غارات إسرائيلية عنيفة تستهدف مواقع مختلفة في سوريا    علماء يحذرون.. وحش أعماق المحيط الهادئ يهدد بالانفجار    تفاصيل الاحكام السجنية الصادرة في قضية "التسفير"    دعما للتلاميذ.. وزارة التربية تستعد لإطلاق مدارس افتراضية    ترامب يبحث ترحيل المهاجرين إلى ليبيا ورواندا    الدوريات الأوروبية.. نتائج مباريات اليوم    جلسة عمل بين وزير الرياضة ورئيسي النادي البنزرتي والنادي الإفريقي    نصف نهائي كأس تونس لكرة اليد .. قمة واعدة بين النجم والساقية    ملكة جمال تونس 2025 تشارك في مسابقة ملكة جمال العالم بالهند    مهرجان «كنوز بلادي» بالكريب في دورته 3 معارض ومحاضرات وحفلات فنية بحديقة «ميستي» الاثرية    عاجل: ألمانيا: إصابة 8 أشخاص في حادث دهس    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    تحيين مطالب الحصول على مقسم فردي معدّ للسكن    الاتحاد الجهوي للفلاحة يقتحم عالم الصالونات والمعارض...تنظيم أول دورة للفلاحة والمياه والتكنولوجيات الحديثة    عاجل: بينهم علي العريض: أحكام سجنية بين 18 و36 سنة للمتهمين في قضية التسفير مع المراقبة الإدارية    القيروان: هلاك طفل ال 17 سنة في بحيرة جبلية!    تحسّن وضعية السدود    معدّل نسبة الفائدة في السوق النقدية    اللجنة العليا لتسريع انجاز المشاريع العمومية تأذن بالانطلاق الفوري في تأهيل الخط الحديدي بين تونس والقصرين    مأساة على الطريق الصحراوي: 9 قتلى في حادث انقلاب شاحنة جنوب الجزائر    تونس تسجّل أعلى منسوب امتلاء للسدود منذ 6 سنوات    عاجل: إدارة معرض الكتاب تصدر هذا البلاغ الموجه للناشرين غير التونسيين...التفاصيل    عاجل/ تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق    تونس تستعدّ لاعتماد تقنية نووية جديدة لتشخيص وعلاج سرطان البروستات نهاية 2025    اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتأمين صابة الحبوب لهذا الموسم - الرئيسة المديرة العامة لديوان الحبوب    النّفطي يؤكّد حرص تونس على تعزيز دور اتحاد اذاعات الدول العربية في الفضاء الاعلامي العربي    عاجل/ زلزال بقوة 7.4 ودولتان مهدّدتان بتسونامي    الشكندالي: "القطاع الخاص هو السبيل الوحيد لخلق الثروة في تونس"    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    مدنين: مهرجان فرحات يامون للمسرح ينطلق في دورته 31 الجديدة في عرس للفنون    عاجل/ تسجيل إصابات بالطاعون لدى الحيوانات..    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    الانطلاق في إعداد مشاريع أوامر لاستكمال تطبيق أحكام القانون عدد 1 لسنة 2025 المتعلق بتنقيح وإتمام مرسوم مؤسسة فداء    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    كلية الطب بسوسة: تخرّج أول دفعة من طلبة الطب باللغة الإنجليزية    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    تطاوين: قافلة طبية متعددة الاختصاصات تزور معتمدية الذهيبة طيلة يومين    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    ريال بيتيس يتغلب على فيورنتينا 2-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسباب ثورة 14 جانفي 2011: ( الجزء الأوّل )
نشر في الحوار نت يوم 25 - 01 - 2011

من المُثير لحفيظةِ كلّ متتبّع و دارس للشّأن التُّونسي، بعينٍ ثاقبة و لُبٍّ يقِظ و قلمٍ سيّال أن يحكُمَ على هذه الثّورة، بأنّها وليدةُ الآونة الأخيرة و بأنّها لا تخضع لأدوات تحليل أيّما كانت هذه الأدوات، سوسيولوجيّة أو تاريخيّة أو حتّى إيديُولُوجيّة ... و كأنّها فصيلٌ نادر و هجينٌ أو شاذٌ يُحفظُ و لا يُقاسُ عليه، و هذا التّحليل مع الأسفِ الشّديد لا يخلُو من السّطحيّة المُفرَطَة حتّى لا نقُول من الغباء !
إذا ما سبرنا أغوار الوضع الّذي مرّت بهِ تونس على مدى العقود الثّلاثة الأخيرة، و إن كانَ علينا لِزامًا أن نجتثَّ نقطةً من نقاط التّاريخ نبدأُ منها و لتكن بداية الرّحلة من يوم السّابع من نوفمبر لسنة سبعٍ وثمانين و تسعمائة و ألف من القرن الماضي، يوم أطاح الجنرال المخلوع بالرّئيس الذي بلغ من الكِبَرِ عِتِيًّا الحبيب بورقيبة بانقلاب خوّلَ لهُ مسكَ زِمام الأمُور، و كان المشهدُ السياسي التّونسيّ إذ ذاك كالمِرجل، يُحرّكُه الإسلامِيُّون و هُم طّيفُ السّوادِ الأعظم في تلكم الأيّام، طبعًا جنبًا لجنب مع التّيّار القومي النّاصريّ و التّيّار الشيّوعي بمختلف أطيافهِ، و قد كان يومئذٍ الإتحاد التّونسيّ للشّغل لهُ ثِقلُه على مُستوى الشّارع التّونسي و تعبئةِ الجماهير بالرّغم من محاولات نظام بورقيبة من تهميشهِ تارةً و استعاب بعض رموزه تارةً أخرى، إلاَّ أنّ محاولاتهُ باءت بالفشل إجمالاً عدى بعض الإستثناءات.
بدأ الجنرال الهارب بادئ ذي بدئ بإلقاء طعمٍ مع الأسف سقط ضحيّته الشّارع التّونسي الذي كان ميّالاً في غالبيتهِ السّاحقة لتبنّي التّوجّه الإسلامي الذي ظهرت تداعياتهُ جلِيًّا في امتلاء المساجد بالشّباب و انتشار الحجاب في ربوع الوطن، و كان حينئذٍ حزب النّهضة الإسلاميّ رائد هذه الظّاهرة الّتي خيّمت على المشهد التّونسي في تلكم الحِقبة.
فلمّا رمَى الجنرال المخلُوع هذا الطُّعم، إلتقفهُ الإسلاميُّون بسرعة رهيبة، مُناديًّا بأن لا رئاسة مدى الحيّاة و بمحاربة الفساد و تتبُّعِ المُفسدين و بإطلاق عِنانِ الحُرِّيات و بِ[1]...
حتّى انطلت الحيلة على غريمه الإسلاميّ الذي كان كما أسلفت المُنافس الحقيقي الذي يُمثّل السّواد الأعظم من الشّعب التُّونسيّ إلى جانب التّيار القوميّ، النّاصريّ، العُروبي و التّيّار الإشتراكي بأطيافه المُختلفة و على وجه التّخصيص الطّيف الشّيوعي الماركسيّ، مُتمثّلاً في الوطّد و حزب العُمّال الشيوعي و الحزب الشّيوعي التّونسيّ...و تُرجِمت أوجه التّيار الإشتراكيّ على اختلاف أطيافه على السّاحة الطُّلابيّة بالإتحاد العام لطلبة تُونس UGET، و لكن إلى حدّ مطلع التّسعينات فقد كان حزبُ النّهضة الإسلاميّ يقوم بدور رياديّ على مستوى القاعدة الجماهيرّيّة، عُمّاليّة كانت أو طُلاّبيّة مُتمثّلةً في الإتحاد العام التُّونسي للطّلبة UGTEو إن غابت الحركة على مستوى التّمثيل السّياسيّ الرّسميّ.
فكُسِرَ القيد المضروب على الحُرّيات و لو مؤقّتًا حسب خطّة الجنرال بن عليّ، فأُطلِقت الحُرِّيات التي و إن كانت قدْ قُيِّدت في أواخر عهد بورقيبة و لكنها بالمقارنة مع العهد الذي يليه فلا وجه للمُقارنة !
فأدلى الإسلاميُّون بدلوهِم في تعبئة الجماهير و تنظيم المُنتديات و النّدوات و المهرجانات الثّقافيّة و الإبداعيّة و المحاضرات و الدّروس و المُساهمة في الصّحافة المكتوبة عن طريق جريدة الفجر الأسبُوعيّة التي تنفذ أعدادُها قبل منتصف نهارها الأول و هو أمر لم يعرفه الشّارع التّونسي قطُّ، و ذلك لتجرئها الإعلامي غير المسبُوق في تُونس و تعاطيها للمسكُوت عنه إعلامِيًّا، و كان النصفُ الآخر من المشهد الإعلامي المكتوب تتقاسمه صحيفة الإعلان الشّيوعيّة التي تحظى بأهميّة لا بأس بها و البيان لشباب تونس المجذوب لرياضة كرة القدم... حتّى استطاعت أجهزة بن علي الاستخباراتيّة أن تُجَهِّزَ قائمة اسمية لرؤوس الحركة و نشاطاتها و ما يدعُون إليه و أعضائها و مطالبهم و تحرُّكاتهم حتّى طالت القائمة المُتعاطفين للحركة و ذوِيهِم حتّى تُجْهِزَ عليهم فردًا فردًا في خُطّةٍ عُرِفت بخُطّةِ: تجفيف منابع التّديُّن و تقليم الأظافر أي تركيع كلّ من سوّلت لهُ نفسه بالمشاركة في الحيّاة السّياسيّة التي كان يخطّطُ لها أن تكون بزعامة الحزب الواحد و أحزاب كرتونيّة يفرّخُها الحزب الحاكم و هو حزب التّجمّع الدّستوري كي تبدو السّاحة السياسيّة مفعمة بأحزاب و معارضة وهميّة، و في حقيقة الأمر تبيّن أن هذا الحزب الحاكم كان عبارة على مليشيّات و أبواق و زبانيّة الجنرال يأتمرُون بأمره و يصفّقُون له و يزمّرُون بُكرةً و أصيلاً...
و شرعَ الجنرال المخلوع في سياسة التّرهيب التي طالت نارها رموز الحركة الإسلاميّة أمثال الشيخ راشد الغنّوشي و المُرابط حمّادي الجّبالي و المُرابط الصّادق شورو و الشّيخ عبد الفتّاح مورو... و امتدت حملة الإعتقالات على مدى عقدين الرّموز على المستوى الوطني و الجهويّ و الأعضاء و المتعاطفين و عوائلهم، و شدّد الخناق على هؤلاء و كُمّمت أفواههم و أفواهُ ذويهم بالحديد و النّار، و فُتحت محاضِرُ الإتهام التي يُمضي عليها أسفله من لدُنِ الضّحيّة بترغيم الجلاّد و ترهيب المُتّهم ب" الإرهابِ و الأصُوليّة..." في مخافر المراكز الجهويّة و المحليّة و في دهاليز وزارة الدّاخليّة التي تعني إمّا الموت أو العاهة المُستديمة أو الإغتصاب أو الإنتحار خِشية هذه الإنتهاكات، و هذا التّوصيف الأخير شديد الدّقّة و الموضُوعيّة، فكم من مُحقّقٍ معه من أبناء الصّحوةِ الإسلاميّة التّونسيّة تلفّظ أنفاسهُ تحت سياط جلاّديّ نظام بن عليّ و ترهيبهم و كم من شرفاء هذه الصّحوة جيءَ بأعزّ ما لديه حتّى ينتهكَ عِرضهُ من مُجرميّ الدّاخلية على مرأى و مسمع منه، و كم من شريف أُقعِدَ على القوارير المكسّرة و هو عارٍ، و كم من شيخ يحمِلُ كتاب الله بين أضلُعِه حُقّق معه و هو عارٍ و استُبيح عِرضه، و كم أفرز هذا الصّلف و الإستبداد و القهر و القمع من أمٍّ ثكلت أبناءها و كم من أب فارق أبناءه و كم من حبيب فارق حبيبه كَرهًا و غصبًا، فدامت هذه القبضة الحديديّة على مرأى و مسمع من الأنظمة و خاصّة الغربيّة، فغضّت عنه الطّرف لأنّ " بن عليّ " كان المُدلّل لهذه الأنظمة لا لشيءٍ إلاَّ لأنّه كما يعتبرونه استطاع أن ينسِفَ شبح الإسلاميين من المشهد التّونسيّ على كلّ الأصعدة.
و لكنّ المِرْجَلَ لم يتوقّف غليانُه، فمُلأت السّجون و المُعتقلات و مخافر البُوليس و أصبح كلّ من يمثّل السّلطة التنفيذيّة المُتغوّلة محقّقًا بل جلاّدًا يُخشى منه و يُقرأُ لهُ ألف حِساب، فاندسّ البوليس السِّرّي في الشّارع و الجامعات و المدارس و المعامل و الإدارات و بين الخواص و العوام، فأصبح التّونسيّ يخاف من ظلّه، بل يخشى من نفسه لعلّ زلّة لسانه تغلبه فيهلك.
هكذا استطاع هذا النّظام القمعي، البوليسي، الاستخباراتي أن يُفرّق بين الأخِ و أخيه و المرء وذويه و الأب و بنيه... فخيّم الخوف على تُونس من أقصى شمالها إلى أقصى جنُوبها و من غربها إلى شرقِها، و أحكم الجنرال قبضته على المشهد في تونس بتعتيم الإعلام و تقسيم المراكز الحسّاسة لمن يثقُ في بطشه و ولائه، و أطلقت يده و يد كلاب حراسته، و أخذ يضربُ كلّ مقوّمات التّديّن بحظر ارتداء الحجاب و ذلك بتفعيل المنشور الوزاري المشؤوم ع108دد المستورد من بقايا نظام بورقيبة، و اعتبار إطلاق اللِّحِيّ و غيرها من مظاهر التّديّن هي قرائن تؤدّي بصاحبها إلى ما وراء الشّمس ( أي السّجن ) و غلّقَ المساجد التي أصبحت تُفتحُ و تُغلقُ بمجرّد انتهاء صلاة الفريضة و همّش دورها التّربويّ و الإجتماعي و الأخلاقيّ و حتّى العَقدي و عيّن أئمّةً ضالّين و مضلّلين بل و من جلاّديه، بالطّبع عدى الشّرفاء من المؤمنين الصّادقين الذين قالوا كلمة حقّ عند سلطانٍ جائر فكان جزاؤهم التّنكيل و التّعذيب و السّجن و المعتقلات أو في ألطف المصير هو الإبعاد الذي يطالُ الأئمّة الطّاعنين في السّنّ...
مع المحافظة دائمًا على مشهدِ رفعِ الآذان على القناة الوطنية التي أصبحت فيما بعد قناة 7، نسبةً للسّابع من نوفمبر، عندما اطمأنّ الجنرال المخلوع على كتمان خوره و إبراز مظاهر التّديّن بمجرّد الاحتفال بالمولد النّبويّ أو بتخصيص يوم لارتداءِ اللّباس التّقليدي التّونسيّ الذي يتلخّصُ في الجُبّة و القلنسوة و غيرها من ملابسنا الإسلاميّة أو بإبراز صوره و هو في " مسجد ضرار " يرتدي هذا الصّنف من اللّباس و الذي كان بالأمسِ يحملُ اسمه قرب قصره الذي لم يدم له بقرطاج أو بإبراز مظاهر التّصوف المُبتذلة كالحضرة و غيرها من المظاهر التي كان يؤيّدُها بُغيّةَ ضرب أي فكر إسلامي مُستنير، بل و في الآونة الأخيرة قبل أن يُطاحَ بقبضته البُوليسيّة فتح الباب على مصراعيه لفرقٍ شاذّةٍ و مُبتدِعة لا تمتُّ للفكر الإسلاميّ بأيّ صِلة بل و الإسلام منها براء، لا لشيءٍ إلاَّ لضربِ مظاهر التّديّن الحقيقي، بل و شجّع القنوات التي تنخر عظم دين الأُمّة و ذلك بفتح باب العُريِّ و السّفُورِ بل لا أبالِغُ إذا ما وصفتُ ذلك بالفجور كقناة " نسمة "، و أغدق على أفلام الرّداءة و الرّذيلة و القائمة تبدأ " بعصفور السّطح " الذي يُمكن أن يكشف إلاَّ عن واقع ذويه رُبّما و لكن يتعارض قطعًا مع أصالة و جذور السّواد الأعظم في تونس.
و لا يزالُ المِّرجَلُ في حالة غليان، و أدرك شبابُ تونس الذي سئمت آذانُه التّطبيل و التّزمير من الوشاة الذين يراهم صباح مساء في قناة 7 أو في قناة 21 أو في قناة حنبعل مؤخّرًا أو نسمة... الذين كانُوا ينفخُون في " عهد التّغيير " فيُصبحُ وَردِيًّا بمدادهم و نعيقهم على الأثير و الفضائيّات حتّى أصبحُوا يتحدّثُون عن مُعجِزةٍ اقتصاديّة تُونسيّة و وجهُ الديكتاتُور يظهر في الشّاشات و كأنّه ذلكم العطوف، الرَّؤوف في زياراته الفُجائيّة حتّى أصبح السُّذّج من أزلام النّظام يُشبّهُونه بالفارُوق رضي الله عنه و أرضاه، و حاشى لله أنّ نُشبِّهَ فاروق الأمّة بقاذوراتها، بل أنّ التّاريخ بيّنَ جلِيًّا بأنّه كان من الأحرى أن يُشبّهَ بأبي جهل فرعونَ هذه الأُمّة، و لم يغِب عن الأنظمة الغربيّة التي ترعرع بين أحضان أجهزتها المخابراتيّة أن تُزيّنَ الصُّورة التي اضّمحلّت بتقادمه في الزّمن و أسفرت عن وجهه القبيح، لأنّه استطاع أن يُكمّم أفواه المُسلمين لا أقول الإسلاميين، لأنّ بن علي قمع الإسلام و استهدف الإسلام في تونس و لم يستهدف الإسلاميين فحسب و القرائنُ التي لا تقبل للدّحض جليّة، غلّق المساجد التي تُمثّل القلب النّابض للإسلام و تتبّع مُرْتَادي المساجد، فمن ارتاد المساجد في صلاة الصّبح في مرّاتٍ مُتتاليّة و خاصّة من الشّبابِ و الكُهول فهو يُمثّل خطرًا على النّظام فيُوصفُ بُهتانًا و ظُلمًا بأنّه إسلامي و بأنّهُ أصولي و مُتطرّف و " خوانجي " فيُرفعُ اسمهُ للمخافر و دور التّجمّع ( التي حرقها شباب ثورة 14 جانفي ) التي يتجنّدُ أعضاؤها و مليشياتُها للقبض عليه في اللّيل الدّامس بقوّة البُوليس و ترهيب ذويه، فيؤخذُ إلى مكانٍ سحيق، و في بعض الأحيان يُنكرون على أهله بأنّه لدى البُوليس، و حينئذ فاعلم أنّ ابنك أو أباك أو أخاك أو قريبك أو جارك الذين سطوا على منزله في أنصاف اللّيالي بأنّه في دهاليز الدّاخليّة أو في " بوشوشة " أو في أحد المخافر ليذُوق ويل التّعذيب و التّنكيل الذي يفوق حجمه التّصوّر، و الله الصهاينة لم يُطلقُوا أيديهم كما أطلقها هذا الطّاغية!
هكذا كان المشهدُ في العشريّةِ الأُولى ما بين أواخر الثّمانينات إلى أواخر التسعينات، و حتّى لا أغفل عن إتمام مشهد المُعارضة الحقيقي، في هذه الأيّام لا يُنكِرُ أحد الوجود اليساري الذي تمثّل خاصّة على المستوى الجامعي و الطّلابي في الاتّحاد العام لطلبةِ تُونس و على المستوى العُمّالي في الحزب العمّالي الشّيوعي التُّونسي و على رأسه المُناضل حمّة الهمّامي الذي يُنكِرُ نضاله إلاّ جاحد و زوجته الأستاذة راضيّة النّصراوي التي آزرت زوجها و كانت من وجوه المُعارضة الحقيقيّة البارزة في تُونس و من باب الإنصاف نذكُرُ سِهام بن سِدرين المناضلة الحقُوقيّة التي لاقت من أزلام و زبانيّة النّظام نصيبها من التّنكيل و التّتبّع و المضايقة و التّعذيب و الأستاذ محمد عبُّو و زوجته و العديد من المُناضلين بالكلمة و الحرف في وجه الطّاغية المُستبدّ و لا يتّسِعُ المجال لذكر كلّ الأسماء، و لكن من الحصافة أيضا أن نُذكِّر بأنَّ المُستفيد من ضرب التّيار الإسلامي حينئذٍ كان المُتنطّعين من يسارِ السُّلطة من رمُوز الشّيوعيين و على رأسهم محمّد الشّرفي الذي نال رضا الجنرال المخلوع و أحكم قبضته على وزارة التّربيّة التي حرّف برامِجها و ضرب كلّ ما يمتّ للإسلام بصِلَة.
كما أنّ السّيد المُنصف المرزوقي يومها في هذه العشريّة الأولى لم يكُن لهُ دَوِيٌّ يُسمَعُ، فقد كان على ما أظنّ في رابطة حقوق الإنسان التي كان يُشكُّ في استقلاليتها و شفافيتها بل و كان قابَ قوسينِ أو أدنى أن يكون دُميّةً في يدِ الطّاغوت و لكنّ الرّجُلَ سريعًا ما استدرك و قال لا للطّاغية، فذاق و بال أمره من سياسةِ الإقصاء و التّهميش و المُلاحقة عن بُعد لأنّ السيّد المُنصف المرزوقي حقوقي له وزن على مُستوى الرابطات الإقليميّة لحقوق الإنسان، فكان " بن عليّ " يخشى هذا الصّنف ممن كانت لهم شبهُ حصانة خارجيّة بحُكمِ دوره الحقُوقي الذي يلعبه.
كلُّ هذه المِحن التّي مرّ بها المُناضلُون الحقيقيُّون من التّوانسة المنتسبُون للتّيارات المُختلفة، رغم شِدّةِ الوطأةِ التي كانت مُسلّطة على الإسلاميين و ذويهم و حتّى المُتعاطفين معهم و حرمانهم حتّى من وظائفهم و سجنهم و توقيفهم للتعذيب و التّحقيق و التّنكيل و مُحاصرتهم على كلّ الأصعدة حتّى حرمانهم من لُقمةِ العيش و تشتيت عوائلهم و ذُرِّيتِهم و الله لا نُبالِغُ البتّةَ في ذلك و الله على ما أقولُ شهيد، و طالت هذه اليد البطّاشة بنفرٍ من بقيّة المُعارضة التي تمثّلت خاصّة في اليسار.
و العبد الضّعيف ينقُلُ شهادةً يُحاسبُ عليها يوم القيامة و التي لم يستثنيه فيها النّظام السّابق بشيءٍ من ظلمه و صلفه حتّى كان قدرُنا أن نركبَ البحر من مسقط رأسنا مدينة قابس على زورق قد يغرقُ قبل الوصول حتّى نصل بعون الله و حِفظهِ إلى مرافئ " لمبادوزة "، مُقتفينَ أثر بِكر أبينا الذي فرّ بجلدِهِ برًّا ليشُقَّ صحاري ليبيا و النيجر... في صحاري إفريقيّا حيث الأسُود و الضّباع و الأفاعي و لكنّها أخفّ وطأةً من نظام " بينُوشي العرب " حتّى يصلَ إلى السينغال ليس في رحلة " سفاري " و لكن فارًّا بدينه من ديار الإسلام إلى ديار الكفر بعدما سُجِن و عُذّب حتّى ضاقت عليه الدُّنيا بما رحُبت، فكان خيارُه الوحيد الهجرة إلى حيث لا بن عليّ و لا زبانيّته و لا داخليّته و لا وشاته و لا جلاّديه!
تاركين وراءنا أبًا و أمًّا عيل صبرهما و كان همُّهما الوحيد لا أن يعيش أبناؤهما تحت أحضانهما من هَولِ ما عانوه و لكن حتّى يلوذوا فرارًا بأرواحهم من طغيان " بن عليّ " و زبانيّته!
حتّى حال الموتُ دونهما، و لم نؤتى فُرصةَ الصّلاة عليهم حاضرًا و لا حتّى تشييعِ جثمانهما الطّاهر إلى قبريهما الذي نسألُ الله أن يجعله روضة من رياض الجنّة و لكلّ موتى المُسلمين و أن يجمعنا بهما في جنّاتِ النّعيم بحضرةِ النّبيّ الكريم عليه أفضل الصّلاة و أشرف التّسليم، فهل مُقاضاةُ بن عليّ و أعوانه كافيّة بأن تُلملِمَ جراحنا ؟
و ما نمثّلُ نحنُ إلاَّ سطرًا من آلاف الأسطُر في صحائف الجنرال المخلوع الوَسِخةِ و الدّنيئة التي هي بئس الوزر على كاهله و كاهل أعوانه اليومَ ناهيكَ عن يومِ القيامة.
[1] بيان طويل عريض يُعرفُ ببيان السابع من نوفمبر وعود و أكاذيب لا نهاية لها، أطلقها الجنرال المخلوع " زين العابدين بن عليّ " غداة انقضاضه على السلطة.
الشيخ محمد حبيب مصطفى الشايبي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.