تيسير العبيدي تبدو كلمات النشيد المؤثر "لحن الحياة" للشاعر التونسي الرائع أبو القاسم الشابي، قد أثمرت حالة شعبية نادرة في تونس، وامتدت صداها لتشعل نفوس كثيرة تستعد للإنعتاق من الظلم والقهر والاستبداد في بعض دول عالمنا العربي. هذا البذار الشريف من الكلمات كسّر قيد الاستبداد في تونس، إنما لم يجلِ ليلها بعد... ولكن مما لا شك فيه أن انبلاج الفجر ما يزال في بدايته، فغسق الانتفاضة لم يكتمل فصوله بعد، والأمل كبير بالشعب الذي أراد الحياة، حياة الأحرار، وحياة العزّ. كل متتبع للشؤون التونسية، يعلم جيداً أن عملية إنقاذ تونس تقع بالدرجة الأولى على عاتق رجال الدولة، ومؤسساتها الناظمة لشؤون الشعب التونسي، وبالدرجة الثانية، على تشكيلة حكومية انتقالية ترسيخ مفهوم الإدارة، وبلورته بعمليات تؤدي إلى قيام المجتمع العادل، العصري والقادر على جمع الشمل الوطني بعد هروب الطاغية بن علي. تبدو الحكومة الحالية المؤقتة وكأنّها لا علاقة لها بالمصلحة العامة، فهي تردد مبادئ الإصلاح والتغيير ترديداً ببغايا، وتطلق شعارات شكلية دون هدف، ومعظم وزراءها من فئة سياسية اجتماعية ترى في الحكومة القائمة تجسيداً لمصالحها، وتعبيراً عن نظرتها السياسية إلى بقية الأطراف السياسية، الاجتماعية والفكرية المتشكلة منها بنية المجتمع التونسي، وقد جاؤوا إلى الحكومة ليحتكروا الحصص السياسية، الإدارية، التربوية، الاقتصادية، الإعلامية، الأمنية والعسكرية، وهذا يعني أن تونس، بالرغم من انتفاضتها المباركة، أنجبت رموز النظام السابق وبأس هذا الإنجاب. منذ اندلاع الانتفاضة حصلت عدة مواجهات بين رجال الشرطة والمنتفضين أدت إلى سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، أعادت إلى ذاكرة التونسيين مشاهد الرعب والمظالم والسجون وخنق الحريات، وغص البؤس والشقاء. والإجراءات التي اتخذتها الحكومة الحالية بحق رموز الفساد من مذكرات توقيف، اعتقالات، ووضع بعض الشخصيّات الأمنية قيد الإقامة الجبرية، استقالات، وحل حزب التجمع الحاكم سابقاً, وتغيير في محافظي الولايات والسلك الدبلوماسي، لا تخدم التونسيين، وتشبه إلى حدٍ كبير عوائد بعض القبائل البربرية في مجاهل الأمازون بإعداد الفرائس البشرية بينما تونس اليوم بحاجة إلى حكومة انتقالية قادرة على التصدّي لعقلية الانحراف والفساد، وإلى سلطة قضائية مستقلة قادرة على إصدار الأحكام العادلة بحق المخالفين والفاسدين. المنتفضون مختلفون تبعاً لقناعتهم السياسية والفلسفية، بينهم المتدين والملحد، اليمني واليساري، الاشتراكي والقومي، العلماني والمحافظ، إنهم أحرار في خيارتهم السياسية وتوجهاتهم الفكرية. إلا أنهم متوحّدون في وطنيتهم، وفي القضاء على بقايا الطاغية الهارب بن علي، لذا، يتابعون جهادهم في جميع المدن التونسية لأنهم يعتقدون أن الحكومة الحالية ليست مؤهلة بتكويناتها البشرية، ومؤسساتها الرثة من حمل وإنجاز مشاريع وطنية ذات طابع تحديثي جذري، وأنها ما تزال تملك قوة خفيّة في ضخ الأزمات واستعادتها بطريقة أشد فظاظة مما سبق. لا شك أن الانتفاضة المدنيّة المباركة ساعدت كثيراً برفع معنويات الشعب الروحية، ويخشى فعلها إذ ما قررت استخدام القوة العسكرية لحسم الأمور، وقد سبق وتمت المصافحات، وتبادل القبلات والورود بين أفراد من المنتفضين وأفراد من الجيش التونسي الباسل تعاهدوا خلالها أمام الله والشعب والإعلام على أن يكونوا يداً واحدةً في خدمة وطنهم الذي تربوا معاً على أرضه، وتحت سمائه. وقد أكد قائد الجيش على أنّه " حامي العباد والبلاد والثورة" وبالفعل لقد وافقت قوات الجيش بين أعمالها وأقوال قائدها، وتصرفاتها الميدانية على درجة مشكورة، وهي تسعى جاهدة مع المنتفضين للوصول إلى إصلاح حقيقي لمؤسسات الدولة. هناك قاعدة تقول باستحالة تحقيق نصر لانتفاضة مدنيّة دون دعم قوات مسلحة لها، باعتبار أن هذه القوات تمتلك الوسائل العسكرية ومشروعية استعمالها لحفظ الأمن العام، وللدفاع عن مكتسبات الانتفاضة وحماية الوطن. تًرى، هل تستعمل القوات المسلحة في الجيش التونسي سلاحها بأخلاق وإبداع في وجه المتلاعبين بمصير التوانسة، ووضع حدّاً لعبث العابثين بكرامة الشعب وحقوقه؟ا... وهل للمنتفضين برامج تغييرية، علميّة، تقدمية وعصرية، تجذب أبطال القوات المسلحة للتعاون معهم لحسم الأمور؟ا... من يدري؟... إنما برأيي المتواضع، كل محاولة إصلاح جذرية تقوم بها فئات مدنيّة في بلد غير ديمقراطي مثل تونس بحاجة إلى قوات مسلحة تساندها لتحسم الأمور، يجب أن لا نخدع أنفسنا، لا بد من فرض النظام بالقوة المسلحة، وإلا سنكون مجرد حالمين، وتاريخ البلاد الديمقراطية كلها لجأت إلى استعمال القوة المسلحة لفرض الأمن العام، ولفتح المجال أمام المختصين لإقامة النظام الجديد. فهل يلجأ التونسيون إلى قاعدة تعتمد على التعاون الوثيق بين القوات المدنيّة في الانتفاضة وبين القوات المسلحة في الجيش لتحقيق النصر وتوفير الأسباب التي تؤدي إلى عمران البلاد؟ا... من يدري ؟ا... الشعب التونسي عوّدنا على المفاجآت المدهشة .... باريس تيسير العبيدي