أساسيان وهما الدين والدنيا. وثانيهما أنّ هذين الهدفين رغم انفصالهما منطقيا يمكن توحيدهما في الحياة الإنسانية، حيث أنّه لا صلاة بدون طهارة ولا جهود روحيّة بدون جهود مادّية وإجتماعية تصاحبها. فهو يقول: "إنّ الصلاة أكمل تصوير لما نطلق عليه "الوحدة ثنائية القطب" في الإسلام. ونظرا لما في الصلاة من بساطة فإنّها قد اختزلت هذه الخاصية إلى تعبير تجريدي، وأصبحت بذلك المعادلة أو الشفرة الإسلامية".8 كما يجد بيكوفيتش في الوضوء مثالا آخر للوحدة ثنائيّة القطب ففي الوضوء تتكرّر الثنائية لأن الوضوء نظافة صحيّة ولكن النظافة ليس فقط معرفة وإنّما فضيلة كذلك. فقد أضفى عليها الإسلام شيئا باطنيا. وهذه الصفة تعتبر من الناحية المنهجية خصوصية إسلامية. والنتيجة أنّ الإسلام قد رفع الطهارة إلى مستوى الفكرة وربطها عضويا بالصلاة. حيث يقرر القرآن خلافا لما يتوقّعه أصحاب الدين المجرّد "إِنَّ الله يُحِبُّ المُتَطَهِّرِين". إنّ عبارة مثل " النّظافة من الإيمان" لا توجد إلا في الإسلام ، فالبدن في جميع الأديان الأخرى خارج الإعتبار".9
ونفس المعادلة "الوحدة ثنائية القطب" يثبتها بيكوفيتش في العلاقة التي يؤسسها القرآن في الزكاة، التي هي في أصلها صدقة تطوعية ولكن الإسلام حولها إلى صدقة إلزامية، فكانت بذلك أول ضريبة إلزامية في التاريخ، فكانت "الزكاة نهر كبير من السلع تفيض من قلب إلى قلب .. من إنسان إلى إنسان. الزكاة تقضى على الفقر بين المحتاجين وتقضي على اللامبالات بين الأغنياء. إنها تقلل من التفاوت المادي بين الناس، وتقرّبهم بعضهم من بعض" (الإسلام بين الشرق والغرب، ص 296)
كما أن الإسلام ربط بين الصلاة والزكاة، لتكون الصلاة عنصرا روحيا والزكاة عنصرا اجتماعيا، الصلاة موجهة للإنسان والزكاة موجة للعالم... في الصلاة صفة شخصية وفي الزكاة صفة اجتماعية.. إن الزكاة تجعل الدين في الوقت نفسه سياسة، لأن الإنسان يحتاج إلى دين هو في الوقت نفسه سياسية، وسياسة هي الوقت نفسه أخلاق. وأدت الوحدة ثنائية القطب الموجودة في الزكاة إلى أن يتطور هذا المفهوم في أبعاده الإجتماعية إلى بناء مؤسسات لجمع الزكاة وتصريفها بين الناس فتحولت الزكاة إلى مؤسسة إجتماعية واقتصادية تقاوم الفقر وتقضي عليه ولكنها في نفس الوقت لا تقضي على الأغنياء بل تترك لهم إمكانية الثراء. كما أن عملية مأسسة الزكاة جعلت هذا المفهوم يتطور ليجيب على العديد من الأسئلة الطارئة فنشأت مؤسسة الوقف التي لا يوجد نص صريح يأمر بتأسيسها وإنما كانت إجابة عن عملية التطور داخل النسق الإسلامي ليحل معضلات في توزيع الصدقة وكيفية ضمان نجاعتها واستمراريتها. وباتساع هذه المؤسسة استطاعت المعاملات أن تطور وتحدث تغييرا إجتماعيا وصل إلى أن موظفي الزكاة لم يجدوا ذا حاجة يستحق الصدقة في المجتمع الإسلامي ...
وهنا يتوقف بيكوفيتش ليثبت نتيجة مركزية هدف إليها من خلال تحليله وهي أن عملية التغيير التي أحدثتها الأوقاف كانت عملية لم يصاحبها عنف ولا تخريب، بل كانت ثورة سلمية وعميقة الجذور، وهذا ما يتناقض عند بيكوفيتش مع المقولة المركزية للماركسية، التي ترى أن أي تحول لا بد أن يكون من خلال الثورة العمالية وديكتاتورية البروليتاريا، وما يصاحب ذلك من عنف وتخريب. ولذلك يعتبر بيكوفيتش أن عملية التغيير التي تطمح إليها البروليتاريا طوباوية أكثر منها واقعية، في حين أن التغيير الذي أحدثته الزكاة والأوقاف كان تأثيره فعليا وسلميا.
وهكذا يصل علي عزت إلى النتيجة الأولى من بحثه في مفهوم الوحدة ثنائية القطب في الإسلام التي تثبت أن المسلم لا يمكن أن يكون إرهابيا أو متطرّفا إذا التزم فقط بتعاليم الإسلام الخمس.
كما تتدعم هذه الفكرة، حسب بيكوفيتش، في المسجد الذي منه تنبع العلوم، فالمسجد لم يكن خلال تاريخه مجرّد مكان للعبادة، بل كان بناء فريدا يجمع بين وظيفتي المسجد والمدرسة معا، وينقل لنا بيكوفيتش استشهادا لأرنست بلوك Ernest Bloch يثبت فيه أن كل علماء الإسلام كانوا أطباء. فكان المسجد هو المعادل المادي للمسلمة الإسلامية لوحدة الدين والعلم10. هذه الوحدة التي تتوفر في المسجد سماها علي عزت "المسجدرسة“. واعتبر أن توجه الإسلام نحو العالم الخارجي يمنحه واقعية خاصة في فهمه للإنسان. فتقبُّل الطبيعة بصفة عامّة يتضمّن أيضا تقبل الطبيعة الإنسانية. لأن الإسلام لا يتعسف بتنمية خصال لا جذور لها في طبيعة الإنسان.. بل يميل إلى جعل الإنسان إنسانا. ففي الإسلام قدر من الزهد... وهذا القدر من الزهد أريد به توفير توازن بين الجسم والروح، وهذا الإنسان المتوازن، سوف لن يكون له صراع مع بيئته بل إنه سيوجد اتساقا بين الإنسان وبين مجتمعه، وباندماج الفرد في النسيج الإجتماعي تتنفي من الأساس جذور العنف والإرهاب ليصل بيكوفيتش من خلال دور المسجد إلى تأكيد ما أثبته من خلال الصلاة والزكاة مرة أخرى من أن الفلسفة والحياة على الطريقة الإسلامية لا تسمح بوجود التطرف والإرهاب ويقول بهذا الصدد: " لا شك أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد دمغ التطرف" (الإسلام بين الشرق والغرب، ص 317)

الوحدة ثنائية القطب: تأسس للحوار

بعد أن أثبت بيكوفيتش ان الإسلام دمغ التطرف يمر بنا إلى إثبات أن الإسلام هو أكثر الأديان قبولا للآخر وأكثرها قربا للأديان الأخرى ولكن هناك عوامل متعددة شوهت هذه الصورة وجعلت الغربيين يعادون الإسلام.
ويعتبر بيكوفيتش أن معاداة الغرب للإسلام لا تعود فقط إلى الصدام المسلح بين الإسلام والغرب منذ الحملات الصليبية، وإنما يرجع ذلك إلى التجربة الخاصة للغرب نفسه مع الدين، والتي أدت إلى عجزه عن فهم الإسلام. ويعيد بيكوفيتش ذلك إلى سببين وهما طبيعة العقل الأوربي الأحادية النظرة وإلى قصور اللغات الأوروبية عن استيعاب المصطلحات الإسلامية. وضرب لذلك أمثلة كمصطلح الصلاة والزكاة والوضوء والخلافة والأمة، حيث لا يوجد لها ما يقابلها في المعنى في اللغات الأوربية. فهذه المصطلحات تنطوي على وحدة ثنائية القطب كما رأينا في العنصر الأول من هذا البحث11 مما جعل العقل الغربي عاجزا عن فهمها، وبالتالي كان عاجزا عن فهم الإسلام.
وهنا أشار بيكوفيتش إلى ظاهرة ملفتة في تعامل الغربيين مع الإسلام، فالماديون الغربيون رفضوا الإسلام باعتباره دينا للغيبيات، بينما يرى المسيحيون الغربيون أن في الإسلام حركة اجتماعية سياسية أي اتجاها يساريا يتعارض مع الجانب الروحي للمسيحية. وهكذا أنكر الغربيون الإسلام لسببين متعارضين... ولذلك يرى المؤلف أنه لكي يفهم الغرب الإسلام لا بد أن يعيد لنظر في مصطلحاته التي تتعلق بالإسلام12.
ويعتبر بيكوفيتش أنه لو تم تجاوز هذه العوائق المعرفية لوجد الغربيون أن الإسلام أقرب الأديان إلى التعامل مع الآخر والتحاور معه. إن الثنائية التي يجدها بيكوفيتش في الإسلام، ليست عملية توفيق أو تلفيق بين اليهودية والمسيحية، وإنما هي سمة الإسلام الأساسية تجعله يقبل الآخر وينفتح عليه. فعلى عكس ما كان سائدا في روما التي سرعان ما يتحول الغريب فيها إلى عبد فإن الغريب يستطيع بسرعة الإندماج في عالم الإسلام، حتى لو بقي على معتقده لأن الإسلام ضمن له حرية اعتقاده. ولذلك فقد وجد بيكوفيتش كثيرا من التشابه بين موسى ومحمد (صلى الله عليه وسلم) أو بين اليهودية والإسلام، وهذا التشابه لا وجود له في اليهودية والمسيحية، فتعاليم هاتين الديانتين بمعنى من المعاني في وضع القضية ونقيضها ولعل هذا يفسر ظاهرة العداء للسامية التي سادت في أكثر الدول المسيحية، وهو شعور لا وجود له على الإطلاق بين الشعوب الإسلامية. ولكن أسبابا تاريخية وسياسية كما يقول بيكوفتش أدت إلى تجاهل التقارب بين الإسلام والمسيحية مثلا.
ويَرجع ذلك إلى الثنائية التي تجعل الإسلام أكثر الأديان قدرة على التعايش مع الآخر والقبول به، لأن الثنائية، كما يشرحها بيكوفيتش، هي نوع من الحياة الإنسانية السامية، فالإنسان في المجتمع ابن لهذا العالم وهو فرد فقط عندما يسكن في السماء، ولذلك فهو في العالم مرتبط بالأرض فلا يغلّب الإسلام جانبا على جانب في الإنسان وإنما يحدث التوازن، فالإسلام خصيم لكثير من الأضداد المتطرفة: المؤمنون الضعفاء، والحكام الذي لا يؤمنون بالله، والنفس النقية في بدن قذر، والنفس الفاسدة في جسم مهندم، كان محمد (صلى الله عليه وسلم) خصيما للعدالة التي لا قوة تساندها، كما كان خصيما للقوّة الباغية. فليس المسلمون قديسين حتى وهم يصلون ويصومون.فهم لا يعتزلون في الكهوف بعيدا عن المجتمع ولا يهملون أنفسهم.
ففي الوحدة ثنائية القطب يخدم المبدا العلماني المبدأ الروحي ... ونظافة البدن تساعد على تطهير الروح... وتصبح الصلاة أسمى أنواع التأمل الروحي. إنها وحدة وتكامل بين الثقافة والحضارة تعصم من الإلحاد والتطرف فتنفتح على الآخر لينتفي الصراع، ويحصل التكامل بين الثقافة والحضارة مما يقود إلى التوازن والإعتدال في كيان الإنسان نفسه، لأن الإسلام يصنع إتساقا بين الإنسان ومجتمعه، يقود إلى اندماج الفرد في مجتمعه، وهذه الخاصية تجعل المسلمين أكثر أندماجا في المجتمعات التي يحلون بها13، ويجعل المسلم منفتحا على الآخر مستعدا للحوار معه.
ماذا بقي من علي عزت بيكوفيتش ؟
توفي على عزت بيكوفيتش قبل سنوات ولكن فكره الثري وتجربته الغنية لا يزالان يحتاجان إلى الكثير من العمل. إن الإسلام كما يقدمه بيكوفيتش يقدّم حلا للعديد من الإشكاليات التي يواجها الإسلام، خاصة المسلمين في الغرب، فالوحدة ثناية القطب البيكوفتشية مشروع معارض للعنف مفتوح على الآخر مؤسس للحوار.
وهكذا فإن المسلمين، خاصة في الغرب، في أمس الحاجة إلى بيكوفيتش المفكر والحكيم فهل تمتد أيادي وعقول المسلمين إلى هذا العقل الجبار، وتخرجه من قمقم النسيان كما نسي بعض المسلمين شعب البوسنة، ذات يوم، وهو يتعرض في أواخر القرن الماضي إلى أعنف الهجمات في تاريخه؟
المصادر والمراجع
- علي عزت بيكوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس، مؤسسة بافاريا، ميونيخ ألمانيا الطبعة الأولى 1414 ه/1994
- مصطفى محمد الطحان: علي عزت بيكوفيتش، الداعية.. والمفكّر..والسياسي، رابطة أدباء الشام، على الرابط التالي
- عبد الباقي خليفة- مجلة المجتمع 25/10/2003
- عبد الوهاب المسيري: الثنائية الإنسانية.. وأركان الإسلام الخمسة، على الرابط: إسلام أونلاين
- حسن الطرابلسي: علي عزت بيكوفيتش: الوحدة ثنائية القطب، يوجد هذا البحث على الرابط التالي: الحوار نت
1 للطلاع على سيرة علي عزة بيكوفيتش الحياتية يمكن العودة إلى بحث لنا بعنوان : علي عزت بيكوفيتش: الوحدة ثنائية القطب، على الرابط : الحوار نت
2 علي عزت بيكوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس، مؤسسة بافاريا، ميونيخ ألمانيا، الطبعة الأولى 1414 ه/1994
3 علي عزت بيكوفيتش، هروبي إلى الحرية، ترجمة إسماعيل أبو البندورة، دار الفكر ، دمشق، الطبعة الأولى 1423 ه/2002
4 الثقافة تبدأ عند علي عزت بالتمهيد السماوي بما اشتمل عليه من دين وفن وأخلاق وفلسفة، وهي تعتني بكل ما هو روحي، والثقافة هي تأثير الدين على الإنسان أو تأثير الإنسان على نفسه، فالثقافة هي الخلق المستمر للذات في حين ان الحضارة تعني لديه التبادل المادي بين الإنسان والطبيعة. وهذا الجانب يختلف عن الحيوان فقط في الدرجة والمستوى والتنظيم. فالحضارة هي تأثير الذكاء على الطبيعة أو العالم الخارجي، إنها التغيير المستمر للعالم، وهي استمرار للتقدم التقني لا الروحي.
وحامل الثقافة هو الإنسان وأما حامل الحضارة فهو المجتمع. والحضارة تُعلّم وأما الثقافة فتُنوّر.
5 مصلح الدين كما يستعمله بيكوفيتش يشير إلى معنى محدد وهو المفهوم الغربي للدين والذي يعتبر أن الدين تجربة فردية خاصة لا تذهب أبعد من العلاقة الشخصية بالله، وهي علاقة تعبر عن نفسها فقط في شعائر يؤديها الفرد. وعليه، فلا يمكن تصنيف االإسلام كدين بهذا المعنى فالإسلام أكثر من دين لأنه يحتوي الحياة كلها.
6 يعتبر الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه غارودي، فيما أعلم، أدق من تكلم عن تحول اليهودية من دين سماوي إلى دين قومي في كتابه "الأساطير المؤسسة للدولة الصهيونية"، وهنا لا بد من التنبيه إلى أن بيكوفيتش الذي يلتقي في هذا المستوى مع غارودي لم يصل إلى نفس النتائج التي وصل إليها غارودي. فبيكوفيتش كان هدفه إبراز الوحدة ثنائية القطب في الإسلام التي تقود إلى الإنفتاح على الآخر، في حين أن غارودي كان ينقض مقولة الدولة اليهودية، أو دولة شعب الله المختار، في عمقها وهو ما أثار غضب اليهود عليه.
7 الإسلام بين الشرق والغرب، ص 282
8 نفس المصدر السابق ص 293، مصطلح المعادلة أو الشفرة مصطلح كثر تداوله في الفلسفة في أواخر الستينات والسبعينات ويعتبر كارل ياسبرس Karl Jaspers أحد المعتمدين الأساسيين لهذا المصطلح. ولكننا لا نستطيع ان نجزم أن كان بيكوفيتش قد استعار هذا المصطلح منه أم لا، إلا أن الثابت عندنا أن لبيكوفيتش إطلاع واسع على إنتاج هذا الفيلسوف.
9 نفس المصدر ص 294
10 إشكالية وحدة الدين والعلم، العقل والنقل، الشريعة والفلسفة من القضايا الكبرى الذي انشغل بها العقل المسلم منذ القديم ولعل فتوى ابن رشد "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال" ثم أبن تيمية في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" وأخيرا وليس آخرا كتاب "وحدة التفكير الديني والفلسفي" للدكتور أبو يعرب المرزوقي ليست إلا أمثلة على ما نقول.
11 للمزيد من الإطلاع على أمثلة أخرى للوحدة ثنائية القطب في الصوم، والحج والمسجد وغيرها يمكن العودة إلى بحث سابق نشرناه ويمكن الحصول على نسخة منه على الرابط : الحوار نت
12 المعاجم والموسوعات الصادرة باللغات الأوربية تأكد ما يقوله بيكوفيتش فتجد العديد من المصطلحات متداخلة وغير واضحة، فجزء كبير من المتخصصين في الدراسات الإسلامية لا يستطيعون التمييز بين مصطلحات مثل الأصولية، والسلفية ...وقد حاولنا في بحث سابق لنا أن نتعقب هذه الصعوبة من خلال تحديد مفهوم الإسلاموية والأصولية والسلفية ويمكن الإطلاع على البحث على الرابط: السبيل أونلاين
13 أثبتت دراسة نشرها معهد سينوس في ألمانيا في ديسمبر/كانون الأول 2008 أن المسلمين في ألمانيا مندمجون في المجتمع بشكل كبير وبالتالي فإن المسلّمة التي تشاع عن صعوبة اندماج المسلمين في المجتمع لم تكن سوى فرضية لا أساس لها من الصحة وإنما يروج لها المغرضون


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.