لا يختلف اثنان على أن تونس اليوم ليس كالغد ...، و لا يشك عاقل على أن جيل تونس اليوم يختلف بمراحل كثيرة على الجيل الذي سبقه ، و ذلك لطبيعة الأشياء و قانون التطور الذي يفرض نفسه بقوة ، و يرجع ذلك الفضل بعد الله سبحانه و تعالى الى معجزة انتفاضة سيدي بوزيد المباركة ، التي قلبت كل الموازين و أسقطت قناعات كانت محنطة بتحنط أصحابها ، و مسلمات كانت طائعة كأسيادها ، و من أكبر الموازين المقلوبة : خيار التوريث و سياسة التمديد التي كانت تحصيلا حاصلا . و هذا الانجاز، انجاز سياسي بامتياز يحسب للانتفاضة و رجالها و بطلها محمد البوعزيزي موقد هذه الانتفاضة . و من معجزات الانتفاضة أيضا ، أنها أسقطت قناعا كثيرا ما كان يرهبه القريب و البعيد ، و يرهبه الصديق و العدو ، و لكن هبة شبابنا الملتهبة أتبتت هشاشة النظام المتهالك و خواء هيكله العظمي من أي روح أو سلطة حقيقية يمكن لها أن تصمد أمام الحشود الغاضبة و لو لأيام دون تقديم تنازلات كالتي قدمها صاغرا لصد رياح التغيير التي تنسف بكل ما يعترضها في طريقها . و من معجزات الانتفاضة التي لا تنتهي دوما أنها صدمت الكثير... ، و أدهشت الكثير... ، و فاجأت الكثير... ، و أرهبت الكثير... ، لكنها أيضا أثلجت صدر الكثير من غلابة المستضعفين و العاطلين و المحرومين و الفقراء و المظلومين ، و النخبة حتما ، كانت ضمن هذه الفئة التي تنفست الصعداء لزوال شبح الديناصور الوهمي و الذي كان في الحقيقة ظل ديناصور خشبي و ليس لحما و دما . و من دروس الانتفاضة المباركة أثبتت أنه كله ممكن ، و أنه ليس من المستحيل زعزعة عروش وهمية ، أو قناعات بديهية ، أو للاطاحة بأسماء كبيرة في عيون أصحابها ، وأن عاصفة غضب أهلنا الثائر بتونس الصابرة تنسف بكل قوانين اللعبة و الحسابات السياسية التي أخذناها بفصول الجامعة ، و تصنع لنفسها قوانين تخصها و تخص الظرف التي هي فيه ، و تخص الحدث التي تريد انجازه ، بمعنى أن الانتفاضة تصنع قانونها الذي تريده ، و تعبد الطريق الذي تريد أن تسلكه لتقطف ثمار النصر المبين .
ان الحادثة الأليمة و التي على اثرها اندلعت انتفاضة سيدي بوزيد ، هي حادثة متكررة يوميا في كل سوق من أسواق تونس ، و في كل مدينة من مدن الجمهورية ، حيث ،،، بعدما يتخرج الشاب من قاعة الجامعة ، و بيده اليمنى شهادة تفوقه التي يفتخر بها ، معلنة عن انتهاء سنين الدراسة و تحوله من مقاعد التعليم الى مواطن الشغل ، و لكن حينما يخرج للحياة يصطدم بواقع مرير ، وعالم لم يكن يتوقعه لا هو ، و لا أهله الذين فرحوا بيوم تخرجه ليتولى مسؤولية الانفاق عل نفسه أولا ، ثم على بقية أفراد الأسرة ، و يخفف العبء على الوالد الذي أشرف على التقاعد و تعب من سنين السهر و الجري على راحة الاولاد ، و لم يكن أحد يظن أن شابا بمثل هذه المواصفات و الشهادات العليا يبقى عاطلا ، و معدما لسنين طوال ، و بدلا أن يتولى مهمة سد ثغرات الانفاق المنهكة للعائلة ، زادت عطالته ارهاقا و ضيقا في العيش للأسرة بأكملها ، و أصبح الانتحار خيارا يفرض نفسه بقوة بعد انسداد الأفق و صدود المسؤولين عن مقابلة طوابير العاطلين حاملي الشهادات العليا حتى لمجاملتهم أو لاستماع شكواهم والتخفيف عنهم في المصيبة التي نزلت عليهم من دون ارادتهم . هذه الحالة التي مر بها و عاشها البوعزيزي ، هي نفسها و بتفاصيلها الدقيقة تتكرر يوميا في المشهد التونسي على ألاف شباب خريجي الجامعات و الذي يزيد عددهم وحسب الاحصاء الرسمي للدولة على 131 الف عاطل عن العمل الذين يمثلون نسبة %22 من جملة العاطلين بالبلد و الذي يفوق عددهم نصف مليون عاطل .
تخيل أيها القارئ الكريم...! هذا الكم الهائل من الجماهير العاطلة ، أو لنقل هذا العدد الهائل من الجيش المتمرد ...! تخيل اذا ما تنظم...! و انتفض...! و طالب بحقه في الحياة...! ، ألا تسقط الحكومة التونسية في رمشة عين ؟ حادثة البوعزيزي ، المنفردة ، و المعزولة ، و الغير مقصودة ، أنظر ماذا فعلت...؟ وما آلت اليه من نتائج...! أطاحت بأربعة وزراء و ثلاثة ولاء ؟....فماذا يحدث...؟ لو انتفض المائة و واحد و ثلاثون ألف عاطل ، متعطشا للحرية و الكرامة ، و هو يسمع ويشاهد بعينه أموال البلد مهدورة في وسط قلة قليلة من المافيا ، التي كانت قبل التحاقها بالقصر مثلها مثل بقية العائلات التونسية بالاحياء الشعبية . و أما بالمشهد الثاني... و في ظل نعيم العائلة الحاكمة السيدة الأولى ، كما تحلو أن يلقبها الناس ، تشتري معطفا ب 30 ألف يورو ... و قفطان ب 6 ألف يورو و ذلك فقط لحضور مناسبة واحدة ، و في المناسبة التالية تشتري طقما آخرا بنفس القيمة أو أقل بقليل حتى لا يشهدها الملأ بنفس المظهر السابق خاصة و هي من عشاق الموضة و ميلها للبذخ و التبذير ، أما زوجها رئيس الجمهورية و على حسب مجلة فوربس الامريكية ، تبلغ ثروته 5 مليار دولار قيمة العينات و الممتلكات المعلومة ، و ذلك لسنة 2007 ... أما راتبه على حسب مجلة شباب 20 تحت عدد 37 ، و التي قدرته ب 551 دينار في الدقيقة ، و قدرت نفقات مؤسسة رئاسة الجمهورية المدرجة بميزانية الدولة لسنة 2008 في حدود 61,395 مليون دينار تونسي . ان هذه المفارقة الشاسعة و الهوة الكبيرة التي تفصل بين القيادة و القاعدة لهي كفيلة باشعال لهيب الانتفاضة و تعميق جروح المواطن الدامية بسبب سوء توزيع الثروة و سوء ادارة البلاد و تفشي الفساد على أعلى مستوى هرم الدولة . أما اذا أطلقنا العنان للقلم و الحديث عن ثروات عائلة الطرابلسي وعائلة بن علي ثم الماطري الشاب الملياردير فان قلم الحبر يجف و الآلة الحاسبة لا يستوعب حجمها الارقام الطوبلة التي ترمز للملايين من الدولارات و الثروة المستجدة للعائلة الحاكمة في وقت وجيز جدا و يسرعة هائلة . ان انتفاضة سيدي بوزيد المباركة عرت الحكومة وأسقطت عنها ورقة التوت التي كانت تستر عورتها وأصبح ثراؤها الفاحش و سوء ادارتها يشبه او لنقل مطابقا لادارة عصابات النهب الغير محترفة لأن في عالم المافيا هناك عصابات على درجات من الترقي و حسن ادارة الاعمال في كامل السرية و الكتمان . حمادي الغربي نواصل باذن الله في العدد القادم رقم 3