أي منزلة للعقل الناقد في الثورة التونسية؟ بقلم: البشير سعيد
إن الثورة على الأنماط السائدة والقطع مع الأنظمة البائدة مهما اختلفت مناهجها ووسائلها لتحقيق أهدافها المنشودة هي صدى للضمير الجماعي واستجابة للمنزع العقلي ولا تكون الثورة خارقة للمألوف مبدّلة للأحوال إلا إذا كانت استجابة لنداء الواجب الذي يحرك ضمير الإنسان ومعه تموت الانا خدمة للأخر وذودا عن الوطن الذي يكون عرضة للتلاعب من المفسدين منعدمي الضمير في لحظة تاريخية ما. في هذا الإطار تتنزل ثورة الكرامة في تونس الحديثة أو قل ثورة جيل الغضب شباب يافع هو قلب تونس النابض التي سكن هواها القلوب والوجدان حتى هفت الأفئدة قبل الحناجر مطالبة بتغيير فعلي من اجل بناء اجتماعي سليم يحكمه اقتصاد متوازن ونظام سياسي حر ديمقراطي يقطع فيه "الكل" مع أسطورة الرئيس المنقذ وكل فعل قبيح... يقطع فيه"الكل" مع الطغيان من اجل حياة أرقى في مجتمع العدل والمساواة. حققت الثورة في الظاهر أهدافها، خلعت رمز الفساد وكشفت المستور وحررت التونسيين من أنفسهم ليزول الخوف والتردّد ويحل محله التجنّد الجماعي للقطع مع الشخصنة وخدمة الأشخاص ليكون للمواطنة معنى وصدى لان حق المواطنة في القوانين والأعراف الدولية، من مقومات الذّات البشرية وفوق كل شبهة هي قوام ثورة الشباب في ضلها وبها تحقق الثورة اهدافها ليتذوق التونسي حياته ويدرك الأسباب التي من اجلها يحيا وبعدم الإقصاء والتهميش يعيش. إن حق الكرامة للجميع والعيش الكريم لكل تونسية وتونسي من مقومات ثورة شباب تونس من اجل مجتمع ديمقراطي تعددي يقطع مع ادعاء الكمال وامتلاك الحقيقة المطلقة ويبني اقتصادا قويا يكون أداة دافعة للتنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي الذي هو جوهر كل حق وبدونه قد يعرف الإنسان للظلم ألوانا جديدة تغذيها ثقافة رفع الشعارات والتنظير الاجوف. تعددت وسائل التعبير في تونس ما بعد الثورة وهي وسائل محمودة تقرها القوانين والأعراف، فحق الإضراب بمختلف أشكاله السلمية من الحقوق الأساسية التي تقرها الدساتير والقوانين والمواثيق الدولية وهي مطلوبة إذا استحالت الاستجابة للمطالب وصمّت الأذان عن الإنصات لما يشغل الناس. إلا أن المتأمل في الخطاب السياسي في تونس اليوم يلاحظ أن هناك تغيّرا في الخطاب وحذرا مما قد يؤول إليه الوضع الاقتصادي الراهن، فغلق المؤسسات وتردد المستثمرين وتغوّل شبح البطالة يمس بالضرورة دخل الأفراد والجماعات وسمعة اقتصاد الدولة في المنظومة الاقتصادية الدولية، يمس "الكل" في لقمة العيش وان اختلفوا في الفكر والمعتقد والتوجه السياسي الذي يعد محرك أساسي لثورات الشعوب وتحرك الأفراد والجماعات ضد الأنظمة المستبدة. إن العقل الناقد يستشرف أن يكون لتونس موقعا رياديا إذا تحسّن المردود وتحرك الاقتصاد وانقطع "الكل" للعمل ورسمت البدائل لتشغيل الشباب. وباعتبار أن التشغيل من المطالب الجوهرية لجيل الغضب منتج الثورة فلا بد من تشجيع الاستثمار واسترجاع الدورة الاقتصادية لعافيتها وتطور وسائل البحث عن موارد إضافية للتشغيل في القطاعين الخاص والعام وعلى الصعيدين الداخلي والخارجي ولا يكون ذلك إلا بالانفتاح على الأسواق العالمية وخاصة الأوروبية منها باعتبارها قبلة الشباب وما النزعة للهجرة الغير منظمة إلا دليلا على أن الشغل في مخيال الشباب عماد الكرامة وبه تستقيم. إن الأمن الذي تنشده شعوب المعمورة امن اقتصادي ضرورة، به تتحقق المطالب المشروعة للشعوب في الدول والأقطار ولا يضن عاقل أن تونس تشذ عن قاعدة، فليتطور الاقتصاد وينمو، لا بد من تجنّد الجميع لتأمينه من الهزات وفك كل ما من شانه أن يعرقل مسيرة النمو والتطور لان توفير الطعام لكل فم يفترض نظاما سياسيا معقلنا يحكمه الاتزان في اتخاذ القرار واختيار وسيلة التعبير الأقوم في مواجهة كل ما يدعو للاحتراز أو يحيد عن مبادئ الثورة المباركة. وحتى يتطور الاقتصاد في الدول والأقطار لا بد أن يستتب الأمن فيها لان الاستقرار عنوان الحداثة ولا يؤسس للاستقرار السياسي والاقتصادي ولا يبنى السلم الاجتماعي سوى التصالح بين الناس والانخراط في السلم كافة دون أن تكون هذه النزعة التي يستسيغها العقل ويقرها الوجدان على حساب مصالح الشعب الذي ضاق ويلا ممن تلطخت أياديهم بالدماء وامتدت إلى المال العام. إن المحاسبة فوق التشفي الذي يتعالى على تفعيل آلته التونسيون لان تونس بحضاراتها العريقة وتاريخها التليد تبقى واحة سلم ودولة قانون ومؤسسات. بلد مسلم مسالم لا يقبل ضيما ولا يتحمل ذلا شعبه طيب الأعراف مسامح كريم، تحكمه قوانين حبلى قيما ولا يجادل نزيه في أن قرطاج عرفت لدولة القانون والمؤسسات معنى. إن المجتمع المدني اليوم في تونس الثورة هو مجتمع لكل الأجيال والأعمار لا يجب أن يقصى منه مشرب أو اتجاه لان تونس في حاجة لكل بناتها وأبنائها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار "الكل" معني بإنجاح ثورة الكرامة حتى لا نشتم لها رائحة غير رائحة الياسمين لأنها بثورة الياسمين تكنى. امن التونسيات والتونسيون بما امن به جيل الغضب منجزو الثورة. امنوا بان كل شيء ممكن مادامت هناك قوة كافية لتحقيقه وليس أفضل من الإيمان بإرادة الحياة والتقيّد بالقيم الكونية من اجل غد مشرق فيه قطع كامل مع رواسب الماضي ومخلفات 23 سنة من المغالطة شملت حتى التلاعب بالمعطيات الاقتصادية والتصنيفات الدولية لتونس معها فلتت الأقلام من أصحابها وجانبت الصواب لان المعطيات الاقتصادية التي قدمها النظام البائد كذبتها ثورة الأحرار، وانه لجرم قي حق الخبراء والمختصين وأصحاب الأقلام إن تقدم لهم معطيات غير دقيقة وشهادات محلية ودولية تجانب الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. شقي الناس في تونس بدرجات.. وهم اليوم الأحوج إلى تضامن حقيقي من اجل البناء والتنمية: بناء دولة عصرية يستشرف لها مستقبل واعد لو سلمت من الهزات الاقتصادية وتخلّصت من شبح الركود الاقتصادي الذي بات يهددها وانخرطت في بناء صرخ دولة ديمقراطية تعددية يكون فيها القانون بين المواطنين فيصلا، قانون إنساني تغذيه القيم النبيلة وروح الشرائع. انه عهد الأنوار في تونس الحديثة لم يصنعه اتجاه سياسي بعينه ولم يؤطره زعماء ولا مريدون وإنما صنعه شباب امن بقضية التغيير الحقيقي من اجل عيش كريم فربط الله على قلوبهم وزادهم هدى. إن الدكتاتورية التي قطع معها جيل الغضب منجز الثورة لا يجب في أي حالة من الحالات وتحت أي مبرر أن تولد من رحم الثورة دكتاتوريات"الكل" الكل يدعي المعرفة ويطمح للتعبير بما تهوى نفسه ويسعى للانجاز دون ضوابط ومراعاة للآخر الذي يقاسمه الآلام والأحزان وحق الحياة والطموح للأسمى أو قل دون مراعاة للخصوصية التونسية وما يقتضيه المنطق الثوري السليم من تعامل رصين مع الأحداث وحسن توظيفها من اجل سلم اجتماعي في مجتمع " الكل " فيه يحي، مجتمع تعددي لا تقصى فيه كفاءة ولا يهمش فيه ذو عقل حصيف طلبا لصيرورة الدورة الاقتصادية ونجاح التجربة الديمقراطية الجديدة التي تبقى قاسما مشتركا بين التونسيين من اجل التنمية الشاملة في ربوع الوطن وخاصة المناطق الداخلية التي انطلقت منها الشرارة الاولى للثورة باعتبارها المناطق الأقل حضا في تقدير الخبراء والمختصين. إن الاعتصام الذي يفرضه العقل الناقد اليوم على التونسيات والتونسيين هو اعتصام بحبل الله وأن لا يتفرق التونسيون مهما اختلفوا وألا يترددوا في بناء دولة عصرية فيها تعدد للآراء والأفكار والاطروحات لتحل المناظرة بين الفرقاء محل التشنج والتحاور والتشاور محل رفض الرأي الأخر والانفراد بالموقف. إن تونس الحديثة الوفية لشهدائها الأبرار في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى اللحمة والاحتكام للعقل دون سواه،هي في حاجة ماسة إلى الاعتدال في المواقف والتريث في اتخاذ القرارات المصيرية في ظرف دقيق كالذي تمر به الثورة التونسية. فهل كان مشروع المرسوم الانتخابي للمجلس التأسيسي الصادر عن اللجنة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي صائبا مستجيبا لأهداف الثورة قاطعا مع الإقصاء والتهميش مؤسسا لمصالحة وطنية لا تحديد بالثورة عن مسارها الإصلاحي المنشود؟ هل كانت صدى لعقل ناقد؟ أم أن الأمر بين هذا وذلك مثير للجدل؟ البشير سعيد الخبير الدولي في الشؤون الاقتصادية والسياسية