ان الخطاب العربي ما زال مصرا على أن يكتشف جذور "مؤامرة" خفية تلاحق العرب وتلقي بالتهم عليهم جزافا، وهو أمر بلغ من كثرة تكراره أن اعتقد به ليس العامة فقط، بل اعتنقته النخبة أيضاً، كما يحدث في مقالات وبرامج تلفزيونية عديدة، تبدأ بالمفكر العربي الكبير يقول لك : أنا لا أومن بنظرية المؤامرة، و لكن ..... ثم يحدثنا عن مؤامرة جديدة من اكتشافه الخاص !، إن هذه المؤامرة العالمية يبشر بها صحفيو الحكومات العربية و المعارضة على السواء بالإضافة للبترو إعلام المدفوع مسبقا بالدولار و اليورو!!. عندما نتحدث عن نظرية المؤامرة التي تعصف بالعقل العربي لا نلوك تعبيرا عاطفيا غامضا، و لكن نناقش منتجا ثقافيا عربيا محدد الملامح و هذه الملامح هي : - هي مكون محوري للخطاب الأصولي ، الذي ينطلق من قراءة ضيقة وحصرية للتراث الديني، رغم أنها ليست محصورة فقط في الأصوليين الإسلاميين، بل تشمل طيفا واسعا من القوميين و غيرهم أيضا. - الاستناد على الأيدلوجيا و الأفكار المسبقة و إطلاق الشعارات ، بديلا عن التناول العلمي العقلاني للصراع, وعدم قبول الأفكار الحداثية مثل الديمقراطية أو التعاون الدولي باعتبارها بدورها جزءا من المؤامرة الموهومة. - الخوف المرضي القهري من الآخر و إسقاط قدرات خارقة عليه في ذات الوقت بما في ذلك تمتعه بتميز إلهي ووعود ربانية، وعدم الثقة في النفس و القدرة على مواجهة التحديات بنجاح. - تبرير الأخطاء و القصور بتآمر الآخر، و افتراض الخيانة في كل رأي مخالف. - التركيز على الحوادث المنعزلة، و ترتيب نتائج أساسية عليها ، مع إغفال الحقائق المحورية في نفس الوقت. - الحدية البالغة في التعامل مع الآخر، فهو إما شيطان مريد أو ملاك طاهر، إما جزء من المؤامرة الصليبية الصهيونية التاريخية الكبرى، أو رفيق الحياة و الآخرة. - بالتبعية لا يوجد وفقا لهذه النظرية بدائل سوى تدمير الآخر المتآمر أو الانتحار ، بينما نضيع الممكن المتاح. إن البديل لرفض نظرية المؤامرة ليس النظرة الساذجة للحياة ، و لا يمكن أن نتصور أن إسرائيل مثلآ تجلس واضعة يدها على خدها منتظرة أن يفتح العرب لها قلوبهم و عقولهم، و على النقيض فالصهيونية و إسرائيل تدير و بكفاءة صراعا عالميا طويلا ضد العرب، منذ بداية الحركة الصهيونية و حتى اليوم، و لهذا فإن الاستغراق في نظرية المؤامرة يؤدي إلى ضبابية رؤية الصراع و التخبط في الظلام، في هذه الحالة سنحاكي النموذج الذي ضربه المفكر العسكري ليدل هارت حول الرجل القوي معصوب العينين الذي يقاتل خصما أصغر و لكنه مبصر، و النتيجة محسومة مسبقا لصالح الثاني. الصراع هو سنة الحياة ، ومن الخطورة تصور عكس ذلك، فهو عملية وجودية و حضارية شاملة و مستمرة ، طالما هناك تناقضات في المصالح بين أي كائنات متواجدة في نفس الحيز الزماني و المكاني، و لكن هذه التناقضات ليست على نفس القدر فهناك تناقضات أساسية مثل تلك بين العرب و إسرائيل و أخرى ثانوية مثل التناقضات بين الولاياتالمتحدة و الاتحاد الأوروبي أو بين العرب و إيران في الخليج أو العرب و تركيا بل و العرب بعضهم بعضا. إننا ندعو لتبني نظرية بديلة، وهي نظرية الصراع التي هي أيضا محددة المعالم، وعلى النقيض من نظرية المؤامرة و عناصرها هي : - التحديد العقلاني الدقيق لطبيعة الصراع و أهدافه و مستوياته " شاملة عالية المستوى – متوسطة المستوى – منخفضة المستوى "، و بلورة القوانين العامة و الخاصة للصراع. - الدراسة الواقعية و المنهجية للعدو/الخصم / الآخ ، سواء نقاط قوته أو نقاط ضعفه بواقعية و بدون مبالغة. - تحديد الأهداف الأساسية للصراع، و وضع أهدافا مرحلية قابلة للتحقيق. - إدارة الصراع بشكل منهجي، و التطبيق العلمي لقوانين الصراع مع الاستفادة بأقصى قدر من الأفكار المعاصرة في هذا المجال، بعيدا عن تهويمات الدراويش و تنطعات الدجالين. - حصر العدو و عزله وتصفية الصراعات الثانوية، مع التوسع في تحالفات جديدة على أسس واقعية، فلا مجال للصراع مع إيران أو روسيا مثلآ، في ظل إلحاح الصراع المصيري مع إسرائيل. - إعادة قولبة الفكر العربي حتى الشعبي بل و الديني، في أطر عصرية بشكل مدبر و علمي، و امتلاك خطاب صحي و حضاري لا يمكننا فقط مخاطبة العالم خلاله، و لكن بالأساس أيضا مخاطبة أنفسنا. هناك سبب إضافي و لكنه قد يكون الأهم في تبني العقلية العربية لنظرية المؤامرة هو إزدواجية الخطاب العربي او بعبارة أصح تعددية هذا الخطاب, فالعقلية العربية السياسية تألف أن تستخدم خطابات متعددة، فهناك خطاب نتحدث به إلى الجماهير و آخر نتناقش به مع الزملاء و ثالث للحديث مع الخاصة و رابع مع العائلة وربما خطاب خامس نهمس به لأنفسنا, فالسياسي الخطير يخطب في الجماهير متوعدا إسرائيل بالفناء، و لكنه داخل الحزب يعلن أن سيؤجل تدمير إسرائيل حتى يفرغ من إسقاط أعدائه العرب، و عندما يذهب الزعيم إلى اللجنة التنفيذية يخبرهم أنه لا يمكن تدمير إسرائيل في هذا الجيل ، و أخيرا يختلي بندمائه فيقول لهم أن تدمير إسرائيل هدف خرافي ،و في نهاية اليوم يقول لزوجته - أو عشيقته - أن العدو الحقيقي هم منافسيه من الحكام العرب و ليس إسرائيل. هذا الخطاب المخادع و المتعدد علمنا ألا نصدق أحدا و أن نتوقع الخيانة و الخداع من الجميع، و أن كل إنسان يكذب دائما مثلنا تماما، خاصة في السياسة.... زياد دياب