كانت التظاهرات الشعبية التونسية في عهود الاستبداد والخمول، مجرد تجمعات بشرية تجول في الساحات بعقود الياسمين حول الأعناق، وبوردة الفل خلف الأذن، تحمل الأعلام الوطنية الزاهية، تنشد الأناشيد الوطنية الحماسية التي تتغنى بالكرامة والمجد، وتقوم بمراسيم احتفالية تؤمن لمنظميها الرتب والألقاب الحكومية من "السلطان الجائر" وممن يلوذ حوله بالسلطة من الذين هضموا حقوق المواطن، وابتزوا أمواله، واستعبدوه وقد ولدته أمّه حرّاً. أمّا بعد شرارة لهب الشهيد محمد البوعزيزي، لم تعد هذه المظاهرات ترفاً، ولا ذكريات للتغني، ولا احتساءً للشاي المرّ مع البندق في المقاهي شأن الكسالى المنتفخين غروراً وجهلاً، بل أصبحت بمثابة نقاط انطلاق لعودة التونسيين إلى ساحات الجهاد في المدن والقرى لبعث الوعي الوطني في وجدان الشعب، ولكشف منابع قوته. لقد تحوّلت التظاهرات الشعبية في تونس إلى انتفاضة عامرة تجسد فعل التاريخ المضيء، العلمي والعملي، الذي يحيك لأجيال تونس خيوط المستقبل، وحين نتطلع إلى انطلاقة الانتفاضة نرى لوحات تونسية تتزاحم بكثافة مذهلة لتملأ ساحات سيدي بو زيد معلنة أن الحرية، العدالة وحق تقرير المصير قضايا حيّة فاعلة... وفود تتقاطر من كل حدب وصوب، لا ينقطع سيل صفوفها تدق الأرض بأقدامها وتملأ الفضاء بدوي هتافاتها: " أرحل، أرحل... لتحيا تونس حرّة". أي عمق عجيب في ارتباط القلب والشعور والإرادة والعقل، يتفجر في كيان كل واحد من المنتفضين بالفرح والزهو والاعتزاز وهم ينشدون مقطوعة ملهمهم الشاعر الرائع أبو القاسم الشابي: " إذَا مَا طَمَحْتُ إلِى غَايَةٍ رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُورَ الشِّعَابِ وَلا كُبَّةَ اللَّهَبِ المُسْتَعِر"
أمّا الانتفاضات الشعبية التي انفجرت في جميع أقطار العالم، قادتها فئات شعبية نذرت نفسها لخدمة شعبها ووطنها، ولو كان ثمن هذا النذر التضحية بالحياة نفسها، ومن يبدي استعداده للتضحية بحياته من أجل هدف إنساني، وطني، سام ونبيل، هو إنسان مؤهل ومستعد لاستعمال جميع الوسائل المدنيّة والعسكرية للوصول إلى هدفه بانتصار الانتفاضة، وقد قرأنا في كتب التاريخ أن الانتفاضات السلميّة، المدنيّة التي كانت غافلة عن الأخطار الكامنة لها قد فشلت في تحقيق هدفها، عكس الانتفاضات اليقظة التي حملت سلاحها في يدها لتملي إرادتها، فحققت انتصاراً، وأقامت نظاماً جديداً يضمن تقدماً لأوطانها. وإن كنّا لا نستطيع أن نقيس أسلوب الانتفاضة الشعبية في تونس بمقاييس الانتفاضات التي حسمت أمرها باستعمال السلاح، إلا أن شروط استعماله ما تزال قائمة ما دامت العناصر الأمنية الفاسدة تستعمل العنف الشديد بحق المنتفضين في أكثر من منطقة، وبتواريخ متتالية، أو إلى أن يتم تطهير مؤسسات الدولة من الانتهازيين والفاسدين. حتى الساعة ما تزال الانتفاضة الشعبية التونسية تحافظ على خصوصيتها المدنيّة السلميّة، صابرة على مسلسل القتل، التعدّيات والسرقات، مما يجعلها في خطر دائم، حتى أن البعض أعطاها اسم " انتفاضة الياسمين" كدليل على مسالمتها وطيبتها ووداعتها ورقتها بالرغم من "سقوط مئات الشهداء والجرحى والمتضررين" على حد تعبير المجاهد الحقوقي الأستاذ أيوب الصابر. وبالتأكيد هناك من يعتبر أن استعمال السلاح ليس عبارة عن انحطاط ثقافي أو دليل شراسة، بل دليل تفوق نفسي راقٍ إذ ما استعمل بأخلاق وذكاء وبموضوعية، وبأشراف جيشنا الباسل لأن القوة هي القول الفصل في وقف مسلسل التعديات والإسراع في تثبيت الأمن وإحلال السلام. في غياب الرؤية السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والعسكرية الواضحة والشفافة لمستقبل انتفاضتنا المباركة، تبقى الأبواب مفتوحة على مصارعها لأية احتمالات بعضها يثير الريبة والقلق، وينقل الشعب من " دلفة" الاستبداد والفساد والديكتاتورية، إلى " مزاريب" لا تحمد عقباها. تيسير العبيدي باريس