عميد المحامين يدعو إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    المدرسة الابتدائية سيدي احمد زروق: الدور النهائي للانتاج الكتابي لسنوات الخامسة والسادسة ابتدائي.    القلعة الكبرى: اختتام "ملتقى أحباء الكاريكاتور"    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    تعزيز جديد في صفوف الأهلي المصري خلال مواجهة الترجي    طبرقة: المؤتمر الدولي لعلوم الرياضة في دورته التاسعة    سوسة: وفاة طالبتين اختناقا بالغاز    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    أقسام ومعدّات حديثة بمستشفى القصرين    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    اليوم.. انقطاع الكهرباء بمناطق في هذه الولايات    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    اكتشاف أحد أقدم النجوم خارج مجرة درب التبانة    يتضمن "تنازلات".. تفاصيل مقترح الإحتلال لوقف الحرب    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    كلوب يعلق على المشادة الكلامية مع محمد صلاح    إمضاء اتفاقية توأمة في مجال التراث بين تونس وإيطاليا    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    اعتماد خطة عمل مشتركة تونسية بريطانية في مجال التعليم العالي    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    رئيس الفيفا يهنئ الترجي ع بمناسبة تاهله لمونديال الاندية 2025    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    أخبار الملعب التونسي ..لا بديل عن الانتصار وتحذير للجمهور    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    وزير الفلاحة: "القطيع متاعنا تعب" [فيديو]    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    عميرة يؤكّد تواصل نقص الأدوية في الصيدليات    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقاه عبد الجليل المسعودي وخالد الحداد : الدكتور محمّد العزيز ابن عاشور ل«الشروق»


المنتدى

«المنتدى» فضاء جديد للتواصل مع قرائها بصيغة جديدة ترتكز على معرفة وجهات نظر الجامعيين والأكاديميين والمثقفين حيال مختلف القضايا والملفات ووفق معالجات نظريّة فكريّة وفلسفيّة وعلميّة تبتعد عن الالتصاق بجزئيات الحياة اليوميّة وتفاصيل الراهن كثيرة التبدّل والتغيّر، تبتعد عن ذلك الى ما هو أبعد وأعمق حيث التصورات والبدائل العميقة اثراء للمسار الجديد الّذي دخلته بلادنا منذ 14 جانفي 2011.

اليوم يستضيف «المنتدى» الدكتور محمّد العزيز ابن عاشور المؤرخ المختص في تاريخ الحضارة الاسلامية الّّذي أجاب عن أسئلة تهمّ قراءته لمسارات التأريخ المختلفة ومخاوف التوظيف لأحداثه من هذه الجهة أو تلك، وحقيقة ما يميّز المجتمعات العربيّة المعاصرة، ونظرته للتعليم الزيتوني والفكر الاصلاحي التونسي وتقييمه لأداء الدولة العثمانيّة (التركيّة) ماضيا وحاضرا وغيرها من القضايا المتّصلة بالتاريخ والحضارة.

وقد سبق للمنتدى أن استضاف كلا من السادة حمادي بن جاب الله وحمادي صمّود والمنصف بن عبد الجليل ورضوان المصمودي والعجمي الوريمي ولطفي بن عيسى الّذين قدموا قراءات فكريّة وفلسفيّة وسياسيّة معمّقة للأوضاع في بلادنا والمنطقة وما شهدته العلاقات الدولية والمجتمعات من تغيّرات وتحوّلات .

وبامكان السادة القراء العودة الى هذه الحوارات عبر الموقع الالكتروني لصحيفتنا www.alchourouk.com والتفاعل مع مختلف المضامين والأفكار الواردة بها.
انّ «المنتدى» هو فضاء للجدل وطرح القضايا والأفكار في شموليتها واستنادا الى رؤى متطوّرة وأكثر عمقا ممّا دأبت على تقديمه مختلف الوسائط الاعلاميّة اليوم، انّها «مبادرة» تستهدف الاستفادة من «تدافع الأفكار» و»صراع النخب» و«جدل المفكرين» و«تباين قراءات الجامعيين والأكاديميين من مختلف الاختصاصات ومقارباتهم للتحوّلات والمستجدّات التي تعيشها تونس وشعبها والانسانيّة عموما اليوم واستشرافهم لآفاق المستقبل.

وسيتداول على هذا الفضاء عدد من كبار المثقفين والجامعيين من تونس وخارجها، كما أنّ المجال سيكون مفتوحا أيضا لتفاعلات القراء حول ما سيتمّ طرحه من مسائل فكريّة في مختلف الأحاديث (على أن تكون المساهمات دقيقة وموجزة في حدود 400 كلمة) وبامكان السادة القراء موافاتنا بنصوصهم التفاعليّة مع ما يُنشر في المنتدى من حوارات على البريد الالكتروني التالي: [email protected].

لنبدأ مع اختصاصكم وهو التاريخ، كيف تقيّمون واقع الدراسات التاريخية وأي منزلة لها في سلم العلوم المعاصرة التي طغت عليها المعارف التقنية ؟
ان العلوم والمعارف كلها مفيدة ومتساوية نظرا لدورها في صقل العقول وشحذ الأذهان وانارة سبيل الانسان في سعيه الى تحقيق الحياة الكريمة في كنف العقل المستنير التائق الى علو الهمة، فهذه العلوم والمعارف هي الضامن لتحقيق النهضة المنشودة.

أما فيما يخص واقع الدراسات التاريخية فيجدر التذكير بأن هذه الدراسات متنوعة وقد شهدت تطورا هاما منذ القرن العشرين بفضل احتكاكها بالعلوم الانسانية والاجتماعية الأخرى كالسوسيولوجيا والانتروبولوجيا وغيرهما. وقد ازدهرت الدراسات التاريخية في جامعاتنا العربية وبخاصة المغاربية منها. فلتونس مثلا كوكبة من المؤرخين يحظون باحترام زملائهم في العالم لما تتصف أعمالهم وبحوثهم من الجدية ومواكبة احدث المناهج الأكاديمية.

نعم تحتاج الدراسات التاريخية الى الخروج من الدائرة الأكاديمية الضيقة لتصل الى أكثر عدد ممكن من الناس ومن ناحية أخرى يتعين على الرأي العام وعلى أصحاب القرار أن يستفيدوا من الدراسات والبحوث التاريخية في مساعيهم لفهم الحاضر ومعالجة ملفات الساعة. وفي هذه المرحلة من حياة مجتمعاتنا العربية نحن جميعا في أمس الحاجة لعلم التاريخ والاستنارة بعبره والاطلاع الموضوعي على ماضينا ومعرفة جذورنا وخصوصياتنا وخصوصيات غيرنا، فنصبح هكذا قادرين على مجابهة تحديّات العصر واستشراف المستقبل.

ولا أُخفي أن هذا الأمر ليس باليسير في هذا العصر الذي يتصف بكثافة الأخبار وبسرعة نشرها وضرورة تحليلها على الفور، في حين أن المؤرخ مضطر منهجيا وعلميا الى التمعن ووضع الأمور في نطاقها الواسع زمنيا وفضائيا. فهذه الفجوة بين خصوصيات العصر الاعلامية ومتطلبات علم التاريخ قد تكون السبب الذي يفسر الابتعاد النسبي للمؤرخين عن الساحة العامة أو بالأحرى الساحة الاعلامية.

وعموما يمكن القول بأن المجتمعات كالأفراد كثيرا ما تقع في أخطاء عديدة بسبب عدم الاستفادة من التجارب الماضية. فكتاب تاريخ ابن خلدون مثلا اسمه «العبّر» ولكن قلّ من اعتبر! وهذه ظاهرة غير مقتصرة على مجتمعاتنا بل هي منتشرة في كل الحضارات وكل العصور.

علم التاريخ كان مدخلا لعديد المعارف وابن خلدون كان بالأساس مؤرخا، لكن نلاحظ تراجعا في مكانة العلوم التاريخية وانحصار دور المؤرخ في سرد الأحداث الماضية؟
لا أعتقد أن هناك تراجعا في مكانة العلوم التاريخية. أما انحصار دور المؤرخ في سرد الأحداث الماضية فهذه ظاهرة عتيقة قد انتهت وتولت. ويحق لتونس أن تفتخر بابنيها الباريّن ابن خلدون وأحمد ابن أبي الضياف الذينّ قطعا مع التاريخ السردي ووضعا (الأول في القرن الرابع عشر والثاني في القرن التاسع عشر) قواعد التاريخ التحليلي والتقييمي الذي انتشر وازدهر في كلياتنا ومعاهدنا العليا في غضون القرن العشرين وهو متواصل اليوم.

وكما ذكرتم في سؤالكم فان التاريخ ليس علما واحدا بل هو متكون من أصناف متعددة. فنجد على سبيل المثال، التاريخ السياسي والتاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي وتاريخ الفلسفة والأفكار والأديان والمعتقدات، الخ.

ويبدو أن هذا الصنف الأخير من الدراسات التاريخية قد استطاع أن يعرّف بدراسته وباحثيه أكثر من الأصناف الأخرى. ولعل السبب في ذلك خصوصية الحوار السياسي والفكري الجاري اليوم والمتمثلة في هيمنة الأطروحات والرؤى والنقاشات التي تدور حول دور الدين في السياسة وعلاقته بالدولة وبالسلطة.

وهذا لا يعني أن علم التاريخ بمختلف أصنافه قد تراجع. بالعكس فقد اتصف عصرنا باحياء هذه المادة بعد أن كادت تنقرض من المعاهد في عالمنا العربي الاسلامي في القرون القريبة الماضية.

وعودًا الى ما ذكرته بشأن مسألة الدين في علاقته بالسياسية والسلطة فأود أن أشير الى أنّ النقاشات والمجادلات المتكررة حول مسألة الدين والدولة ينبغي أن لا تطغى على الساحة الاعلامية والفكرية بل يجب الاعتناء بمسائل جوهرية وتطورات تاريخية هامة شهدتها مجتمعاتنا منذ مطلع القرن العشرين بعد جمود شمل كل المجالات وبخاصة الهياكل الاجتماعية واستمر قرونا. وينبغي لعلمائنا المؤرخين والمفكرين الانكباب عليها وتقيمها وتحليلها. ومن أهم هذه التحولات العميقة استقرار الرُّحل وتحول نمط عيشهم العتيق، واندراجهم في الحراك العمراني والاقتصادي والاجتماعي الحديث. ومن تداعيات هذا الاستقرار المادي والجغرافي الهائل ظهور خصوصية تاريخية واجتماعية وانتروبولوجية وثقافية بل وسياسية هامة جدا هي الفجوة بين ذلك الاستقرار واستمرار الرصيد الثقافي والسلوكيات والعقليات التي ظهرت في ظل نمط العيش المذكور وتراكمت منذ مئات السنين الى حد أنها لم تزل قائمة بالرغم من اندثار النمط التي كانت متصلة به اتصالا عضويا.

ولا ريب في أن تسليط الأضواء على هذه الظاهرة وتقيمها هو من أهم الأعمال العلمية والفكرية الكفيلة بمعالجة مسألة المواطنة في مجتمعاتنا العربية الحاضرة. ان الرهان الأساسي اليوم بعد تقهقر التوازنات الاجتماعية التقليدية التي كانت تتصف بالازدواجية بين البداوة وتركيبتها العشائرية والحضر ومجتمعه المعتمد على الأسرة، يكمن في تحقيق المشروع الحضاري الكبير الذي ينتظرنا، أعني تحقيق الانسجام بين نمط عيش صار عصريا وسلوك اجتماعي يقطع مع الماضي القبائلي والعشائري ويحقق المواطنة المنشودة التي تتمثل في بروز الفرد المسؤول الواعي بواجبه وحقوقه في كنف مجموعة وطنية متماسكة العناصر، متقبلة للحاضر مستعدة لمواجهة المستقبل منفتحة على الحداثة. ولا يتم ذلك الاّ بتوفير الضمانات القانونية والسياسية لترسيخ الحرية والعدالة اللتين وقع الاستخفاف بهما كثيرا في تاريخنا العربي الاسلامي المشترك.

وأنا على يقين من أن مجتمعاتنا قادرة على تحقيق هذا المشروع الرائع اذا عرفت كيف توظف المرحلة التاريخية الحالية (والمجتمع التونسي يبدو لي قادرًا أكثر من غيره بفضل خصوصياته التاريخية وبفضل عزمه على ارساء حياة ديمقراطية متطورة) لتحقيق الحرية والعدالة.
هذا التحدي الأكبر الذي ينبغي لمجتمعاتنا العربية مواجهته اليوم.

قال المؤرخ والمفكر الفرنسي الشهير Tocqueville في تحليله للديمقراطية في الولايات المتحدة ان الشعب الأمريكي جمع بين روح الدين وروح الحرية L'esprit de religion et l'esprit de liberté ، فينبغي لمجتمعاتنا العربية أن تكون قادرة على التوفق في تحقيق التوازن بين روح الدين وروح الحرية وروح العدالة. ولا يتحقق ذلك الا ببناء مؤسسات تضمن الحرية والعدالة والتوفق في تحقيق الوسطيّة في الفكر والعقيدة بعيدًا عن اللائكية من جهة والسلفية من جهة أخرى.

واذا تبادر للذهن التساؤل حول قدرة المجتمعات العربية على كسب هذا الرهان الرائع أم لا؟ يتبعه تساؤل آخر يفرضه واقع العلاقات الدولية اليوم وهذا التساؤل هو: هل سيساعدنا الغرب على تحقيق هذه الغاية أم سيسعى الى عرقلة نهضتنا الحضارية؟ هل أن جهودنا قادرة على التغلب على المصالح الاستراتيجية العالمية ان كانت هذه المصالح متضاربة مع ما نصبوا اليه من حرية وعدالة؟

حين نتحدث عن التاريخ لا نتجاهل محاولة ادلجته، قراءات عديدة أعادت انتاج التاريخ بأدوات معرفية ايديولوجية هل يمكن الحديث عن قراءة علمية موضوعية للتاريخ؟
توظيف التاريخ أو توظيف قراءة الماضي لخدمة معتقد ما أو نظرية أو رؤية ما أو ايديولوجية هي ظاهرة ملتصقة بمادة التاريخ منذ القدم فالمُنتصر يفرض قراءته للتاريخ على المنهزم والصورة الرسمية للماضي الصادرة عن الدولة هي التي تدوّن في الكتب المدرسية...

ثم هناك توظيف آخر يستعمل من قبل التيارات الفكرية والسياسية في محاولة اقناع الناس بصواب مواقفهم من خلال تواصلهم المزعوم مع الهوية «الحقيقية» والمجادة السالفة. فالمحافظون والسلفيون مسلمين كانوا أو نصارى أو يهود يزعمون أن ماضيهم كان مجيدا عادلا ويتهجمون على العصر الحاضر فيصفونه بشتى النعوت السلبية ويعتبرون الحداثة خطرًا على الهوية والأصالة.

فهنا يأتي دور المؤرخ ليضع الأشياء في نصابها من خلال دراسات وبحوث معمقة وموضوعية للتذكير بأن ماضينا كان فعلا عظيما في مجالات عديدة ولكنه كان لا يخلو من عيوب ونقائص ومظالم.

فالسلطة السياسية المركزية التي تمثلت في مختلف الدول التي قادت العالم العربي الاسلامي منذ الأُمويين الى نهاية الدولة العثمانية، كانت تتصف بجوانب سلبية مشتركة أساءت الى المجتمعات بالرغم من النجاحات العسكرية والاقتصادية والحضارية التي حققتها تلك الدول أعظم خلفائه وسلاطينها وأمرائها.

وما هي هذه الخصوصيات؟

هي كثيرة ومن أهم الخصوصيات السلبية تلك الخصوصية المتمثلة في خشية السلطة المركزية من الامتزاج بالمجتمع ونُخَبِه المحليّة. وقد تمثلت هذه الظاهرة في الاعتماد على حاشية متكونة من أفراد من الأهالي غير المسلمين أو، على نطاق أوسع، على المماليك من الصقالبة وغيرهم.

وقد بلغت هذه النزعة أوجها في العهد المملوكي في مصر والشام (القرون 13 – 16) بحيث صار المماليك هم الأمراء يتداولون الحكم بينهم. فهذه الدولة أضافت الكثير للحضارة العربية الاسلامية بانتصاراتها على الصليبيين وبمآثرها العمرانية والمعمارية والفنية ولكنها كانت دولة مسلطة على المجتمع وليست منبثقة عنه. فكان سلوكها السياسي سلوكا استبداديا في السياسة، تعسفيا في الحياة الاقتصادية. ولا يخفى أن هذه الظواهر استمرت للأسف في مختلف الأنظمة السياسية في عالمنا العربي. وقد وصفها المؤرخ الألماني الكبير Karl Wittfogel بالاستبداد الشرقي Despotisme oriental. وكان مؤرخا أمينا حيث ابرز أن هذا النوع من الحكم انتشر أيضا في غير العالم العربي وفي مجتمعات غير اسلامية كمصر القديمة وروسيا والصين، مؤكدا على أهمية الموروث الاستبدادي الشرقي القديم وعلى المناخ الجغرافي في نحت هذا الصنف من الحكم واستمراره مدة قرون ولم يربط المسألة بالدين. فيا حبذا لو يعود البعض الى هذا النوع من الدراسات المعمقة وهي كثيرة ولكنها غير منتشرة لدى الجمهور المثقف.

كمتخصص في التاريخ الحديث والمعاصر كيف يمكن أن تفكّكوا لنا الصورة النمطية عن الاسلام والمسلمين في الغرب؟

قبل أن نتحدث عن الصورة النمطية عن الاسلام والمسلمين في الغرب ينبغي أن نشير الى المساهمات القيّمة التي قدمها عدد هام من العلماء الغربيين النزهاء الذين قاموا بدراسات جليلة عرّفت بمساهماتنا في الحضارة الانسانية وأبرزت جوانب هامة من تراثنا الفكري والمعرفي.

أما الصورة النمطية وسعي البعض الى نحتها ونشرها فهو أمر قائم منذ القدم. فأوروبا المسيحية مثلا سعت منذ القرون الوسطى الى تخويف مجتمعاتها من الاسلام والمسلمين فوصفتهم بأوصاف رهيبة في محاولة منها للتصدي لعظمتنا العسكرية والسياسية والحضارية يومئذ.

وفي عصرنا الحاضر اخطر أنواع توظيف التاريخ ضد الاسلام هو الذي يتمثل في الاعتماد على مؤرخين أكاديميين مقتدرين فيضع هؤلاء الأساتذة الجامعيون علمهم وقدرتهم التحليلية في خدمة تيارات سياسية واستراتيجيات حكومية ودفاعا عن مصالح دولهم. ولا شك في أن هذه النظرية النمطية تجاه الاسلام والمسلمين ازدادت حدّة في مرحلتين أساسيتين الأولى منذ تأسيس دولة اسرائيل والثانية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي لأسباب معروفة.

أقول كل ذلك ولا أُخفي أن الصورة النمطية موجودة عندنا أيضا وبخاصة من خلال الأحكام المسبقة على الغرب لدى البعض كما يجب أن أقول ان التيارات المتطرفة وبعض السلوكات التعسفية أو العنيفة داخل الدول العربية الاسلامية وخارجها ازاء أصحاب الرأي المخالف تساعد (عن قصد أو عن غير قصد) الغربيين الذين يسعون الى هيمنة الصورة النمطية للمسلمين على عقول الرأي العام الغربي على تغذية الادعاءات ونشر الأفكار المسبقة علينا وعلى معتقداتنا وخصوصياتنا الحضارية.
فالتطرف غربيًا كان أو عربيا أو اسلاميا يساهم لا محالة في نحت هذه الصورة المزيّفة.

ولعل الحل يكمن في تضافر جهود النزهاء من العلماء في الغرب مع زملائهم في العالم الاسلامي، كما يكمن في تطوير تعليم التاريخ في المدارس والمعاهد في الغرب وفي العالم الاسلامي، تعليما يساهم في نشر قيم الانفتاح والاصغاء الى الآخر واحترام الرأي المخالف ونبذ التطرف والعنف والانطواء الضيق على الذات، وكذلك في السعي الى تعزيز الاعلام النزيه، الذي يتبيّن ويستند الى مراجع صحيحة.

في هذا السياق هل يمكن الحديث عن آفاق للحوار مع الآخر منطلقها فهم متوازن لماضينا المشترك الذي يتغلب عليه الطابع الصدامي وخاصة مع الحروب الصليبية والاستعمار؟

الحوار مع الآخر قائم ولكن لم تسلط عليه الأضواء بالقدر الذي تسلط على مظاهر الصدام والتطرف والعنف.
ان الحروب الصليبية ( القرون 11 الى 13) ثم الاستعمار (القرن 19 و 20) كانا صدمة قوية استمرت الى اليوم بالرغم من الانتصارات الرائعة التي حققتها الجيوش المسلمة ضد الصليبيين (على يد صلاح الدين الأيوُبي والسلطان المملوكي بيبرس والسلاطين العثمانيين) وبالرغم من انتصارات الشعوب في كفاحها ضد المستعمر البريطاني والفرنسي فان هذه الصدمة لم تزل حاضرة في أذهان وصدور العرب وكثير من المسلمين من غير العرب والسبب في ذلك هو اسرائيل.

فالجدير بالملاحظة انّ قبل أحداث دولة اسرائيل على أرض فلسطين العربية كانت نُخَبُنا تنظر الى أوروبا وتقدّمها واختراعاتها ومؤسساتها السياسية والعلمية بنظرة الاعجاب وفي كنف الاستعداد الفكري للتعامل مع الحضارة الغربية تعاملا متفتحا. ولكن بعد تأسيس اسرائيل بدعم غربي واضح تغيّر الموقف لأنّنا شعرنا بأن الاستعمار يتواصل بشكل آخر.

دكتور كيف تفسّرون عبارة مثل «الدماء تقطر على حدود الاسلام» والتي تغذي فكرة صراع الحضارات؟

هذه عبارة من العبارات التي تسعى الى الاثارة بعيدا عن التحليل التاريخي النزيه. وهذا ضرب من ضروب توظيف التاريخ لفائدة استراتيجيات سياسية وايديولوجيات معادية لكل من لا ينساق لمصالح الغرب. وفكرة صراع الحضارات انّما الغاية منها اقناع الرأي العام الغربي بأن عدو الغرب وعدو الحداثة هو الاسلام وأهله بتعلة عجزهم على مواكبة العصر وهو طبعا افتراء شنيع.

وبالمناسبة لا بأس من الاشارة هنا الى الأضرار التي عانت منها الحضارات والمجتمعات عبر العصور من جراء السياسات التوّسُعية التعسفية التي نفذت أوروبا والغرب عموما منذ القرون الوسطى.

والعبارة المشار اليها هي نوع من أنواع التوظيف الايديولوجي والاستراتيجي السياسي للتاريخ على حساب الحقيقة.
هذا لا يعني أنني أُخفي أو أتجاهل المنافسة الشديدة التي ظهرت عبر القرون بين الحضارات وبخاصة بين أوروبا المسيحية والدول الاسلامية. لكن لا أنسى أيضا أن المصالح السياسية والاقتصادية والتوازنات العسكرية كانت تتغلب – كما هو الشأن اليوم – على المنافسة الحضارية أو الدينية فملك فرنسا – فرنسوا الأول – طلب مساندة السلطان سليمان القانوني العثماني ضد الامبراطور كارلوس الخامس وكان ذلك في القرن السادس عشر؛ وهو دليل من بين أدلة كثيرة على أن الصراع من أجل المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية يتغلب على غيره من الصراعات في العلاقات بين الدول.

وفي هذا السياق ينبغي أن نشير الى تقدم العرب تاريخيا وتفوقهم حضاريا في تحقيق التسامح والتعايش بين الأديان والحضارات والملل والنحل في أزمنة كانت أوروبا تتصف بتعسفها ضد كل المجموعات غير المسيحية أو غير الكثوليكية وبتسليط العنف الشديد الى حد القتل ازاءهم.
الصراع الحقيقي اليوم ليس بين الحضارات وانما هو صراع سياسي وعسكري واقتصادي بين الدول وبين تحالفات الدول من أجل تحقيق المصالح.

ما رأيكم حينئذ فيما يخص حوار الحضارات الذي تتبناه عديد الهياكل ومنها الألكسو؟

انّ الحوار بين الحضارات أمر متعين لأنه يساهم في جمع شمل المستنيرين في كل أنحاء العالم وتضافر جهودهم لنشر قيم التسامح واحترام التنوع الثقافي والتصدي للتطرف بمختلف أشكاله.

وأنا حريص كرئيس المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم على المساهمة في هذا الحوار وفي هذا الترابط مع غيرنا.

لندخل جوهر اختصاصكم وهو تاريخ الاسلام. أو جزء منه. وتحديدا المقترن بجامع الزيتونة المعمور الذي خصصتم له سنة 1992 كتابا يعتبر من المراجع الأساسية حول هذا المعلم.. كيف تقدّمون لنا جامع الزيتونة وتاريخه؟

انّ اختصاصي هو تاريخ الحضارة الاسلامية وتراثها مع التركيز في بحوثي الأكاديمية على تونس. فاهتممت اهتماما خاصا بوسط العلماء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبمدينة تونس عمرانيا ومؤسستنا واجتماعيا وثقافيا. ولا شك أن لجامع الزيتونة موقعا مركزيا في حياتي وفي بحوثي كما لهذا المعلم منزلة مركزية في تاريخ تونس وعمرانها وثقافتها ونضالها من أجل الدفاع عن الهوية ولتحقيق الاصلاح.

جامع الزيتونة في وجدان كل التونسيين فهو البيت العتيق (أوائل القرن الثاني الهجري) وثاني الجوامع التي رفعت في بلادنا لاعلاء كلمة الله.
وهو أقدم معهد لبث علوم الدين واللغة وشتى الاختصاصات، وهو المؤسسة العلمية التي تخرج منها طبقات من العلماء والمفكرين ورجال الدولة. وجامع الزيتونة هو المعلم التاريخي الرائع بعمارته وزخرفته وتقاليده. وكان في عهد الاستعمار قلعة الهوية العربية الاسلامية للبلاد التونسية.

وقد قامت المؤسسة الزيتونية بدور مركزي في التحولات التي شاهدتها البلاد التونسية منذ القرن التاسع عشر وبخاصة الحركة الاصلاحية.
ويجدر بنا التذكير هنا أن أركان التيار الاصلاحي في تونس هم من علماء الزيتونة كمثل أحمد بن أبي الضياف ومحمود قابادو ومحمد بيرم وسالم بوحاجب ومحمد الطاهر ابن عاشور ومحمد العزيز جعيط. وفي مجال الاصلاح الاجتماعي فللزيتوني الطاهر الحداد قصب السبق في النضال الفكري من أجل النهوض بالمرأة المسلمة ومن أجل الدفاع عن حقوق العمال التونسيين. أما النهضة الأدبية فمساهمات أبناء الزيتونة فيها كثيرة ونكتفي بذكر أبو القاسم الشابي والعربي الكابادي والطاهر القصّار وغيرهم كثيرون.

ما هي أهم الشواهد عن علاقة جامع الزيتونة بالحركة الاصلاحية والاجتماعية وبالحركة الوطنية؟

كان جامع الزيتونة أول مؤسسة تقليدية تمت فيها تجربة اصلاحية وذلك في سنة 1842 على يد أحمد باشا باي ثم تعززت هذه التجربة في 1876 بايعاز من الوزير خير الدين في عهد الصادق باشا باي .
أما التجربة الاصلاحية الكبرى فقد انطلقت في سنة 1932 على يد الشيخ الامام محمد الطاهر ابن عاشور وهو أول من سميّ شيخ الجامع الأعظم وفروعه وشيخ الاسلام المالكي بعد أن كانت ادارة الجامعة جماعية، ومشيخة الاسلام امتياز خاص بالمذهب الحنفي.

وكان هذا الحدث تتويجا لجهود الأستاذ الامام من أجل اصلاح التعليم العربي الاسلامي في تونس، وانتصارا للتيار الحداثي في الوسط الزيتوني. فشرع الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تنفيذ برنامجه الذي كان وضع أسسه النظرية في كتابه أليس الصبح بقريب وهو أول دراسة نقدية للتعليم في تونس وفي العالم العربي عموما. وبالاضافة الى اصلاح البرامج وتطوير طرق التدريس سعى الشيخ محمد الطاهر الى تحسين ظروف عيش الطلبة الزيتونيين الوافدين من داخل البلاد وكان اغلبهم يعانون من الفقر والحرمان.
وهو أول من أنصفهم بالقطع مع المحسوبية والظلم الذي كان يسلط عليهم في الامتحانات فضرب على أيادي الظالمين من الشيوخ الأساتذة.

وقد ارتفع نسق تنفيذ هذا البرنامج الاصلاحي والاجتماعي بعد عودة الشيخ ابن عاشور الى مشيخة الجامع الأعظم محفوفا بحماس فياض من لدن التونسيين من كل الجهات وكان ذلك سنة 1945. فزاد في انشاء الفروع الزيتونية في عدة مدن من البلاد وكذلك في شرق الجزائر، ميسرا بذلك على التلاميذ متابعة الدروس دون عناء وابتعاد عن أسرهم.

ثم شرع بالتعاون مع ثلة من خيرة الأساتذة كالعلامة الشيخ محمد العزيز جعيط في تحقيق الغاية المنشودة منذ مطلع القرن العشرين وهي احداث جامعة زيتونية عربية اسلامية عصرية يحويها مقر مطابق للمواصفات الجامعية الحديثة بالاضافة الى تطوير المضامين واحياء العلوم. فانصرفت همة هؤلاء الرجال الأبرار الى انشاء الحي الزيتوني في سنة 1947 (وهو الذي تحوّل بعد الاستقلال الى المعهد الثانوي ابن شرف) وبدعم كامل من الشعب وبفضل التبرعات من كل أنحاء البلاد تم الشروع في بناء الجامعة الزيتونية سنة 1954 ولكن بعد الاستقلال خصص هذا الصرح الكائن في شارع 9 أفريل كمقر للجامعة التونسية.

فالشيخ محمد الطاهر ابن عاشور كان بحق قائد الحركة الاصلاحية الزيتونية علميا وثقافيا واجتماعيا. وبالاضافة الى احترام الجميع لشخصه وعلو همته ورسوخه في العلم وقدرته على الاجتهاد والتجديد كان يحظى أيضًا بمحبة التونسيين في كل أنحاء البلاد ولم يزل هذا الشعور قائما الى يومنا هذا. وكم أكون متأثرا بمناسبة تنقلاتي داخل الجمهورية أو أثناء زيارات الناس الى المكتب أو الى البيت عند الاستماع الى شهادات قدماء الزيتونيين حول انصاف الشيخ الامام وعطفه على الطلبة وتقديره لجهودهم وتضحياتهم.

وفي نطاق هذه النهضة التي بدأت في الجامع الأعظم سنة 1932 ظهرت حركة زيتونية متعددة الجوانب وازدادت نشاطا بعد 1945 فاكتسحت كل مجالات الحياة العامة فتأسست النوادي والمنابر والجمعيات وكان ذلك بفضل كبار الأساتذة كالشيخ المختار بن محمود والشاذلي ابن القاضي ومن شبان المدرسين كالشيوخ الحبيب ابن الخوجه والمختار السلامي والبشر العريبي والهادي حمو وغيرهم.

واهتم الأساتذة بشأن الشباب فأسس الشيخ محمد الصالح النيفر جمعية الشبان المسلمين في حين قامت السيدة بشيرة بن مراد ابنة الشيخ محمد الصالح بن مراد بعمل طلائعي للنهوض بالمرأة المسلمة.

شاركت الحركة الزيتونية في الكفاح الوطني ولكن دورها مازال يحتاج الى مزيد الابراز؟

أما في مجال الكفاح الوطني فللزيتونيين الأيادي البيضاء فقد قاوموا وتظاهروا واضربوا واستشهدوا. وآخر من سقط برصاص القوات الفرنسية هما طلبان من جامع الزيتونة في مظاهرة 5 مارس 1954 الشهيدان هما محمد المرزوقي والدهماني حمزة رحمهما الله.

وقد كانت هذه النضالات من أجل تحرير الوطن مقترنة تمامًا بالنضال من أجل العروبة خصوصا لما احتلت اسرائيل فلسطين فكان لأبناء الزيتونة الدور الأساسي في الاستعداد للمقاومة مع اخوانهم في الأرض المحتلة وتنظيم الرحلات لنقل المجاهدين من تونس الى المشرق.

كما ساهم الزيتونيون في الحركة النقابية والجدير بالذكر هنا أن أول اضراب شهدت تونس كان في سنة 1910 قام به التلاميذ الجامع الأعظم احتجاجا على ظروف عملهم وعيشهم.

وقد برز في هذه الحركة الزيتونية النشيطة رجل صار رمزا للجهود من أجل النهوض بجامع الزيتونة في كنف وطن تونسي عربي اسلامي حر هو الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور ابن الشيخ الامام محمد الطاهر ابن عاشور فقد تبوأ عن جدارة المنزلة الأولى في الحركة الزيتونية خصوصا منذ السنوات 1940 بالاضافة الى مكانته الرفيعة كعالم وباحث وأستاذ وخطيب.

لقد قام رحمه الله بدور أساسي في جمع شمل التونسيين للصمود ضد المستعمر في ظروف عسيرة، فكان له دور أساسي في تعبئة الشعب للمطالبة بعودة الملك المنصف باي من المنفى.

ومن منطلق تحقيق التحرير في ظل الهوية العربية الاسلامية لتونس قام الشيخ محمد الفاضل بدور بارز في تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل في عهد كانت النقابات الشيوعية قوية جدا. فكان يتنقل في مختلف أنحاء البلاد لاقناع العمال بضرورة الانخراط في نقابة تونسية والسهر على تأسيس فروع الاتحاد. فرئاسته للاتحاد العام التونسي للشغل في 1946 كانت اعترافا بالجميل لهذه الجهود ولهذا النضال. ويجدر التذكير هنا بأن الشيخ محمد الفاضل كان في الفترة ما بين 1943 و 1947 ليس فقط زعيم الحركة الزيتونية بل زعيما وطنيا ذا شعبية عالية. وقد أثارت هذه المنزلة قلق الحزب الدستوري فقام مناضلوه بشن حملات عنيفة ضد الشيخ الفاضل وضد الشيخ والده وعلى ذكر الحزب الحر الدستوري فينبغي أن أشير هنا الى المنافسة الشديدة بين الحركة الزيتونة والحزب والتي تفاقمت في الخمسينات بسبب صمود الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أمام الضغوط التعسفية من صالح بن يوسف بسبب نمو نشاط الحركة الطلابية صوت الطالب الزيتوني التي تأسست في سنة 1950 على يد محمد البدوي وعبد العزيز العكرمي والحبيب نويرة وعبد الرحمان الهيلة وعبد الكريم قمحة وغيرهم.

وقد حرصت هذه الحركة على استقلاليتها ازاء الحزب والاصرار لتحقيق مطالبها حتى اضطر الدستور الى التحرك لكي تنشق حركة صوت الطالب فتم ذلك بانشاء «الكتلة» فاشتد الصراع.

أما الضربة الحاسمة لحركة صوت الطالب فقد جاءت بعد انهزام صالح بن يوسف في صراعه مع الحبيب بورقيبة والسبب في ذلك أن صوت الطالب اختاروا الانضمام الى الصفوف اليوسفية (بعد أن كان الزعيم صالح بن يوسف عدوهم) اعتقادا منهم بأن الرجل سيحقق ما كانوا يصبون اليه من نصر العروبة والاسلام في تونس المستقلة. فانتهت الحركة الطلابية الزيتونية وواصل بعض أفرادها مقاومتهم للنظام الجديد خصوصا بعد قضية رمضان 1960 الى حد المساهمة في محاولة الانقلاب في 1962.

ما تقييمكم لمشروع اصلاح التعليم الزيتوني أنذاك؟

اذا أردنا أن نحوصل باقتضاب شديد الحديث عن الحركة الزيتونية فيمكن القول بأن مشروع اصلاح التعليم الزيتوني حقق بعض النتائج لكن لا يمكن أن نعتبره ناجحا ولاشك أن ظروف الحماية والخلافات السياسية وضروريات الحركة الوطنية حالت دون تحقيق الغاية. فعلى مستوى التعليم ومناهجه وتحسين الجودة فيه مثلا فقد فشلت المؤسسة الزيتونية في تدارك تأخرها على التعليم المدرسي العصري. وقد سعت الحكومة بعد الاستقلال الى عرقلة محاولات الاصلاح والتحديث لأسباب مختلفة تحتاج الى جلسات أخرى.

كان الشيخ الامام محمد الطاهر ابن عاشور من رواد الاجتهاد واصلاح الفكر الديني ومدرسة الطاهر ابن عاشور في تفسير القرآن مرموقة معترف لها بالسبق. لكن من الواضح أن التحرير والتنوير ومقدماته بالذات قطيعة معرفية مع المدارس التقليدية ولكنها لم تصبح تيارا مؤثرا.

تفسير التحرير والتنوير (وهو أول تفسير مغاربي كامل للقرآن الكريم ومن أهم التفاسير على الاطلاق) يدرس اليوم في كل الجامعات الاسلامية وفي عدد من الجامعات غير الاسلامية بحيث يحظى هذا التأليف الجليل بمنزلة عالية عند أهل الاختصاص. ولا يخفى عليكم أن عملا من هذا الحجم وبهذا التعمق وببعده الاجتهادي لا يمكن أن ينتشر لدى الجمهور انتشار كتاب موضوعه غير تفسير القرآن الكريم وهو علم جليل لا يتناول بسهولة. لكنه اليوم مرجعا أساسيا يحق للتونسيين أن يفتخروا به. ثم للشيخ الامام كتاب آخر هو لبنة أساسية في صرح تجديه علوم الدين وهو مقاصد الشريعة الاسلامية. والشيخ الامام هو أول من خص المقاصد بكتاب منفرد. فجعل هذا الباب بمنزلة العلم المتكامل الشروط لما لهذا الاختصاص من الأهمية في ابراز قيمه الاجتهاد والتجديد في الشريعة الاسلامية.

فأعمال الشيخ الامام محمد الطاهر ابن عاشور وهي كثيرة تنفع الناس وستنفعهم وتساعدهم على الدخول في الحداثة دخولا ثابتا اذا أرادوا أن يتم ذلك بالاعتماد على العقل مع الرسوخ في العلم.

نبقى مع تاريخ الاسلام ومع تاريخ الدولة العثمانية التي يعتبرها البعض سبب انحطاط الثقافة العربية بفعل سياسة «التتريك» وانتشار الأنظمة العسكرية؟

لا يجوز للمؤرخ وأقول أيضا لا يجوز للمسلمين أن يحكم بهذا الشكل على الدولة العثمانية التي بلغت القمم في عديد من المجالات وكانت هي آخر قوة عسكرية وسياسية اسلامية قادرة على تحقيق الفتوحات. وقد ساهمت في اثراء الحضارة الانسانية بانجازاتها العمرانية والمعمارية وحتى في علوم الحرب في وقت ما.

ويجب أيضا الاعتراف للدولة العثمانية باحترامها لمختلف الملل والأديان والثقافات وقد تحقق التعايش بينها في كنف السلم.
أما نحن معشر التونسيين والمغاربة عموما فيجب علينا أن لا ننسى أن الدولة العثمانية هي التي مكنتنا من التخلص من الاحتلال الاسباني أي المسيحي.
أما الانحطاط فهو نتيجة تراكمات ظهرت قبل الدولة العثمانية واستمرت في ظلها.

ولعل مشكلة السلطنة العثمانية يتمثل في كون تراجعها تزامن مع النهضة الأوروبية. ومحاولات التحديث عرقلتها السياسات الاستعمارية الأوروبية. وللأسف فان بعض المجموعات العربية في المشرق وقعت في الفخ المتمثل في احياء «العروبة» على حساب السلطنة العثمانية. فلا ينكر احد أن مشاكلنا تفاقمت وتعقدت منذ سقوط الدولة العثمانية بدأ بفلسطين التي حماها السلطان عبد الحميد.

هناك من يتحدث عن عودة «العثمانية» في صورة جديدة عبر بوابة الانبعاث التركي الذي يعتبره البعض حليفا ممكنا للعرب معززا لموقعهم في العالم، ما هي نظرتكم للنموذج التركي وكيف تفسرونه؟

أُفَّضِلُ استعمال كلمة «التجربة» عن استعمال «النموذج» لان المجتمعات تختلف، وتاريخ تركيا في حدودها الجغرافية الحالية ليس بالضرورة تاريخا مطابقا لتاريخنا. تركيا مقر امبراطورية ثم دخلت في الحداثة على أسلوب منقذها من التفكك كمال أتاتورك فكانت سياسة تعسفية لكنها حققت انشاء دولة عصرية وأعادت الاعتبار للوطن. وقد تبين أن هذه السياسة نجحت في احداث دولة عصرية لكنها فشلت والحمد لله في طمس الهوية الاسلامية في تركيا.

والتجربة الجارية على يد حزب AKP (العدالة والتنمية) اليوم هي ايجابية وناجحة في نظري، لأنها رسخت الديمقراطية وأعادت الاعتبار للهوية وحافظت، في الوقت نفسه، على التنوع الثقافي بعيدا عن التصلب والتشدد ولا تتدخل في الشأن الخاص للمواطنين. وحافظت التجربة التركية الحالية على الدولة الحديثة بل عززتها باقامة علاقة مطابقة لمواصفات الأنظمة الديمقراطية مع المؤسسة العسكرية. أما اقتصاديا فنجاحها رائع أيضا حيث أصبحت تركيا ضمن العشرين دولة ذات أحسن مستوى اقتصادي في العالم. فالاقتباس من التجربة التربية يكون مفيدًا جدًا للمجتمعات العربية.

لو سمحت دكتور نتحدث قليلا عن الألكسو هناك من يقول أن دورها أقل بكثير من المنتظر منها ؟

اعتقد أن العكس هو الصواب المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وهي أهم هيكل عربي مشترك ضمن الجامعة العربية تقوم بدور أساسي في وضع السياسات العربية في مجال التربية والثقافة والعلوم. وبالرغم من الامكانيات المادية المحدودة نسبيا فهي تقوم بالدور المنوط بعهدتها كبيت خبرة فتقدم للدول التقييمات والدراسات وتنظم الحلقات التكوينية والورشات وتنفذ البرامج المطلوب منها تحقيقها وتقوم بدور التنسيق مع الوزارات العربية المعنية.

كما لها دور هام في ابراز الحضور العربي واعطاء الصورة المشرقة عن العرب على الساحة العالمية بشتّى الطرق وبالاتفاقيات والشراكات التي تربطها بالمنظمات الدولية كاليونسكو واتحاد أوروبا وبرنامج تحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة وغيرها.

وسعيت شخصيا الى الانفتاح على المجتمع المدني والجمعيات وأنا حريص على أن تكون الألكسو ليست بيت خبرة فقط بل ينبغي لها أن تكون منبرًا لنشر قيم التسامح والتعايش والتنمية والوسطية والدفاع عن كرامة الانسان وحماية التنوع الحضاري. كما حرصتُ على اعطاء التراث ما يستحق من الاهتمام. هذا فضلا طبعا على دعمنا الموصول للمشروعات الفلسطينية والتصدي للمحاولات الاسرائيلية لادراج القدس على قائمة اسرائيلية للتراث العالمي لليونسكو.

فأنشأت بعد موافقة المؤتمر العام في 2010 برنامجا للتراث بدأ في تحقيق مشروعاته وبخاصة احداث الجائزة العربية الكبرى للتراث التي انعقدت دورتها الأولى مؤخرا وفاز بها باحث من تونس ومؤسستان من غزّة والمملكة العربية السعودية.

والحديث على أنشطة الألكسو يطول فسأقتصر على ذكر مشروعين هامين شرعت الألكسو في تنفيذهما هي خطة تطوير التعليم الممتدة على 10 سنوات ومرحلتها الأولى هي برنامج تحسين الجودة. وقد تحصلنا على شراكة البنك الدولي لتحقيق هذا البرنامج المتكون من 5 برامج فرعية موزعة على عدد من المؤسسات الحكومية ومن المجتمع المدني ومع اليونسكو.

والبرنامج الثاني يتعلق بالنهوض باللغة العربية نحو مجتمع المعرفة. جهود الألكسو في مجال اللغة العربية معروفة ولنا برامج في مجال الرقمنة ووضع الأدلة والمعاجم والمراجع كما نهتم اهتمامًا خاصًا بتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها فلنا مركز في السودان يكوّن سنويا 300 طالب بما في ذلك طلبة من الصين وتوفر الألكسو منحا لطلبة من أوروبا لتحسين ممارستهم للغة العربية ففي هذه الأيام مثلا لدينا طلبة من جمهورية تشيكيا يتمتعون بمنح من المنظمة لتحسين مستواهم في اللغة العربية وذلك في معهد اللغات الحية بالعاصمة التونسية.

نختم بسؤال المستقبل وهو هل ستعزز ثورات الربيع العربي قدرة العرب على رفع تحديات العصر بعد تحررهم من معوقات النهوض مثل الفساد والاستبداد؟

قدمت اثناء الحوار تصوري لما يمكن ان تقوم به المجتمعات العربية للقطع مع ظواهر سلبية استمرت سنينا وقرونا في العلاقة بين السلطة والمجتمع في عالمنا العربي الاسلامي والاولوية هي تحقيق الحرية والعدالة في كنف مؤسسات دستورية وتشريعية وتنفيذية وقضائية كفيلة بضمان استمرار نظام يرتكز على الحرية والعدالة حتى نبتعد نهائيا عن خطر تأثير أمزجة الحكام والمسؤولين. وخطر تطاول المقربين على المال العام والناس في أعراضهم وآمنهم وكرامتهم. اعادة الاعتبار للعرب وثقافتهم مقيدة بشرط نجاحهم في الدخول في العصر مقتنعين بأهمية القيم الكونية ولكن دون فقدان خصوصياتهم الحضارية الذاتية. حتى يكون دخولنا في العصر فاعلا وليس اتباعا لما يفرض علينا ينبغي ان تتجه الثورة دون تأخير نحو الاصلاح والسعي الى تحقيق الحرية والعدالة.

والأمر ليس يسيرا لانه يتطلب توفر العزيمة لتحقيقهما بعيدا عن الحسابات الضيقة. ويتطلب تحقيق الوفاق الوطني وكل ذلك لن يتم الا اذا استطاعت الدولة الساهرة على تنفيذ ذلك ان تنهض بالاقتصاد وتوفر للشباب المتشائم اليوم بسبب ضيق الأفق الوسائل لحياة كريمة في بلد مزدهر.

والصعوبة تكمن أيضاً في علاقتنا مع العالم الخارجي فهل هو مستعد لمساعدتنا على تحقيق هذه الغايات؟ لا استطيع ان أجيب عن هذا التساؤل.

من هو محمّد العزيز ابن عاشور؟
ولد بالمرسى في 5 جانفي 1951 ، والده المناضل عبد الملك ابن عاشور هو ابن العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
مؤرخ مختص في تاريخ الحضارة الاسلامية
حصل على دكتوراه في تاريخ الحضارة الاسلامية من جامعة السوربون سنة 1977
حصل على دكتوراه الدولة في الآداب والعلوم الانسانية من جامعة السوربون في 1986
مدير بحوث اثرية وتاريخية بالمعهد الوطني للتاريخ منذ 1973
محافظ مكتبة جده الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور
تقلد عديد المسؤوليات الجامعية والادارية والحكومية منها وزير الثقافة والمحافظة على التراث
مدير عام المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الالكسو منذ 2009
أول تونسي يتحصل على جائزة الاغا خان للعمارة الاسلامية
حصل على عديد الأوسمة التونسية وكرمته الحكومة الفرنسية بأعلى وسام للآداب والفنون سنة 2009
له مؤلفات عديدة بالعربية والفرنسية منها : علماء تونس في القرنين 19 و 18 والمجتمع التونسي في القرن التاسع
عشر والزوايا والطرق الصوفية في تاريخ تونس
شارك في تأليف مراجع عالمية مثل العرب من الرسالة الى التاريخ والمدينة العربية عبر التاريخ ووضع العالم في 1492.
يعتبر كتابه عن جامع الزيتونة المعمور ودراساته عن البيئة العلمية في تونس من اهم المراجع العلمية عن تاريخ تطور المجتمع التونسي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.