وزارة التجهيز: تسمية عدد من المسؤولين الراجعين لها بالنظر اعضاء بالمجالس الجهوية    قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل 8640 فلسطينيا بالضفة الغربية منذ 7 أكتوبر الماضي..    رسميا: الأولمبي التونسي "أيوب الحفناوي" يغيب عن منافسات أولمبياد "باريس 2024"    سيارة تاكسي تقوم ب"براكاجات" للمواطنين..ما القصة..؟!    سياحة : نحو 30 بالمائة من النزل التونسية مازالت مُغلقة    كأس تونس: قائمة لاعبي الترجي الرياضي المدعوين لمواجهة نادي محيط قرقنة    البطولة العربية لالعاب القوى للشباب : التونسي ريان الشارني يتوج بذهبية سباق 10 الاف متر مشي    بطولة مصر : الأهلي يفوز على الاتحاد السكندري 41    جرحى في حادث اصطدام بين سيارتين بهذه الجهة..    قبلي: شاب يقدم على الانتحار شنقا    القصرين إيقاف شخص يأوي المهاجرين    تواصل حملة تنظيف وصيانة حديقة ''البلفيدير''    وزيرة الإقتصاد فريال الورغي في مهمة ترويجية    بأسعار تفاضلية: معرض للمواد الغذائية بالعاصمة    اتحاد الفلاحة: ''علّوش'' العيد تجاوز المليون منذ سنوات    قبل لقاء الأهلي والترجي: السلطات المصرية تعلن الترفيع في عدد الجماهير    المهاجم أيمن الصفاقسي يرفع عداده في الدوري الكويتي    حوادث : مقتل 12 شخصا وإصابة 445 آخرين خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الاربعاء 8 ماي 2024    الاقتصاد في العالم    عاجل : دولة عربية تلاحق عصابة ''تيكتوكرز'' تغتصب الأطفال بالخارج    عاجل/ فضيحة تطيح بمسؤولة بأحد البرامج في قناة الحوار التونسي..    تراجع عدد أضاحي العيد ب13 بالمئة مقارنة بالسنة الماضية    يصعب إيقافها.. سلالة جديدة من كورونا تثير القلق    أخبار المال والأعمال    مدعوما بتحسن الإيرادات الخارجية: ميزان المدفوعات يستعيد توازنه    المتبسطة القيروان مشروع للطاقة الشمسية الفولطاضوئية بقدرة 100 ميغاواط    إلى حدود 6 ماي تصدير 8500 طن من القوارص منها 7700 طن نحو فرنسا    هزة أرضية بقوة 4.7 درجات تضرب هذه المنطقة..    "دور المسرح في مواجهة العنف" ضمن حوارات ثقافية يوم السبت 11 ماي    هذا فحوى لقاء رئيس الحكومة بمحافظ البنك المركزي التونسي..    اليوم: انطلاق اختبارات البكالوريا البيضاء    ومن الحب ما قتل.. شاب ينهي حياة خطيبته ويلقي بنفسه من الدور الخامس    رابطة أبطال أوروبا: بوروسيا دورتموند يتأهل للنهائي على حساب باريس سان جيرمان    جيش الاحتلال يشن غارات على أهداف لحزب الله في 6 مناطق جنوب لبنان    اعتبارًا من هذا التاريخ: تطبيق عقوبة مخالفة تعليمات الحج من دون تصريح    اليوم : بطاحات جربة تعود إلى نشاطها    لأجل غير مسمى.. إرجاء محاكمة ترامب بقضية "الوثائق السرية"    محرز الغنوشي: رجعت الشتوية..    سحب لقاح "أسترازينيكا" من جميع أنحاء العالم    الجزائري مصطفى غربال حكما لمباراة الترجي الرياضي والاهلي المصري    فرقة "مالوف تونس في باريس" تقدم سهرة موسيقية مساء يوم 11 ماي في "سان جرمان"    وزير السياحة: اهتمام حكومي لدفع الاستثمار في قطاع الصناعات التقليدية وتذليل كل الصعوبات التي يواجهها العاملون به    أمطار أحيانا غزيرة بالمناطق الغربية وتصل الى 60 مم خاصة بالكاف وسليانة والقصرين بداية من بعد ظهر الثلاثاء    البنك المركزي: ارتفاع عائدات السياحة بنسبة 8 بالمائة موفى شهر افريل 2024    مصر: تعرض رجال أعمال كندي لإطلاق نار في الإسكندرية    بعض مناضلي ودعاة الحرية مصالحهم المادية قبل المصلحة الوطنية …فتحي الجموسي    المهديّة :ايقاف امام خطيب بسبب تلفظه بكلمة بذيئة    من الحمام: غادة عبد الرازق تثير الجدل بجلسة تصوير جديدة    نحو صياغة كراس شروط لتنظيم العربات المتنقلة للأكلات الجاهزة    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة "سينما تدور" (فيديو)    تونس : 6% من البالغين مصابون ''بالربو''    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    الفنان بلقاسم بوقنّة في حوار ل«الشروق» قبل وفاته مشكلتنا تربوية بالأساس    رئيسة قسم أمراض صدرية: 10% من الأطفال في تونس مصابون بالربو    أولا وأخيرا .. دود الأرض    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    العمل شرف وعبادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعوب أرادت الحياة.. الثورة والأدب-محمد سيد بركة
نشر في الحوار نت يوم 26 - 03 - 2011


الشعوب أرادت الحياة.. الثورة والأدب

محمد سيد بركة


في ظل الثورات الشعبية الراهنة في العالم العربي التي تُوِّج بعضها بالانتصار؛ (تونس ومصر)، وبعضها الآخر مازال يقدم التضحيات من أجل تحقيق أهدافه، تابعنا وباهتمام بالغ ما أبدعته قرائح المبدعين في جوّ كانت الحرية هي الشهيق الذي تنفسه المبدعون بعد طول عهد كان الخناق والتضييق عليهم هو ديدنه، وليس ثمة شك في أن الحرية هي المحضن الأول لكل إبداع إنساني.
قد يبدو للبعض أن الثورة والأدب متضادان، لأن الثورة عمل فيه قدر من العنف أو الدموية، بينما الأدب هو نتاج العقل والفكر، وفي الحقيقة ليس هناك أي تعارض بينهما، فقد كان همنجواي يقول: الأدب هو ثورة مضاعفة، لأنه ثورة تؤدي إلى ثورة، فالأدب هو ثورة الأديب على ما يراه من حوله، فهو يرى ما لا يراه الآخرون، والكاتب أو الأديب لا يكتب لكي يعيد تقديم الحياة، وإنما هو يكتب لكي يقدم رؤية جديدة مختلفة عن السائد، فالثورة ليست بعيدة عن الأدب، ومن أجل ذلك وجدنا العديد من الكتابات التي أدت إلى ثورات.
والأدب منذ نشأته كان المرجع لجميع المعارف التي عرفناها، فالأدب الذي هو الترسانة الحقيقية للعلوم ما زل موجودًا، ومثالًا على ذلك أيضًا كتاب (مزرعة الحيوانات) لجورج آوريل في العصر الحديث، ومازال الأدب حتى الآن يكتب ويتنبأ برؤى لم تتحقق ولم يكن أحد يتخيلها، وفي مصر عندنا المثال الشهير، رواية توفيق الحكيم (عودة الروح)، هذه الرواية التي أوحت إلى مفجر ثورة 1952 في مصر، وأسهمت في تشكيل فكر جمال عبدالناصر على حد قول عبد الناصر نفسه.
وليس ثمة شك في أن كل ثورة لها بُعد أيديولوجي أو نهج فلسفي معين أو خلفية فكرية محددة، وهذا هو الفارق بين الثورة وبين أي حركة تمرد، وأن ما حدث في مصر وتونس، وما يحدث في ليبيا واليمن، هو ثورة الديمقراطية. فثورة 1919 وثورة 1952 وما تبعها في أنحاء الوطن العربي المحتل كانت ثورات تحرير واستقلال، أما الآن فقد حان موعد ثورات الديمقراطية، وهناك نسق فكري محدد، وهو ما يجعل الثورة مستمرة لغاية الآن، لأن هدف الثورة ليس مجرد التغير، فالوطن العربي مقبل على مرحلة ديمقراطية انطلاقًا من فكرة أن الأمر شورى بينهم، ومن فكرة البيعة للحاكم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يورث أحدًا الحكم في وقت كانت أوروبا تعيش فكرة تقديس الحاكم، فالعرب هم الديمقراطيون وليس الغرب، وهذا جزء من تراث الأمة العربية والإسلامية.
أعمال تشكل وعي الثورة
ما من شك في أن الأدب والفن بكل أشكالهما – بل الثقافة عامة – هي الباعث الأول لكل نهضة ولكل تجديد. فقد أثبت التاريخ، عبر عصوره المتلاحقة، أن تشكيل الوعي هو أصعب الصناعات وأثقلها، حتى إن القوى الاحتلالية أدركت مؤخرًا أن صناعة ثقافة الآخر هي بداية البدايات لإحكام القبضة عليه. فانشغلت بذلك، وسخرت له كل الإمكانات والقدرات لتحقيق أهدافها التي غالبًا ما تكلل بالنجاح. ومن هنا كانت الثقافة أساس بناء كل حضارة، وكانت على رأس كل نهضة وإنتاج، وذلك لا يحتاج لأدلة ولا براهين.
وكما يرى المفكر المسلم مالك بن نبي (1905 -1973 م ) أن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة ثقافته وحضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته ما لم يرتفع بفكره إلى مستوى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها.
والثورات العربية المشتعلة الآن في أنحاء الوطن العربي هي ثورات حداثية بكل ما تحمله من الجديد في التخطيط والتنفيذ والسياسة. فالثورة المصرية التي أشعل فتيلها فتية عانوا من فجوة شاسعة بينهم وبين المحيطين بهم.. هذه الفجوة التي كانت سر شقاء هذا الجيل، صارت – من الناحية الأخرى – فرصة للخروج من الملعب والاستمتاع بشمول الرؤية ووضوح المعنى واستقامة الزوايا. فأصبح انعزالهم بوابة لولوجهم في صلب الحياة السياسية والثقافية. وأصبح إحجامهم عن المشاركة منطلقًا لانخراطهم في قلب بوتقة صناعة الأحداث. ولم يكن هذا الانخراط ولا ذلك الدخول إلا بعد رؤية متأنية وواعية للأحداث، وقراءة جيدة وناقدة لدلالات الإنتاج الثقافي عامة والأدبي على وجه الخصوص. والدليل على ذلك، أن شباب الثورة أنفسهم كانوا يستعملون كثيرًا من الأعمال الأدبية والفنية للتعبير عن مطالبهم وأهدافهم. من هذه الوسائل الشعارات التي اعتبرها الناس في وقت من الأوقات مجرد تراث لتأريخ عصور ولّت ولم تعقّب.
شعر.. وشعراء
على مر العصور الأدبية، كان الشعر مبعثًا للثورات وأداة لبعث الهمم وتقويتها. ابتداءً من فخر عنترة بن شداد، مرورًا بهجاءات حسان بن ثابت ومدائح المتنبي، ثم حماسيات البارودي ومدرسة الإحياء والبعث، وما قصيدة الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي عن وجداننا ببعيدة، وبعد ذلك خروج الشعر على قالبه العامودي ودخوله في قالب جديد لينتج للتراث الشعري إسهامات واضحة من الشعر الفصيح والعامي.
وكان لثورة 25 يناير إرهاصات كثيرة ومتعددة من الشعراء، حتى ظن الشعراء أنفسهم أنهم يعيشون في معزل عن الواقع، واتُّهِم كثير منهم بالرومانسية – وكانت في عصرنا تهمة - وجموح الخيال، بل اتهم كثير منهم بالعَتَهِ والجنون والغباء.
وأعتقد أنه ما من شاعر إلا وكتب عن الظلم واستفحاله..، وعن الفساد وطغيانه..، وأيضًا عن شجب الخنوع واستبعاث الحريات والحقائق من مكامنها. وإن تناولنا أيًا من الشعراء برؤية فكرية، لوجدناه مهمومًا بقضية حرية الفرد، ليس في مصر فقط، وإنما في الوطن العربي والعالم الإنساني بشكل عام.
ولكن سنذكر رائعة الشاعر المبدع فاروق جويدة التي أنشدها منذ سنوات عندما تلفَّت حوله فرأى بلادًا لم تعد كبلاده التي ألفها؛ حيث إن هذه القصيدة حملت فيضًا من الأحاسيس الصادقة والمشاعر الرقيقة، فمشاعر الحزن والألم، خاصة على فقدان الأحبة، من أصدق وأعظم المشاعر الإنسانية تأثيرًا، وعلى الرغم من طول هذه القصيدة إلا أنك عندما تقرأها تشعر أنك لا تريد أن تتوقف وتتمنى أن لا تنتهي حالة الإبداع المنقطعة النظير التي تشعر بها بين طيات القصيدة، فلقد نجح الشاعر في أن يجبر القارئ على التخيل الدقيق وتصور الموقف وأخيرًا البكاء بشده على أبطال الحكاية فقد كانت هذه الأبيات إهداءً ورثاءً من الشاعر فاروق جويدة لشهداء شباب مصر الذين ابتلعتهم الأمواج على سواحل شواطئ إيطاليا..
يقول جويدة:
كم عشتُ أسألُ: أين وجهُ بلادي
أين النخيلُ وأين دفءُ الوادي
لاشيء يبدو في السَّماءِ أمامنا
غيرُ الظلام ِوصورةِ الجلاد
هو لا يغيبُ عن العيون ِكأنه
قدرٌ.. كيوم ِ البعثِ والميلادِ
قدْ عِشْتُ أصْرُخُ بَينكمْ وأنادي
أبْنِي قصُورًا مِنْ تِلال ِ رَمَادِ
أهْفو لأرْض ٍلا تساومُ فرْحَتي
لا تسْتِبيحُ كرَامَتِي.. وَعِنَادِي
أشْتاقُ أطفالا ً كحَباتِ الندَى
يترَاقصُونَ مَعَ الصَّبَاح ِالنادِي
أهْفو لأيام ٍتوَارَي سِحْرُهَا
صَخَبِ الجيادِ.. وَفرْحَةِ الأعْيادِ
اشْتقتُ يوْما أنْ تعودَ بلادِي
غابَتْ وَغِبْنا.. وَانتهَتْ ببعَادِي
فِي كلِّ نَجْم ٍ ضَلَّ حُلم ضَائع ٌ
وَسَحَابَة ٌ لبستْ ثيابَ حِدَادِ
وَعَلي المَدَى أسْرَابُ طير ٍرَاحِل ٍ
نسِي الغِنَاءَ فصَارَ سِربَ جَرَادِ
هَذِي بِلادٌ تاجَرَتْ في عِرْضِها
وَتفرَّقتْ شِيعًا بكلِّ مَزَادِ
لمْ يبْقَ مِنْ صَخَبِ الجيادِ سِوَى الأسَى
تاريخُ هَذِي الأرْضِ بَعْضُ جِيادِ
فِي كلِّ رُكن ٍمِنْ رُبوع بلادِي
تبْدُو أمَامِي صورَة ُالجلادِ
لمَحُوهُ مِنْ زَمَن ٍ يضَاجعُ أرْضَهَا
حَمَلتْ سِفاحًا فاسْتبَاحَ الوَادِي
لمْ يبْقَ غَيرُ صرَاخ ِ أمس ٍ رَاحل ٍ
وَمَقابر ٍ سَئِمَتْ منَ الأجْدَادِ
وَعِصَابَةٍ سَرَقتْ نزيفَ عُيونِنا
بالقهْر ِ والتدْليس ِ.. والأحْقادِ
مَا عَادَ فِيهَا ضَوْءُ نجْم ٍ شاردٍ
مَا عَادَ فِيها صَوْتُ طير ٍشادِ
تمْضِي بنا الأحْزَانُ سَاخِرَة ًبنا
وَتزُورُنا دَوْما بلا مِيعادِ
شَيءٌ تكسَّرَ فِي عُيوني بَعْدَمَا
ضَاقَ الزَّمَانُ بثوْرَتِي وَعِنَادِي
أحْبَبْتهَا حَتى الثمَالة َ بَينما
بَاعَتْ صِبَاهَا الغضَّ للأوْغادِ
لمْ يبْقَ فِيها غَيرُ صُبْح ٍكاذِبٍ
وَصُرَاخ ِأرْض ٍفي لظى اسْتِعْبَادِ
لا تسْألوُني عَنْ دُمُوع بلادِي
عَنْ حُزْنِهَا فِي لحْظةِ اسْتِشْهَادِي
فِي كلِّ شِبْر ٍ مِنْ ثرَاها صَرْخَة ٌ
كانتْ تهَرْولُ خلفنا وتنَادِي
الأفقُ يصْغُرُ.. والسَّمَاءُ كئِيبة ٌ
خلفَ الغُيوم ِأرَى جبَالَ سَوَادِ
تتلاطمُ الأمْوَاجُ فوْقَ رُؤُوسِنا
والرَّيحُ تلقِي للصُّخُور ِعَتادِي
نَامَتْ عَلى الأفق البَعِيدِ مَلامح
وَتجَمَّدَتْ بَينَ الصَّقِيع أيادِ
وَرَفعْتُ كفي قدْ يرَاني عَاِبرٌ
فرَأيتُ أمِّي فِي ثِيابِ حدَادِ
أجْسَادُنا كانتْ تعَانقُ بَعْضَها
كوَدَاع ِ أحْبَابٍ بلا مِيعادِ
البَحْرُ لمْ يرْحَمْ بَرَاءَة َعُمْرنا
تتزاحَمُ الأجْسَادُ.. فِي الأجْسَادِ
حَتى الشَّهَادَة ُرَاوَغتني لحْظةً
وَاستيقظتْ فجْرًا أضَاءَ فؤَادي
هَذا قمِيصي فِيهِ وَجْهُ بُنيتي
وَدُعَاءُ أمي.."كِيسُ"مِلح ٍزَادِي
رُدُّوا إلى أمِّي القمِيصَ فقدْ رَأتْ
مَالا أرَى منْ غرْبَتِي وَمُرَادِي
وَطنٌ بَخِيلٌ بَاعَني في غفلةٍ
حِينَ اشْترتهُ عِصَابَة ُالإفسَادِ
شَاهَدْتُ مِنْ خلفِ الحُدُودِ مَوَاكِبا
للجُوع ِتصْرُخُ فِي حِمَى الأسْيادِ
كانتْ حُشُودُ المَوْتِ تمْرَحُ حَوْلنا
وَالعُمْرُ يبْكِي.. وَالحَنِينُ ينَادِي
مَا بَينَ عُمْرٍ فرَّ مِني هَاربا
وَحِكايةٍ يزْهو بها أوْلادِي
عَنْ عَاشِق ٍهَجَرَ البلادَ وأهْلها
وَمَضى وَرَاءَ المَال ِوالأمْجادِ
كلُّ الحِكايةِ أنَّها ضَاقتْ بنا
وَاسْتسْلمَتَ لِلصِّ والقوَّادِ!
في لحْظةٍ سَكنَ الوُجُودُ تناثرَتْ
حَوْلِي مَرَايا المَوْتِ والمِيلادِ
قدْ كانَ آخِرَ مَا لمَحْتُ على المَدَى
وَالنبْضُ يخْبوُ.. صُورَة الجلادِ
قدْ كانَ يضْحَكُ وَالعِصَابَة ُحَوْلهُ
وَعَلى امْتِدَادِ النَّهْر يبْكِي الوَادِي
وَصَرَخْتُ..وَالكلِمَاتُ تهْرَبُ مِنْ فمِي:
هَذِي بلادٌ.. لمْ تعُدْ كبلادِي
أدبيات من رحم الثورة
ظهرت بواكير هذا التغير في موضوعات ولغة الحوار لدى الأعمال الأدبية منذ اندلاع الشرارة الأولى للثورة. وكأن الأدب خرج إلى ميدان التحرير مطالبًا بالحرية والعدالة، وقد عانى كثيرًا من التهميش والعشوائية. وإن كنا نؤيد ثورة الأدب في هذا الوقت بالذات، فذلك لا يغفل الأعمال الكثيرة الممسكة بذراع الأدب الحقيقي مهما ثارت رياح العشوائية.
منذ 25 يناير، والأقلام لا تكف عن العدو على الأوراق، إما محتفلة بنصر حقيقي في زمان زُيِّفَ فيه كل ما كان جميلًا، وإما مؤازرة لمن يقومون على رعاية الثورة في أنحاء العالم، أو محذرة من انعكاسات الموج الغادرة التي تقلب كل ما هو قائم.
ظهرت المسرحيات والقصائد والقصص القصيرة، بل الروايات، لتثبت للعقل العربي أن الأدباء لم ينعزلوا لحظة عن القلب الإنساني المجروح. وهنا تجدر التحية والتقدير لكل قلم كتب – بوعي – عما يهم العقل المصري والعربي والعالمي، حتى يتمكن الجمهور باتساع رقعته من الوقوف على ماهيات الأمور، وتعرف القوى المختلفة مقاديرها.
وكمثال ذاع صيت الشاعر الشاب هشام الجخ والذي كان مشاركًا في الثورة وأيضًا مشاركًا في مسابقة أمير الشعراء بأبو ظبي، وحاز على المرتبة الثانية في المسابقة، ومن قصائده التي نالت شهرة واسعة عندنا في مصر قصيدته "مشهد رأسي من ميدان التحرير"، التي يقول فيها:
خبئ قصائدك القديمة كلها
مزق دفاترك القديمة كلها
واكتب لمصر اليوم شعرًا مثلها
لا صمت بعد اليوم يفرض خوفه
فاكتب سلام النيل مصر وأهلها
عيناكِ أجمل طفلتين تقرران بأن هذا الخوف ماضٍ وانتهى
كانت تداعبنا الشوارع بالبرودة والصقيع ولم نفسر وقتها
كنا ندفأ بعضنا في بعضنا ونراك تبتسمين.. ننسى بردها
وإذا غضبتِ كشفت عن وجهها وحياؤنا يأبى يدنس وجهها
لا تتركيهم يخبروك بأنني متمرد خان الأمانة أو سها
لا تتركيهم يخبروك بأنني أصبحت شيئًا تافهًا وموجهًا
فأنا ابن بطنك
وابن بطنك من أراد ومن أقال ومن أقر ومن نهى
صمتت فلول الخائفين بجبنهم وجموع من عشقوك
قالت قولها..
أما قصيدته "التأشيرة" فيقول فيها:
أسبح باسمك الله
وليس سواك أخشاه
وأعلم أن لي قدَرا سألقاه.. سألقاه
وقد علمت في صغرى بأن عروبتي شرفي
وناصيتي وعنواني
وكنا في مدارسنا نردد بعض ألحان
نغني بيننا مثلًا:
بلاد العرب أوطاني - وكل العرب إخواني
وكنا نرسم العربي ممشوقًا بهامته
له صدر يصد الريح إذ تعوي
مهابًا في عباءته
وكنا محض أطفال
تحركنا مشاعرنا
ونسرح في الحكايات التي تروى بطولاتنا
وأن بلادنا تمتد من أقصى إلى أقصى
وأن حروبنا كانت لأجل المسجد الأقصى
وأن عدونا صهيون
شيطان له ذيل
وأن جيوش أمتنا
لها فعل كما السيل
سأبحر عندما أكبر
أمر بشاطئ البحرين في ليبيا
وأجني التمر من بغداد في سوريا
وأعبر من موريتانيا إلى السودان
أسافر عبر مقديشو إلى لبنان
وكنت أخبئ الشعار في قلبي ووجداني
بلاد العرب أوطاني وكل العرب إخواني
وحين كبرت
لم أحصل على تأشيرة للبحر
لم أبحر
وأوقفني جواز غير مختوم على الشباك
لم أعبر
حين كبرت
لم أبحر ولم أعبر
كبرت أنا
وهذا الطفل لم يكبر
تقاتلنا طفولتنا
وأفكار تعلمنا مبادئنا على يدكم أيَا حكام أمتنا
تعذبنا طفولتنا
وأفكار تعلمنا مبادئها على يدكم أيا حكام أمتنا
ألستم من نشأنا في مدارسكم
تعلمنا مناهجكم
تعلمنا على يدكم بأن الثعلب المكار منتظر سيأكل نعجة الحمقى إذا للنوم ما خلدوا
ألست من تعلمتم بأن العود محمى بحزمته ضعيف حين ينفرد
لماذا الفرقة الحمقاء تحكمنا
ألستم من تعلمنا على يدكم أن اعتصموا بحبل الله واتحدوا
لماذا تحجبون الشمس بالأعلام
تقاسمتم عروبتنا ودَخَلاً بينكم صرنا كما الأنعام
سيبقى الطفل في صدري يعاديكم
تقسمنا على يدكم فتبت كل أيديكم
أنا العربيُّ لا أخجل
ولدت بتونس الخضراء من أصل عماني
وعمري زاد عن ألف وأمي ما تزل تحبل
أنا العربي في بغداد لي نخل
وفي السودان شرياني
أنا مصري موريتانيا وجيبوتي وعماني
أنا لا أحفظ الأسماء والحكام إذ ترحل
تشتتنا على يدكم
وكل الناس تتكتل
سئمنا من تشتتنا وكل الناس تتكتل
ملأتم فكرنا كذبًا ووتزيرًا وتأليفًا
أتجمعنا يد الله وتبعدنا يد الفيفا
هجرنا ديننا عمدًا
فعدنا الأوس والخزرج
نولى جهلنا فينا
وننتظر الغبا مخرج
أيا حكام أمتنا يبقى الطفل في صدري يعاديكم
يقاضيكم
ويعلن شعبنا العربي متحدًا
فلا السودان منقسم
ولا الجولان محتل
ولا لبنان منكسر يداوي الجرح منفردًا
سيجمع لؤلؤات خلجينا العربي في السودان يزرعها
فينبت حبها في المغرب العربي قمحًا
يعصرون الناس زيتا في فلسطين الأبية
يشربون الأهل في الصومال أبدًا
سيخرج من عباءتكم رعاها الله
للجمهور متقدًا
هو الجمهور لا أنتم
هو الحكام لا أنتم
أتسمعني جحافلكم
أتسمعني دواوين المعاقل في حكومتكم
هو الحكام لا أنتم ولا أخشى لكم أحدًا
هو الإسلام لا أنتم فكفوا عن تجارتكم
وإلا صار مرتدًا
وخافوا إن هذا الشعب حمال
وإن النوق إن صرمت
فلن تجدوا لها لبنًا ولن تجدوا ولدًا
أنا باقٍ وشرعي في الهوا باقٍ
سقينا الظلم أوعية
سقينا الجهل أدعية
مللنا السقي والساقي
أحذركم
سنبقى رغم فتنتكم
فهذا الشعب موصول
حبائلكم وإن ضعفت
فحبل الله مفتول
سأكبر تاركًا للطفل
فراشاتي وألواني
ويبقى يرسم العربي
ممشوقًا بهامته
ويبقى صوت ألحاني
بلاد العرب أوطاني
وكل العرب إخواني
ثورة الأدب.. وأدب الثورة (مستقبل جديد)
وفي النهاية، إذا كان الأدب قد ثار على استبداد القوى الثقافية القديمة، وأعلن توبته عن التطرف التسطيحي، وبدأ عصرًا جديدًا من الحرية الفكرية والثقافية التي تجعل من القلم والورقة سيف الوطن ودرعه، فإن الثورة نفسها سوف تعلن توبة الجمهور عن التجاهل للعلوم والحقائق التي طالما غاب عنها وركض وراء لقمة عيش عطِنة في برية ليس له آخر. ومن هنا يصبح الأدباء والجماهير دفتي الثقافة في مصر الجديدة - وعندما أقول مصر الجديدة أعني الوطن العربي بأسره، فرحم الله الملك عبد العزيز آل سعود حين قال: إن خط الدفاع الأول في تاريخ العروبة خط مشترك بين مصر والسعودية - علاقة جديدة سوف تحدد ملامح الثقافة القادمة، ووعي جديد سوف يرسم شكل الإبداع والتلقي، ورؤى جديدة سوف تجعل العالم يراجع نظرته للعقل المصري والضمير العربي. ومثلما أثبتت ثورة 25 يناير قدرة القلب المصري على التجدد والقيادة، فإن الأدب – موازيًا للثورة – سوف يثبت أن العقل العربي هو صانع الإبداع الأدبي الخلاق ومحرك اللغة الجديدة والخطاب الجديد. ومثلما تَنَبَّهَ كبار القوم إلى أن عقول الشباب هي الثروة التي لا تنضب في تجديد دماء الشعوب، فإن كبار دولة الأدب سوف يتنبهون إلى أن الثروة التجديدية الحقيقية في الخطاب الأدبي تكمن في الأقلام العربية والمصرية على وجه الخصوص.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.