المجلس المحلي بسيدي علي بن عون يطالب السلطات بحل نهائي لإشكالية انقطاع التيار الكهربائي    ب 28 مليون مستخدم.. "ثريدز" يتفوق على "إكس" في هذا البلد    عاجل/ نحو إقرار تجريم كراء المنازل للأجانب..    استشهاد شابين فلسطينيين وإصابة اثنين آخرين بنيران الاحتلال الصهيوني غربي "جنين"..#خبر_عاجل    عاجل تلاميذ منطقة الحاج قاسم 2يستغيثون للمرة الثانية في نفس الأسبوع..الحافلة معطلة    عاجل/ الحوثيون يطلقون صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    فاتورة استيراد الطاقة لا تطاق .. هل تعود تونس إلى مشروعها النووي؟    مذكّرات سياسي في «الشروق» (5) وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم الصادقية حاضنة المعرفة والعمل الوطني...!    "حماس" تعلن تسلمها رد الاحتلال حول مقترحاتها لصفقة تبادل الأسرى ووقف النار بغزة    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    الرابطة الثانية (ج 7 إيابا) قمة مثيرة بين «الجليزة» و«الستيدة»    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    ترشح إلى «فينال» رابطة الأبطال وضَمن المونديال ...مبروك للترجي .. مبروك لتونس    أخبار المال والأعمال    تقديرات بانحسار عجز الميزانية الى 6.6 ٪ من الناتج المحلي    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    تنديد بمحتوى ''سين وجيم الجنسانية''    رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    ماذا في لقاء وزير الخارجية بنظيره الكاميروني؟    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    طقس الليلة    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب؟    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    نابل: الاحتفاظ بشخص محكوم بالسجن من أجل "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" (الحرس الوطني)    التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيدين للفلسطينيين    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    التشكيلة المنتظرة للترجي في مواجهة صن داونز    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع الباحث و الأكاديمي التونسي حسن بن حسن حول الثورة التونسية
نشر في الحوار نت يوم 13 - 02 - 2011


الباحث حسن بن حسن

حوارجريدة التجديد المغربية مع الباحث و الأكاديمي التونسي حسن بن حسن حول الثورة التونسية
ما هي الثورة في الفكر الإنساني، وما أسبابها وعواملها؟
· بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، يطلق اصطلاح الثورة على التحول العميق الجذري الذي لا يكون ما بعده كما كان ما قبله، يطلق على التحول الحاسم الممتلك لقدرة القطع مع ما قبله ولقوة افتتاح حقيقي لما بعده. الثورة باستمرار تختزن قوة القطع و تستمد قسما هاما من طاقتها من هذه القوة وتمتلك أيضاً قوة الافتتاح، لذلك في التاريخ وقعت أحداث دموية كبرى ولم يطلق عليها اسم ثورات لأن مختزناتها الرمزية وقدرتها على القطع و الافتتاح كانت ضعيفة، لا نطلق اسم الثورة على الأحداث الجسام كائناً ما كان حجم هذه الأحداث وكائناً ما كانت دمويتها وكائناً ما كانت الأرواح التي تزهق فيها إذا لم تحدث شرخاً حقيقياً في الزمن لا يكون فيه ما بعدها كما كان ما قبلها. نحن نطلق اسم الثورة على الثورات السياسية ولكن نطلق هذه التسمية أيضاً على الثورات العلمية و الصناعية والمعرفية و الدينية و التأويلية الخ...
و معنى هذا أن كل حدث يمتلك هذه القوة، قوة الاختزان وقوة الافتتاح وقوة إحداث تحول حقيقي في مجرى التاريخ يمكن أن يعتبر ثورة في بابه، نتحدث عن الثورة الكوبرنيكية و عن الثورة التأويلية التي قام بها ديلتاي في اخضاع تأويل العهدين القديم و الجديد لقواعد معرفية واضحة قابلة للتحصيل و الاشاعة المعرفيين لأنها أحدثت منعرجاً في هذا الباب. لكن لا شك أن مصطلح الثورة ينطبق ويلتصق عادة بالثورات السياسية. وفي مقاربة الثورات السياسية لا نجد نظرية معرفية نهائية، كل الثورات تفتح أبوابا لامتناهية للمعرفة التاريخية و الاجتماعية و النفسية و غيرها، لكن على العموم لو أردنا أن نحدد العناصر الدلالية الداخلة في مفهوم الثورة والتي يمكن أن تساعدنا على فهم هذه الثورة أو تلك لأمكن القول بأن الثورة لا تحصل إلا في واقع ساكن طال سكونه، لا ثورة بدون وضعية سكون تاريخي طويل، سكون سياسي، سكون معرفي علمي...إلخ. وفي الحقيقة لا وجود للسكون التاريخي و ما يبدو سكونا هو اما حركة الى الخلف أو تجمع و تراكم صامت لأسباب الحركة الانفجارية الى الأمام.
الثورة تحدث في الواقع الذي بدأ منذ زمن طويل يتحرك إلى الخلف، حتى يصل الانحطاط فيه إلى درجة غير محتملة، يقول الفيلسوف الألماني المعروف إيمانويل كانط إنه حين يصل الانحطاط في أمة ما درجة ليس لها ما بعدها نكون أمام أحد أمرين: إما العثور على طريق الصعود من جديد، أو الفناء والاندثار. وعادة يتخذ العثور على طريق الصعود من جديد شكل ثورة دينية علمية أو سياسية إلخ... إذن لا ثورة بدون وضعية تبدو ساكنةً لمدة طويلة، أو وضعية تراجع وتقهقر إلى الخلف لمدة طويلة.
وهذه أحد أسباب الثورة، أليس كذلك؟
· نعم بدون أدنى شك إنها سبب رئيسي للثورة، خاصية الإنسان الكبرى هي أن الله خلقه بكينونة منفتحة، كينونة الإنسان في الحركة والمصير وكرامة الإنسان الوجودية هي باستمرار في الحركة، وتعطيل هذا المحرك الكبير للوجود الإنساني لا يعني سوى الانحطاط الوجودي الذي لا يمكن أن يستمر إلى ما نهاية، فما يبدو في ظاهره سكوناً ليس سكونا، كما قلت.
يبدو لنا فيما أسميتموه بوضعية السكون التاريخي أن الشارع أو المجتمع لا يعاني من أية مشكلة مما تسميه الجمعيات والأحزاب فسادا وظلما وجورا، فهل هذا سكون بالمعنى التاريخي؟
· أحد الشعراء الألمان الكبار ايكهارت يقول: السكون ليس غياباً ولكنه تجميع لعناصر الحركة، وشاعرنا أبو القاسم الشابي يقول
حذار فتحت الرماد اللهيب ومن يزرع الشوك يجني الجراح
فما يبدو في ظاهره سكوناً على مسرح التاريخ وعطالةً هو في الحقيقة تجميع لعناصر الحركة وربما لخميرة الثورة، السكون يخفي باستمرار وضعية تاريخية بائسة من الظلم والتعدي على حقوق الناس والانتهاك لحرمات الناس. السكون هو باستمرار ثمرة وضعية سياسية استعبادية وضعية يهيمن فيها الخوف ويشل قوى الحركة التي في المجتمع المدني، الشيء الوحيد الذي يمكن أن يشل حركة الإنسان إلى حين ويشل حركة المجتمع هو الخوف والرعب، ليس شيئا آخر، ولذلك المستبدون عموماً ينحتون لشعوبهم وضعية يمكن أن نسميها بوضعية المهانة الوجودية و الوضاعة السياسية و السكون التاريخي كما يتوهمون، أهم خاصية لهذه الوضعية هي أن يتأله المستبد و ينحت لنفسه منزلة من لا يقبل التحدي ولا حتى الهمس مع النفس بالاعتراض عليه، وهذا يكون عبر مجموعة من التقنيات أهمها سلطة البوليس القائمة على إمكانية التعدي اللامحدود على حرمات المعارضين وانتهاك كل أحزمة الأمان الأدبية والأخلاقية التي سيجت بها الثقافة الإنسان. المستبد ينحت لشعبه وضعية يمكن أن نصفها بوضعية المهانة، وهذه الوضعية تصنع أيضاً عبر تقنية أخرى هي تقنية استخفاف العقول و ازدراء وعي العامة بتصوير أبشع وجوه التخلف الاجتماعي والسياسي على أنها تقدم والدكتاتورية على أنها دفاع عن المجتمع وعن حقوق الإنسان....إلخ. والتقنية الثالثة التي يستخدمها المستبد لنحت وضعية المهانة التاريخية لشعبه هي ما يمكن أن نسميه بتأليه الفرد أي رفعه فوق المحاسبة الشعبية وفوق المساءلة التاريخية وتحويله إلى صنم ووثن أصم تجاه أي نصح أو أي احتجاج، بحيث يبث ولا يستقبل، هو جهاز بث ولكنه ليس جهاز استقبال، التأليه و احاطته بحاشية المتملقين و الوصوليين و الانتهازيين يعطل فيه كل منافذ الاستقبال.
هذه هي اذن الوضعية التي ينسجها الاستبداد و التي يمكن أن نسميها بوضعية المهانة التاريخية. و داخل وضع كهذا يقوم على استخفاف العقول وعلى تأليه الفرد وعلى الانتهاك الشامل للحرمات لا بد أن تتشكل خميرة الرفض الذي قد يصل حد الثورة، ، فتتولد مشاعر النقمة والغضب ويتفاقم التوتر بين الواقع والواجب ، وبقدر ما تنسد مسالك تصريف هذا التوتر وبقدر ما تنسد منافذ الحلم والتطلع إلى المستقبل، بقدر ما يؤدي هذا إلى ما يمكن أن نسميه بالوضعية الثورية.
أيهما يتبع الآخر الثورة السياسية أم الثورة الفكرية؟ من يقود الآخر ويحرك الآخر الثورة السياسية أم الثورة الفكرية؟
· يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير مقارنا بين الحركات الاحتجاجية في فرنسا وفي أنجلترا قبل قيام الثورة الفرنسية بأن الأنجليز أهرقوا أنهاراً من الدماء من أجل لجم المستبدين إخضاع الدولة للقانون، وقد حققوا نجاحات معتبرة في ذلك، في حين أن الفرنسيين أهرقوا أضعاف ما أهرقه الإنجليز من الدماء ولكن دماءهم لم تزد القيود التي تكبلهم إلا إحكاما ،
و السبب الرئيسي في ذلك هو أن التحركات الاجتماعية للإنجليز كانت لها مطالب محددة ووجه ثقافي وفكري واضح، ولذلك كانت تتجه كلها إلى مصب واحد هو تقييد الدولة بالقانون وتقليص صلاحيات المستبد، في حين أن تضحيات الفرنسيين كما يصفها فولتير كانت تحركات شعبية لا تحمل ملامح وقسمات ثقافية واضحة، كانت ذات حمولة رمزية ضعيفة ، فيما بعد سيصنع الفرنسيون ثورتهم بملامح فكرية وثقافية واضحة، ولا شك أن هذا ثمرة ما يمكن أن نسميه بالتبادل والتفاعل بين أفكار الفلاسفة أو الأفكار العالمة و بين الحساسية الشعبية أوالعامة.
ميشال فوفيل أحد المؤرخين الفرنسيين الكبار بحث عن اللحظة التاريخية الحاسمة التي أصبحت فيها الثورة الفرنسية قدراً واقعاً، و قد وجدها في الفترة التي تقع بين عشرين وثلاثين سنة قبل الثورة، ويقول إن السبب الرئيسي الذي سرع حركية الزمن نحو الثورة وجعلها قدراً قادماً لا محالة هو التبادل الكبير الذي حصل بين الحساسية العامة وبين أفكار فلاسفة الأنوار.
وأنا قلت من البداية إنه لا يمكن أن نتحدث عن ثورة بدون مختزنات رمزية حقيقية وبدون قدرة على القطع وعلى الافتتاح، ولذلك فالمختزنات الفكرية لأي ثورة مسألة حيوية وحاسمة، يمكن أن تقع أحداث جسام ولكن لا تزيد القيود التي تكبل شعباً ما إلا إحكاماً.
الثورة التونسية كانت ثورة مفاجأة، كيف نفهم هذه الخاصية المفاجأة للثورة؟
· ابتداء كل الثورات كانت مفاجئة لا الثورة التونسية فحسب، الثورة تبدو لأول وهلة حدثاً متلفعاً بالغموض، لا يمكن توقعه ولا فهمه، الثورة حدث كبير يفاجئ عادة كل التحليلات ويظهر أننا لا نعرف ما كنا نظن أننا نعرف، مرجع هذه الضبابية الرئيسي للثورات هو ما يمكن أن نسميه بفقدان الدوال المعرفية أو المؤشرات المعرفية التي يمكن أن تمكننا من فهم ما يحصل في نفوس الناس. الاستبداد لا يقوم ولا يستمر إلا عن طريق صنع وضعية سيكولوجية شعبية وعامة تتسم بالخوف وبالترهيب من المعارضة ومن الاقتراب من الشأن السياسي. وهذا على المستوى السيكولوجي النفسي يخلق ما يمكن أن نسميه بحاجز القمع والكبت، هذا الحاجز النفسي الكبير الذي يمنع الناس حتى من مجرد التفكير في المعارضة أو الجهر بما يمكن أن يعتمل في نفوسهم هو حجاب معرفي حقيقي يمنع من رؤية ما يعتمل في نفوس الناس وما يتراكم ويختزن تحته ويحول بيننا وبين أي إمكانية فعلية للوصول عن طريق دوال معرفية محددة وعلمية إلى ما يعتمل وراءه . لذلك فان معرفة الثورات تتم باستمرار بما يمكن أن نسميه بأثر بعدي، بمعنى أن الثورة تعرف بعد أن تقع، وتبدأ معرفتها ويبدأ البحث عن العوامل وعن أسبابها القريبة والبعيدة... ومع ذلك أقول إن الثورة ليست حدثاً متلفعاً بالغموض مائة بالمائة، بل إن هناك دوالا معرفية يمكن أن تقربنا من فهم ما يجري خلف ما أسميناه بحاجز القمع و الخوف ، من هذه الدوال يمكن أن نذكر خطوط المنع والقمع السياسي التي يتحول الكلام عندها إلى همس للضمير ومونولوج داخلي ، و هذه الخطوط حواجز ترسم حدود المحرم السياسي الذي تتمرتس خلفه قوى اجتماعية متنفذة.
حدود المنع السياسي تتحول إلى حاجز نفسي للقمع والكبت تتجمع تحته كل الطاقة المتولدة من انغلاق منافذ الإفصاح والتعبير والأمل وانسداد قنوات التعبير عن توترات الشرعية السياسية، و للتوضيح نقول ان شرعية الأنظمة السياسية منقوصة باستمرار و ليس هناك نظام في التاريخ شرعيته كاملة والفرق بين الديمقراطيات وغيرها هو أن الديمقراطية تسمح بظهور توترات الشرعية في مجال الرؤية عن طريق اقرار حقوق الاحتجاج و ارساء آليات التفاوض الاجتماعي في حين لا تسمح الأنظمة القمعية بظهورها، وهذا يخلق هذا الحاجز، وبقدر ما تصبح هذه الخطوط أكثر صلابة وأكثر اتساعاً بقدر ما يكون ما يعتمل وما يختزن تحت حاجز القمع والكبت أكثف وشحنته الانفجارية أكبر.
و من الدوال المعرفية التي يمكن أن تساعدنا على فهم وجود خميرة ثورية في مجتمع ما، يمكن أن نذكر أيضاً درجة تركيز الفساد المالي والسياسي والإداري وتكثيفه الاجتماعي ودرجة ظهوره للعيان، وهو ما يساعد الطاقة النفسية أو طاقة الغضب في التصويب نحو وجهة محددة وصحيحة. الدوال المعرفية موجودة اذن و لكن تتطلب قدرة على الاصغاء و النفاذ المعرفي الى الطبقات النفسية المعتمة ، ولكن هذا لا يمنع أننا عادة ما نفهم الثورات بأثر بعدي ولا نتوقعها قبل وقوعها.
نريد أن نعرف هل الثورات عموما شعبية أم نخبوية؟ هل هي صنيعة النخبة أم الشعب؟
· الثورة هي ثمرة التبادل بين النخبة والشعب وإلا فليست ثورة. ثورة شعبية صرفة فقيرة ثقافيا هي مجرد حركة احتجاج اجتماعي وتنفيس للاحتقان والغضب، أي ليست ثورة. إذا لم يكن للحراك الشعبي الكبير مختزنات رمزية وقدرة تحويلية وافتتاحية حقيقية لا يسمى ثورة، وهذا لا يكون إلا إذا كان هناك تبادل حقيقي بين النخبة وبين الشعب، أو بين ما يمكن أن نسميه بالأفكار العالمة والحساسية العامة، وعادة هذا التبادل يتم عن طريق مجموعة الوسائط الرمزية التي تبسط الفكرة و تجعلها قابلة للاشاعة كالخطابة و الأدب و الشعر و الغناء و المسرح و عبر وسائط تواصلية مادية توصل الفكرة الى الناس فعلا كالصحف و الكتب و المنتديات و الصالونات الفكرية و المسارح و الأشرطة و الأقراص المدمجة و الأنترنت و الفضائيات الخ... في الثورة الفرنسية كانت هناك قنوات ووسائط لانتقال الأفكار الثورية و رواجها و اليوم هناك وسائط أخرى أسرع و أبلغ و أنفذ بما لا يقاس.
وليس هناك ثورة من الثورات في التاريخ إلا وفيها هذا التبادل، هذا التبادل هو شرط تشكل ما يمكن أن نسميه بسيكولوجية التغييرو شرط تحول التناقضات الموجودة في المجتمع إلى باطن الوعي وتحول الظلم الاجتماعي إلى طاقة للرفض و ارادة للقطع والتطلع إلى المستقبل، هذا التبادل شرط أيضاً لفتح أفق لحالة الاحتقان عن طريق رسم أنموذج متخيل بديل للاجتماع السياسي.
هناك أسباب متعددة كما قلت للثورات وأكيد أنها تحققت في تونس ولم تتحقق في بلدان عربية أخرى، هل يمكن أن تقدم لنا بعض هذه الأسباب؟
في الحقيقة كل ثورة لها تاريخ ويتوهم من يظن أن الثورة حدث لحظي خالص معزول لا تاريخ له، وعادة تاريخ الثورة هو تواريخ متعددة وليس تاريخا واحدا، أو لنقل إن تاريخ الثورة يتفرع إلى مجموعة تواريخ فرعية: تاريخ نظام متآكل فقد دفاعاته ووهن المدافعون عنه، كيف تآكل النظام؟ وكيف فقد دفاعاته؟ تاريخ الحس النضالي والاحتجاجي لشعب ما والقنوات التي عادة ما يتم عبرها تصريف الاحتقان والتوتر الاجتماعي، تاريخ قوى المجتمع المدني والقوى الثورية وتاريخ الشجاعة السياسية في هذا المجتمع، تاريخ الجيش والبوليس لأن الثورات لا تنجح عادة أو لنقل أن جل الثورات لم تنجح إلا بصدور أمر مضاد بعدم إطلاق الرصاص من قبل المؤسسة العسكرية ، حصل هذا في عدة دول من أوروبا الشرقية، و في جل الثورات ، صدور أمر مضاد من المؤسسة التي تمتلك أدوات القوة والعنف.
إذن تاريخ الثورة هو بمعنى من المعاني أيضاً تاريخ مؤسسة الجيش ومؤسسة البوليس، وهو أيضاً تاريخ الفساد المالي والإداري، وتاريخ القوى الاجتماعية الحية، وتاريخ التبادل بين الأفكار العالمة والحساسية العامة، و تاريخ التوتر بين الواقع والواجب، وتاريخ المسار الاحتجاجي السياسي والاجتماعي لشعب ما أوأمة من الأمم.. إلخ.
و أما عن أسباب الثورة التونسية فيمكن اجمالهاعلى سبيل المقاربة الى ثلاثة أنواع: أسباب قريبة ومباشرة، وأسباب تتعلق بالحركة العامة للأمة كرافعة معنوية وروحية لحركات التغيير، وأسباب تتعلق بما يمكن أن نسميه بالخصوصية التونسية، وهذه النوعية الأخيرة من الأسباب هي الأكثر التباسا من الناحية المعرفية لأن الحديث عن الخصوصية قد يحيل الى ادعاءات التفوق الماهوي المزيفة ، لذلك يتعين تحديد هذا العنصر بدقة.
فأما الأسباب القريبة والمباشرة فهي أولاً تركز الفساد في تونس وتكثيفه بكيفية مرئية وعالية في فئة محدودة ومعروفة. نعرف أن كل دول العالم فيها فساد إداري ومالي لكن عادة الفساد يكون نكرة بمعنى أننا ندرك أن هناك فسادا في الدولة لكن لا نعرف على وجه الدقة من هو الفاسد ولا ماذا سرق وماذا أخذ ... إلخ.
لكن الذي حصل في تونس هو أن الفساد تكثف وتركز بكيفية عالية جداً في عائلات معروفة ولم يعد نكرة، أصبح مرئيا، يعرف الناس من الذين ينهبون وكم نهبوا وماذا يفعلون.. إلخ، وهذا بدون أدنى شك يساعد كثيراً في تركيز وتوجيه طاقة الغضب لدى الناس، الطاقة التي تتجمع تحت ما أسميناه بحاجز الكبت والخوف، توجيهها نحو هدف واضح معين. تركيز الفساد يؤدي إلى تركيز طاقة الرفض.
وأما السبب الثاني فهو تضرر كل الفئات الاجتماعية في تونس من ليل الاستبداد الطويل الذي خيم عليها، وهذا يرجع إلى تحول حاد لطبيعة الدولة، تحولت من دولة وطنية لما بعد الاستقلال تتسم بكل خصائص الدول العربية لما بعد الاستقلال إلى دولة مافوية حقيقية. هذا التحول الحاد الذي طرأ خلال 23 سنة الماضية في طبيعة الدولة أدى إلى تضرر كل فئات المجتمع، أصاب الضرر رجال الأعمال الذين تعرضوا إلى عمليات سطو ممنهجة من قبل العائلات المتنفذة ودمر العديد منهم حتى تحول عالم الأعمال الى لصوصية، الضرر أصاب بكيفية وحشية المجتمع المدني الذي تعرض إلى عملية تدمير ممنهج في مختلف مؤسساته: الحركة الطلابية والحركة النقابية والحركة الإسلامية ومختلف جمعيات حقوق الإنسان واليساريين والقوميين والليبراليين. الضرر أصاب الطبقة الوسطى التي تعرضت إلى ما يسميه بورديو بنزول التصنيف الاجتماعي أي نزلت من مرتبة اجتماعية إلى أخرى أصبحت معها قدراتهما الشرائية وإمكانياتها المادية أقرب إلى الطبقة الفقيرة.
هذا الضرر العام الذي أصاب الجميع بدون أدنى شك كان عنصراً من عناصر تشكل خميرة الرفض في كل طبقات المجتمع.
وأكثر العناصر حسما و تسبيبا لكل ما عداه هو إنهاء الوسائط الجادة بين الدولة والمجتمع وتدمير المجتمع المدنى تدميراً شاملاً جعل المجتمع لا يعبر ولا يفصح عما في باطنه وعن ما يجري ويعتمل داخله، أصبح بين الدولة والمجتمع فراغ قاتل مخيف، ونحن نعرف أن استمرار الفراغ القاتل المخيف بين الدولة والمجتمع يؤدي إما إلى ثورة أو إلى صعود أكثر القوى تطرفاً والانزلاق نحو الأسوئ كما وقع في ألمانيا مع النازية.
ومن هذه الأسباب مصادرة كل منافذ الأمل في تونس، كنا أمام جهاز إدارى بيروقراطى مغلق لا طمع فيه في نيل الحقوق لا بالطرق المشروعة ولا بالطرق غير المشروعة، كل أسباب الترقي الاجتماعي أو التوظيف أصبحت بيد عائلات مافيوية محددة ، يمكن للإنسان أن يكون رئيس قسم في بنك مثلا وابنه ذو شهادة تمكنه من الاشتغال في ذلك البنك ولا يستطيع تشغيله لأن قوائم التشغيل تأتي من هذه العائلات. هذا الانسداد الشامل لمنافذ الأمل مع جهاز إدارى بيروقراطي مغلق عجل بما حصل في تونس. ثم في تونس كما قلنا كنا إزاء وضعية تبدو ساكنة لا شيء فيها يتحرك، كنا أمام مجتمع لا شيء فيه يتحرك، دمرت كل محركاته الكبرى، وهذا بدون أدنى شك لا يمكن أن يتواصل مع شعب متعلم ومثقف وذو تاريخ حضاري عميق يعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
ومن الأسباب القريبة الهامة التي عجلت بالثورة التي حدثت في تونس يمكن أن نذكر شجاعة رموز النضال الوطني. تونس كان فيها باستمرار رجال ونساء شجعان وعلى درجة عالية من الشجاعة يقولون الحق كما هو بدون أي زينة أو أي تحايل. وشجاعة رموز النضال الوطني ودقه تصويبهم وتركيزهم على رأس الفساد مباشرة بدون أدنى مداراة منح النضال الشعبي طاقة دفع كبيرة.
و أخيرا فان هذه الوضعية المضغوطة و الانفجارية كانت تحتاج الى صاعق أو الى فتيل يشعلها ،كان بنزين الثورة في كل مكان و لم يكن يحتاج الا الى عود ثقاب ليلتهب، و حرق البوعزيزي لنفسه رحمه الله كان هذا العود و هذا الصاعق.
النوع الثاني من الأسباب يتعلق بالحركة العامة للأمة كرافعة روحية ومعنوية، نحن نعرف أن المقاومة الإسلامية في لبنان والمقاومة في فلسطين والمقاومة في العراق أعطت نموذجا لما يمكن أن نسميه بكسر الحدود بين الممكن والمستحيل وأعطت نموذجا ووجها آخر لموازين القوة، المقاومة كشفت كيف أن ميزان القوة الروحي والمعنوي والأخلاقي يمكن أن يتغلب على الاختلال الكبير لميزان القوة المادي والعسكري ، وهذا بلا شك شكَّل رافعة معنوية بالغة القوة لذلك لا نعجب من استنساخ بعض ملامح الانتفاضة الفلسطينية و شعاراتها.
و من الأسباب التي تتعلق بالحركة العامة للأمة كرافعة معنوية يمكن أن نذكر الوضع الروحي للأمة الذي تشكل بفعل ثورة الاعلام و التواصل و الأنترنت وخاصة بفعل قناة الجزيرة و التبادل الكبير الذي حصل عبرها بين أفكار المثقفين و بين الحساسية العامة والشعبية، هذا التواصل و التبادل ساهم في صنع وضع روحي عام للأمة يتسم بالاحساس العميق بالغبن الحضاري ( و الغبن دونية مفروضة و غير مستحقة ) و باحياء التطلعات التاريخية الكبرى و بتجذير ثقافة المقاومة في النفوس ، و لا شك أن كل ذلك من المسرعات النفسية للتغيير.
وأما الأسباب المتعلقة بالخصوصية التونسية فيمكن أن نذكرابتداءا ما يلي: هذه الخصوصية هي خصوصية السبق في الخروج من القدرية السياسية العربية و في تحطيم الجدار النفسي للخوف و ليست خصوصية الانفراد بالثورة ، فزمن الثورات في العالم العربي قد يكون انفتح على مصراعيه، و يمكن أن نقول إن الأسباب المتعلقة بالخصوصية التونسية ثلاث:
أولها، الذاكرة الاجتماعية والنضالية النقابية القوية جداً في المجتمع التونسي، فهذه الذاكرة تمتد بعيدا في التاريخ، لكن لو بدأنا بالتاريخ الحديث فيمكننا أن نذكر ثورة علي بن غذاهم عام 1864م التي كانت ثورة اجتماعية ودامت سنوات عديدة ووقع إخمادها من طرف الباي في ذلك الوقت، و في هذا السياق يمكن أن نذكر خصوصية تونسية أخرى وهي اتخاذ الحركة الوطنية أي حركة مقاومة الاحتلال الفرنسي في أحد مظاهرها الكبرى شكل حركة نقابية، نحن نعرف أن أول محاولة لتأسيس نقابة تونسية كانت مع محمد علي الحامي الذي أسس جامعة عموم العمال التونسيين سنة 1924م، ثم التأسيس الناجح للاتحاد العام التونسي للشغل على يد فرحات حشاد عام 1946م، وكانت الحركة النقابية قيادية في النضال ضد الاحتلال الأجنبي.
بعد دولة الاستقلال- ومع أن قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل كانوا رموزاً أيضاً في الحزب الحاكم- إلا أنهم حافظوا على استقلالية الاتحاد عن السلطة استقلالية حقيقية ولم يفاوضوا في هذه النقطة ً ولا هادنوا فيها، ويمكن أن نذكر مثلاً الحبيب عاشور الذي كانت له أفضال تاريخية على بورقيبة، وكان صديقه الشخصي ومع ذلك قاد الإضراب العام سنة 1978م الذي كاد يعصف بالحكم. فالاتحاد له تاريخ نضالي وتاريخ في الاستقلالية لم يتوقف إلا في عهد بن علي، وقانون التطور الاجتماعي والسياسي في تونس في الحقبة الحديثة كان كما يلي:
توترات اجتماعية كبرى تؤطرها النقابات، هذه التوترات تؤدي إلى إصلاحات سياسية عاجلة، حصل هذا عقب الاضراب العام عام 1978 الذي فتح بورقيبة بعده باب التعددية السياسية بحذر و احتشام شديد، وعام 1984م وقعت انتفاضة الخبز فأطلق بورقيبة سراح الإسلاميين وسمح بهامش أكبر لحرية التعبير.. إلخ. و كما يقول الأخ الدكتور رفيق عبد السلام فقد بدا قانون التطور السياسي والاجتماعي هذا وكأنه تعطل في عهد بن علي، ولكنه في الحقيقة لم يتعطل ولم يتوقف بل ظل كامناً ويشتغل في الأعماق، ولذلك فوجئنا بالنقابيين ينزلون إلى الشارع من جديد في هذه الثورة ويؤطرون الشباب لكأننا أمام العنقاء تنتفض من تحت الرماد، و هذا يثير الاستغراب لأول وهلة و لكنه يعطي درسا تاريخيا حقيقيا لكل مهتم بالتغيير : من المستحيل محو ذاكرة ومنجزات شعب ما بجرة قلم مستبد من المستبدين، و المؤسسات العريقة قد تضعف و لكنها لا تموت بل انها تتحين أول فرصة للانبعاث قوية جبارة.
من الأسباب الأخرى المتعلقة بالخصوصية التونسية يمكن أن نذكر الحساسية المفتوحة للتونسيين عموماً لكل أسباب التقدم، فروح شعب ما أو روح أمة ما أي ما به تحيا و تتجدد وما به تتحرك و تمسك بخيط التاريخ مرة بعد أخرى، هذه الروح تتشكل عبر آلاف السنين، وإرادة شطبها أو القفز عليها عملية مستحيلة، فلا يمكن الاعتداء الطويل على روح شعب من الشعوب أو ومحاولة زعزعتها بكيفية جوهرية وأساسية بدون ان يفضي ذلك الى هزات اجتماعية كبرى و إلى انفجارات قد تصل حد الثورة، وبالنسبة لروح الشعب التونسي فيمكن أن نقول إنها تشكلت من التاريخ والجغرافيا معاً، فأما جغرافياً فكلنا نعرف أن تونس بلد على مرمى حجر من أوروبا كما هو شأن الشمال الأفريقي كله، ولكنه أيضاً ملتقى الشرق والغرب، فنحن قريبون من الشرق ونحن أيضاً قريبون للغرب، هذا الموقع الجغرافي يجعل تونس بلدا مفتوحا للتأثيرات الشرقية والغربية معاً.
هناك جانب آخر للجغرافيا يتمثل في التضاريس فتونس بلد جله سهول ليس فيه مناطق جبلية منيعة ومتحصنة واسعة ، لذلك فهو بلد معرض للغزو وللتأثيرات الحضارية بسرعة و نحن نعرف أن الحضارات التي تعاقبت على تونس أكثر من سبع حضارات، وكل واحدة عمرت قرونا، ولا شك أن كل هذا ترك بصمته في سيكولوجية التونسي وفي وجدانه وروحه و توجيهه العملي ، فابداع التونسي تاريخيا هو في مجال العلم والمعرفة و الصنائع والحضارة وهو ما جعل من تونس مركز اشعاع حضاري عربيا و افريقيا و يكفي أن نذكر أن من بنى جامع القرويين تونسية هي فاطمة الفهرية القيروانية وأن الذي بنى جامع الأزهر- أي جوهر الصقلي- من تونس أيضاً، فتونس كانت نقطة إشعاع حضاري عن طريق العلم و الصنائع و لم تكن - عدا فترة محدودة في التاريخ القديم- ذات روح عسكرية أو امبراطورية و لا شك أن تعطيل هذه الروح الحركية الحية و المشعة عن طريق ليل الاستعباد القاتم الذي لم تشهد له تونس نظيرا خلال تاريخها كله ما كان يمكن أن يستمر الى ما لا نهاية.
عموماً الروح التونسية تشكلت من خلال الخصوصية الجغرافية والخصوصية التاريخية، وهذا صنع ما يمكن أن نسميه بحساسية حضارية مرهفة لما يدور حول تونس وحساسية حضارية مرهفة لما يمكن أن نسميه بأسباب التقدم، بمعنى أن التونسي له حساسية شديدة لأسباب الحركة والتقدم، وهذا يرجع إلى تكوين نفسي وتاريخي وجه طاقته الروحية والنفسية صوب ضرب من الفعل و الابداع، ولذلك فان قدرة هذه الحساسية على الاستقبال أكبر من قدرة شعوب أخرى لها جبال منيعة واسعة وتاريخ ثقافي أكثر انكفاءا على الذات... إلخ. ولذلك كان هناك انفتاح كبير على الغرب في تونس منذ القرن التاسع عشر وصل في حده الأقصى إلى انحطاط وقتي لهذه الروح أي الى موجة تغريب كاسح ، و لذلك أيضا فان عديد الكتاب العرب الجادين اشتهروا في تونس قبل بلدانهم الأصلية، الروح التونسية التي تشكلت تاريخياً هي روح القدرة على الإدماج المبدع للتأثيرات الخارجية وروح المنافسة والتجدد بالمقارنة مع الغير و ليست روح التفسخ- بل ان التفسخ يخمد الروح و لا يصنعها – و يكفي أن نذكر في تلخيص الروح التونسية استراتيجية رائد الاصلاح خير الدين التونسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر و القائمة على مقاومة أوروبا بالاقتباس منها.
هذه الحساسية الحضارية الكبرى والمفرطة لا يمكن أبداً أن ترضى بتحول تونس إلى نقطة سوداء أو بقعة سوداء في المشهد السياسي العالمي، ولا يمكن أن ترضى أيضاً بتقدم دول أخرى كثيرة في أصقاع العالم أفقر منها حضاريا في الحقل السياسي وتتأخر تونس تأخراً كبيراً وهي بلد الإشعاع التاريخي. وهذه الحساسية أيضاً هي التي جعلت وقع ما يجري في المشرق العربي من بطولات وصمود وقدرة على المقاومة في الحس التونسي أكبر، وهي أيضاً ما جعل وقع التحولات الديمقراطية في أوروبا الشرقية و أمريكا اللاتينية أنفذ في الوجدان التونسي.
· ما هي نقاط التشابه والاختلاف بين الثورة التونسية والثورة الفرنسية مثلا؟
بالنسبة للثورة التونسية والثورة الفرنسية هناك نقاط تشابه ونقاط اختلاف هامة وحاسمة تكون أحيانا في صالح هذه و أحياناً في صالح تلك.
فأما نقاط التشابه فهي أن الثورة الفرنسية ولدت داخل عالم أوروبي خيم عليه الانحطاط، ووصل الانحطاط فيه إلى مستوى ودرجة مؤذنة بالأفول والاندثار والزوال، والثورة الفرنسية داخل الزمن السياسي الأوروبي في حينها كانت كما يشبهها سانت جيست أحد قادتها بمثابة خروج من العدم إلى الوجود، لقد كانت التهيؤات النفسية التي استجابت لها هذه الثورة كبيرة جداً ، و الثورة التونسية من هذه الجهة شبيهة بالثورة الفرنسية فقد اختزنت كل الحلم العربي في الخروج من القدرية السياسية و التاريخية و جاءت في واقع قومي تهيئاته النفسية هائلة، واقع يتسم بالسكون وبالجمود و بمشاعر عميقة للسخط و عدم الرضا بالمهانة التاريخية ، وكلا هاتين الثورتين كانت كسراً حقيقياً لجدر الانسداد ولعطالة الزمن السياسي.
و أما الوجه الثاني للتشابه فيتمثل في وقوع الثورة التونسية من جهة مختزناتها السياسية في مدارات الثورة الفرنسية . الثورة الفرنسية كانت لها ريادة كونية في بناء الدولة الديمقراطية الحديثة، كانت لها ريادة كونية في إعلان حقوق الإنسان وتقنينها وتحويلها إلى ميثاق قانوني وفي نحت ملامح الدولة الديمقراطية ومعالجة الأمراض والأدواء اللصيقة بالشأن السياسي التي لم تستطع الإنسانية أن تخرج منها خروجا حاسما خلال تاريخها كله. فمن ناحية القدرة على إحداث تغيير عميق وجذري وجوهري في طبيعة الممارسة السياسية وإلزام السلطة وتقييدها بالقانون كانت الثورة الفرنسية افتتاحاً لعصر عالمي جديد ، والثورة التونسية بهذا المعنى تقع في مدارات الثورة الفرنسية وفي الخط الذي افتتحته.
وأما من حيث الاختلاف فأرى أن هناك نقاط اختلاف كبيرة، النقطة الأولى هي أن الثورة الفرنسية -لأنها كانت نحتاً على غير سابق مثال- انزلقت بسرعة كبيرة نحو سنوات الرعب والإرهاب، وأكلت الثورة أبناءها ولم يتوقف سيل الدم الجارف إلا بعد أن وقع إعدام قادة الثورة أنفسهم وزعماءها كروبس بيار ، و الثورة الفرنسية سرعان ما انقلبت مرة أخرى إلى النزعة الإمبراطورية مع نابليون، ولم تستقر الديمقراطية في فرنسا استقراراً واضحاً الا في الجمهورية الخامسة، في حين أن الثورة التونسية لم تنزلق ونسأل الله ألا تنزلق نحو الفوضى، و مرجع ذلك أن الشعب التونسي لا يحمل في تركيبته الثقافية وتكوينه الروحي بذور أو عناصر الفوضى و أن تجذره الحضاري أعرق . الثورة التونسية لم تنزلق نحو إرادة الانتقام الهوجاء ولا نحو الرعب الشامل مع أن بعض المليشيات التابعة للحزب الحاكم القديم حاولت أن تغرق البلاد في الفوضى ولكن الشعب أبدى قدرة عالية جداً على التنظم الذاتي من خلال تشكيل لجان للأحياء في كل البلاد من أقصى الشمال لأقصى الجنوب في ظرف لا يتجاوز 24 ساعة ، وهذا مذهل جداً ولا يعبر إلا عن روح حضارية عميقة جداً في هذا الشعب. وهذا يدل على أن التكوين الروحي الثقافي للشعب التونسي أرفع وأرقى من التكوين الثقافي للفرنسيين زمن الثورة الفرنسية.
و إذا نجحت الثورة التونسية في الانتقال السلمي الهادئ الذي لا يتجاوز منطق العدالة والقانون نحو مجتمع جديد تكون قد أنجزت انجازاً تاريخياً غير مسبوق، لأن كل الثورات أعقبتها فترات دموية بشعة جداً.
الأمر الثاني الذي تختلف فيه الثورة التونسية عن الثورة الفرنسية هو ما يمكن أن نسميه بميلاد مجتمع مدني جديد في الثورة التونسية، فالعنصر الحاسم في نجاح الثورة التونسية هو الإعلام الجديد و خاصة مواقع التواصل الفوري المباشر في الإنترنت كالفيسبوك والتويتر... إلخ، و خاصية هذا الإعلام الكبرى هي أنه إعلام تشاركي تبادلي تفاعلي وليس إعلاما تقليديا يقوم على البث من جهة والاستقبال من جهة أخرى، وهو يتميز بإمكانية التواصل اللحظي الفوري الآني، المعلومة تبث في كل أنحاء العالم في ثوانٍ، وخاصيته الكبرى أيضاً هو أنه إعلام محرر من التشويهات العنفية السلطوية ومن تأثير وتوجيه مراكز النفوذ المالي والسياسي، هذا الإعلام الجديد صنع إمكانية جديدة للفعل الاجتماعي لا تخضع للتأطير التقليدي لمؤسسات المجتمع المدني المعروف و إمكانية لما يمكن أن نسميه بتحرير المبادرة الاجتماعية أي إمكانية فعل اجتماعي منسق ولكنه لا تنظيمي ولا هرمي ولا يخضع للتأطير المألوف للفعل الجماعي. المجتمع المدني القديم لا بد أن يعيد التعرف على نفسه في مرآة هذا المجتمع الجديد وأن يقع التبادل بينهما تبادلاً عميقاً وحقيقياً.
و من نقاط الاختلاف الكبرى بدون شك ما يمكن أن ينفتح ثقافيا و حضاريا من الهوية السياسية الديمقراطية للدولة في كلتي الثورتين ، فالديمقراطية وعاء سياسي للاختلاف و لكن ايضا لفاعلية التكوين التاريخي و الروح الحضارية لشعب ما و لا شك أن هذه الروح بالنسبة للمجتمع التونسي عربية اسلامية ، الهوية الديمقراطية للدولة ستمكن هذه الروح من اخراج و توليد أجود ما فيها على المسرح العالمي و في مصهر التدافع الحضاري.
- من قاد الشارع التونسي أو الثورة التونسية، الشباب العاطل أم الشباب المثقف؟
في تونس الشباب العاطل متعلم في أغلبه. شعب تونس كما هو معروف هو أكثر الشعوب العربية و الافريقية تمدرسا، وهذا بدون أدنى شك كان ثمرة سياسات انتهجت منذ الاستقلال على يد بورقيبة ثم واصلها خلفه، ومن الطبيعي أن يؤدي انتشار التعليم الحديث الى رفع سقف التطلع و المطالب الاجتماعية ، فاذا وافق ذلك انسدادا للآفاق و تحولا مافيويا في طبيعة الدولة أصبح أرضا خصبة لخميرة الثورة ، يمكننا هنا أن نقول بأن السحر انقلب على الساحر.
الشباب الذي قاد الثورة ونزل إلى الشارع شباب متعلم ويعرف ماذا يريد، والدليل على ذلك أن الثوار لم يخضعوا للتنازلات التي قدمها بن علي وأسقطوه، ثم فيما بعد لم يخضعوا لما قدمته الحكومة الجديدة لأنهم يعرفون أن أرجل الطاولة السياسية ما زالت كما هي لم تتغير تغيراً جوهرياً، وهم مصرون إلى الآن على استكمال ثورتهم حتى بلوغها أهدافها، و كلما أسقطوا حجراً من البنيان السياسي الفاسد الذي ثاروا عليه، تقدموا نحو حجر آخر، وهذا مستوى من الوعي مبهر.
- لا شك أن الحديث كله يدور حول مسألة الاستئصال- أي توهم الديكتاتور استئصال روح الرفض الاجتماعي- و لا شك أن الامعان في القمع أدى الى الثورة فهل الاستئصال خطر أم أنه فرصة لتراكم أسباب الرفض و للتغيير بالنسبة للمجتمع؟
يقول الكاتب السياسي المعروف دوتوكفيل إنه لو حصل أن حكم فرنسا مستبد مستنير قبل عشرين سنة من وقوع الثورة الفرنسية لما حصلت الثورة. لا شك أن انسداد كل منافذ الأمل والحركة والتطلع يؤدي إلى وضعية انفجارية. إن ما حصل في تونس درس حقيقي للأنظمة العربية المفروض أن يدفعها دفعاً إلى مراجعة إستراتيجياتها الأمنية ومفهومها للأمن مراجعة جذرية وعميقة. إن الثورة وقعت في تونس في بلد كل مؤسسات مجتمعه المدني مدمرة، والشباب الذي صنع الثورة التونسية شباب ولد إما بعد حكم بن علي أو قبله بسنوات معدودة بمعنى أنه عندما حكم بن علي كان الشباب الذي صنع هذه الثورة إما لم يولد بعد أو أن عمره لم يتجاوز العشر سنوات في أقصى الحالات، هذا الشباب لم يتعرض لا لتأطير نقابي ولا سياسي ولا حزبي ولا لأي شكل من أشكال التنظيم الجماعي، ولكن تكوينه الحضاري وروحه الحضارية ومستوى تمدرسه وتعلمه جعله يلتقط بسرعة عجيبة وغريبة الإمكانات التي يتيحها العصر للتواصل وللمبادرة الاجتماعية، هل تعرف أنه يوجد أكثر من مليوني شاب تونسي على الفيسبوك في بلد لا يتعدى عدد سكانه عشرة ملايين؟ خُمُس الشعب التونسي على الفيسبوك.
الشباب الذي قام بالثورة لم يتعرض لأي شكل من أشكال التأطير، وهذا يدفع إلى مراجعات عميقة للتعويل على البوليس في ضبط التوترات الاجتماعية و على تدجين و تطويع مؤسسات المجتمع المدني.
ان كل ذلك لا يحول اليوم و في هذا العصر، عصر الثورة الإعلامية والمعلوماتية الشاملة، لا يحول دون قيام ثورات تاريخية كبرى وعاصفة. و الأنظمة العربية اليوم بالنسبة لما حصل في تونس أصناف، هناك أنظمة لها قدرة تزيد و تنقص على التكيف، وهناك أنظمة قدرتها على التكيف تكاد تكون صفراً، هناك أنظمة لها عمود فقري مرن وقادرة على الاستماع والإنصات ولها حاسة استقبال مفتوحة إلى حد ما، وهذه الأنظمة قد تتطور تطوراً حقيقياً وتفتح منافذ وأبواب حقيقية لا وهمية للإصلاح السياسي الاجتماعي ، وهي إن فعلت هذا تضمن استمراريتها واستمرار شكل الحكم. أما الأنظمة التي حاسة الاستقبال السياسي عندها معطلة تعطلا شبه كامل فقدرتها على التكيف صفر، وهذه الأنظمة وصلت إلى مستوى البلطجة السياسية الوقحة كمصر، وهذه الأنظمة بدون أدنى شك هي الأكثر عرضة لاستقبال الهزات الارتدادية لما حدث في تونس.
هناك أيضا جانب آخر هام وحاسم في هذا الباب وهو منسوب الشرعية لدى الأنظمة العربية فهو ليس واحداً، نعرف أن شرعية النظم السياسية شرعيات:هنالك الشرعية الديمقراطية أي شرعية صناديق الاقتراع، وهذه جل الأنظمة العربية لا تمتلكها امتلاكاً حقيقياً، وهناك الشرعية التاريخية بمعنى أن هناك أنظمة هي امتداد لعائلات حكمت على مدى قرون، وهذه وشائجها الوجدانية والنفسية أقوى مع شعوبها من وشائج الأنظمة التي لا تمتلك هذا التجذر التاريخي. وأخيرا هناك شرعية الأداء والإنجاز و ما حققته هذه النخبة الحاكمة أو تلك لشعبها وهي ً شرعية حاسمة و لا شك أن هناك علاقة سببية بين الشرعيتين الديمقراطية و الانجازية، والنظام السياسي يكون أقدر على الاستمرار كلما ازداد نصيبه من الشرعية.
- ماذا يجب أن يستخلص الحكام والمسؤولون من الثورة التونسية؟
بالنسبة للدروس التي يمكن أن تستخلصها الأنظمة العربية من كل هذا هي أولاً: أن دولة البوليس أي دولة الانتهاك الشامل لحرمات المعارضين والتعويل على الآليات البوليسية تعويلاً كاملاً لضبط توترات الشرعية و توترات الشارع، هذه الدولة أو هذا النموذج بصدد الأفول والزوال ولا يمكن التعويل عليه بالنسبة للأنظمة في المستقبل، وهذا درس كبير جداً. ثانيا إن الديمقراطية الديكورية الموجودة في عدة دول عربية- تعد أفضل من غيرها- كانت قبل الثورة التونسية مطمحاً للتغيير في دول فيها انسداد سياسي كامل و أما بعد هذه الثورة فقد ارتفع السقف الوجداني للمطالب السياسية العربية عاليا . و المقصود بالديمقراطية الديكورية سكون الجوهر السياسي رغم حركة السطح ، في الديمقراطيات الديكورية هناك أحزاب و حرية للصحافة و هيئات للمجتمع المدني و معارضين في الحكم غير ان جوهر المشهد السياسي و عمقه ساكن لأن الحكم يتم من وراء ستار و بدون تأثير فعلي لكل ذلك. أظن أن هذا النوع من الديمقراطية يشهد اليوم نهايته عن طريق الثورة التونسية التي رفعت سقف تطلع الشعوب عالياً، ولذلك فالدول التي فيها ديمقراطية جزئية أو ديمقراطية ديكورية عليها القيام بمراجعات حقيقية، فأنا أعتقد أن الأنظمة الملكية في العالم العربي لها مرونة وعمود فقري مرن وقدرة على التكيف أكبر، قدرة التكيف هذه تستدعي الذهاب رأساً إلى إصلاحات سياسية جوهرية وحقيقية، وهي في الحقيقة تمتلك الإمكانيات للقيام بهذه الإصلاحات، هذه الإصلاحات هي التي يمكن فعلاً أن تضمن التقدم الاجتماعي والحركة نحو الأفضل بدون تمزقات اجتماعية حقيقية، أنا أقول الثورة التونسية رفعت السقف عالياً الآن، على الأقل من الناحية النفسية والوجدانية حتى لو لم تبلغ أهدافها.
الدرس الثالث هو النهاية الحاسمة والكاسحة والتدمير الرمزي الثقافي والمعنوي و المادي لنموذج الحزب الواحد و لعقلية ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد و لعبادة الزعيم والفرد، هذه بعض الدروس الكبرى التي ينبغي أن يستخلصها من لا تزال حاسة الاستقبال لديه حية.
طبعاً بالنسبة للمستقبل نحن لا يمكن أن نتنبأ بالصورة التي يمكن أن يتخذها التغيير في العالم العربي عموماً، ولكن ما يمكن قوله هو أن التغيير قادم بسرعات متفاوتة لا محالة في كل الدول العربية، لكن التاريخ يعلمنا ممارسة الحذر المعرفي فالتغيير يمكن أن يكون من داخل النخب الحاكمة نفسها، ويمكن أن يكون عن طريق حاكم مستنير، فهو لا يخضع لشكل وصورة نمطية واحدة، لكن التركيبة الكيماوية للزمن السياسي العربي الآن هي تركيبة انفجارية.
- ماذا يمكن أن يستفيد الإسلاميون والعلمانيون والحزبيون عموما من هذه الثورة؟
بالنسبة للحركات التي تحمل هم الإصلاح والتغيير سواء كانت إسلامية أو غيرها يمكن استخلاص الدروس الآتية من التجربة التونسية: أولاً أن التغيير التاريخي الحاسم والكبير هو مسألة المجتمع لا مسألة تنظيم، لا يمكن لتنظيم من التنظيمات مهما كانت قوته أن يتوهم أنه يمكن أن يحل محل المجتمع، لا يمكن إحلال التنظيم مكان المجتمع كما يقول الدكتور محمد جاسم سلطان، التنظيم في أحسن حالاته يمكن أن يكون طليعة اجتماعية ثقافية وسياسية للمجتمع، ولكن لا يمكن أبداً أن يتوهم أنه يمكن أن يغير بإمكانياته وقدراته ووسائله الذاتية. كل من توهم التغيير في العالم العربي عن طريق التنظيمات فشل، واليوم يرتسم أفق جديد حقيقي للتغيير، في تونس الآن النخب السياسية تتبع الشارع وليس العكس، تظن النخبة أن حركة الشارع ستتوقف مطلبياً في لحظة معينة فتفاجؤ بأن الشارع يتقدم نحو مطالب أعقد وأكبر ، فالشارع قد غير أرجل الطاولة السياسية فعلاً، وهذا أمر هام وحاسم لكل الحركات التي تتطلع للتغيير.
الأمر الثاني أن الثورة التونسية تفتح أعين كل من يتصدى للتغيير والإصلاح على الإمكانيات الهائلة التي توفرها الثورة الإعلامية والمعلوماتية في اختصار الزمن اختصاراً، ولا بد لهيئات المجتمع المدني القديم أن تتفاعل مع المجتمع المدني الجديد الذي هو بصدد التخلق والتشكل حتى ولو كان تشكلاً جنينياً.
الدرس الثالث هو ضرورة اتفاق كل القوى السياسية وقوى المجتمع المدني في بلد ما على أرضية مشتركة للتغيير الاجتماعي، وهذه الأرضية لا يمكن أن تكون إلا أرضية الحريات وبناء نموذج دولة القانون والحريات العامة، التغيير الآن ينبغي أن يتجه نحو هوية سياسية للدولة لا هوية أيديولوجية، ونحو تشكيل سياسي لا ايديولوجي أو أساسي للحقل العام، التشكيل السياسي للحقل العام يعني أن كل فكرة في المجتمع لها الحق في أن تطرح نفسها في الحقل العام شريطة توفر شرط واحد فيها وهو ألا تكون فكرة فتنوية أي أن لا تنذر بتمزيق مجتمعها أو بجره الى وضعية التحارب وأن لا تكون فكرة مناقضة للديمقراطية ، إذا لم تكن فكرة فتنوية مناقضة للديمقراطية فيمكن أن تطرح في الحقل العام كائناً ما كان مضمونها، فالحقل العام يتحدد تحديدا سياسيا لا أساسيا، وأظن من أسباب نجاح الثورة التونسية هو أن المجتمع المدني في تونس منذ نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات انتظم كله حول فكرة مركزية وأساسية واحدة وهي دولة القانون والحريات، وهذا ما جعل حركة الثورة والجماهير تتجه نحو هدف واضح ومحدد، فالحركة الإسلامية في تونس لم ترفع شعار تطبيق الشريعة، واليساريون لم يطرحوا شعار دولة دكتاتورية البروليتاريا، الجميع انتظم حول مطلب واحد وهو بناء دولة تخضع فيها السلطة للقانون وتضمن الحريات الأساسية للمواطن، الانتظام حول مطلب يتعلق بالهوية السياسية للدولة، لا بهويتها الأيديولوجية والمعرفية، وهذا الارث الرمزي في المجتمع التونسي هو الذي جعل دقة التصويب في هذه الثورة عالية جداً، وجعل الطاقة النفسية لا تتشتت.
ومن الدروس الأخرى التي ينبغي أن يستوعبها طائفة من أدعياء الاسلام أن هذه الثورة تمثل بداية النهاية للتطرف وللإرهاب لأنها تفتح إمكانية أخرى سلمية ومدنية وحضارية للتغيير، إمكانية تربح فيها ارادة التغيير السلطة الرمزية والسياسية معاً، وهذا الانفتاح سيؤدي إلى ضمور وتلاشي حركات التطرف والإرهاب في بلدان المغرب العربي تدريجيا لأنه قد انفتحت إمكانية أخرى حقيقية للأمل وللتغيير، هذه هي الدروس الكبرى المستقاة من هذه الثورة بالنسبة للمجتمع المدني عموما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.