إنه لأمر حير التونسيين لتستفحل في الأذهان حالة مشحونة بالشكوك إلى حد الاستغراب الممزوج بالإحباط. مازال التونسيون يذكرون كيف أشار السيد محمد الغنوشي الوزير الأول السابق في خطاب الاستقالة بنبرة حزينة إلى أن هناك أطراف أوجهات تهدد الثورة. السيد الباجي قائد السبسي ألمح في أكثر من مرة إلى أن حالة الانفلات الأمني والسياسي والاجتماعي تخدم جهات ليس من مصلحتها أن تتخطى تونس مرحلة الانتقال الديمقراطي بسلام. السيد عياض بن عاشور رئيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي أكد في كلمة افتتح بها أشغال المنتدى التونسي الفرنسي للمجتمع المدني على أهمية دور المجتمع المدني في المحافظة على الثورة التونسية، وقال إن الثورة تستوجب منا "اليقظة المستمرة لحمايتها من القوى الخفية التي تترصدها". أغلبية الأحزاب السياسية التي شرعت في حملاتها الانتخابية سواء في تونس الكبرى أو داخل الجهات حذر رموزها من أعداء الثورة ومن قوى الجذب إلى الوراء مشددين على أن هناك جهات يغيظها أن تنجح تونس في تحقيق عملية الانتقال الديمقراطي. هناك خيط رفيع بين الجميع، يمثل قاسما مشتركا، ويتمثل في الجزم بأن هناك قوى تهدد الثورة، لكن ما يحير التونسيين هو إحجام الجميع عن كشف هوية القوى التي تهدد الثورة. فإذا كانت الحكومة وهيئة حماية الثورة والأحزاب السياسية متأكدة من ضلوع جهات معينة في تهديد الثورة التي أعادت للتونسيين انتماءهم الوطني وولاءهم لتونس فلماذا هذا السكوت عن هوية أعداء الثورة. لقد فتحت الثورة أمام التونسيين أبواب الحرية والكرامة وشرعت مساحات واسعة من الآمال بعد سنوات عجاف لم تبق ولم تذر سوى اليأس، لكن وبعد مرور أربع أشهر من الثورة بدا التونسي يطرح تساؤلات حول الوضع في البلاد. تساؤلات مشروعة حول هوية القوى الخفية التي تقف وراء تواصل حالة الانفلات الأمني والاحتقان الاجتماعي وتراجع الأداء الاقتصادي وبطء المعالجة السياسية للملفات الوطنية مما أفرز حالة من الإحباط والضبابية حول مستقبل البلاد. لا شك أن كل ثورة تقطع مع الماضي تصطدم بأعدائها بحكم تناقض المصالح والحسابات، هذا أمر مبدئي معروف، لكن الثورة التونسية التي قادها شباب الجهات المحرومة بعيدا عن أي شكل من أشكال التوظيف السياسي عبرت وبعمق عن تطلعات كل التونسيين باستثناء المتعيشين والانتهازيين الذين ذابوا من الساحة السياسية. مرت تونس خلال الأشهر الأربع بفترات تؤكد أن الفاعلين السياسيين سواء الحكومة المؤقتة أو الأحزاب السياسية لم يتمكنوا بعد من وضع حد لحالات الانفلات التي كلما حدثت تعالت الأصوات معها بأن قوى خفية تترصد الثورة هي التي تدفع بالشباب للقيام بعمليات نهب وتخريب منظمة ليلا بالساعة والدقيقة في أكثر من مكان. أكثر من ذلك اعترف عدد من الشباب أنهم يتلقون مقابلا ماديا يتفاوت بتفاوت المهمة التي توكل إليهم من طرف جهات ما، هذا أمر خطير فإن كانت هذه الجهات سياسية فالساحة أمامها مفتوحة لتنشط بكل حرية أما إذا كانت عصابات فالأمر أشد خطورة. تأكيد الفاعلين السياسيين على وجود قوى خفية دون تحديدها دفع بالإعلاميين والمواطنين إلى تأويلات مشروعة بقطع النظر ما إذا كانت خاطئة أو صائبة. يقول البعض أن عددا من الأحزاب السياسية الناشئة التي ليس من مصلحتها إجراء انتخابات المجلس التأسيسي في موعدها نظرا لافتقارها لقاعدة شعبية واسعة هي التي تحرك الشباب من خلف ستار، فجاء الرد واضحا من المناضلين حمة الهمامي وشكري بلعيد وفندوا علاقتهم بما يحدث من حالات تخريب ونهب وفوضى. وتذهب تأويلات أخرى بأن "الطرابلسية" تركوا أذنابا في شكل عصابات يحركونهم كالدمى من أجل الزج بالبلاد في حالة من عدم الاستقرار. آخرون قالوا إن الإتحاد العام التونسي للشغل، القوة الاجتماعية الأولى في البلاد، ينشط نقابيا لفرض دوره السياسي. وما دامت تونس الثائرة قد قطعت مع كل أشكال التعتيم الإعلامي فبإمكاننا أن ننقل بعض التأويلات التي تقول أن بعض الجهات الأمنية معنية بما يحدث. ومهما يكن من أمر فإن تونس في حاجة إلى تأمين مناخ ملائم لعملية الانتقال الديمقراطي التي تعد مفصلا نوعيا في تاريخها، وليتم ذلك فإن حالة الإحباط والتوجس والخوف من قوى خفية تترصد الثورة في أمس الحاجة إلى التوضيح. أفصحوا عن القوى الخفية التي تترصد الثورة وأهدافها فقد استفحلت الشكوك في صفوف التونسيين حتى أنهم باتوا على قلق كأن الريح تحتهم على حد تعبير أبي الطيب المتنبي. فالمرحلة التي تمر بها تونس اليوم تحتاج إلى عودة الثقة إلى كل الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين وكذلك المواطنين، الثقة في أنفسهم، الثقة في الأحزاب السياسية والثقة في مسار عملية الانتقال الديمقراطي. ولعودة الثقة يحتاج التونسيون إجابة واضحة عن سؤالهم الذي يطرحونه يوميا بكل عفوية وحيرة "ما ناش عارفين البلاد فين ماشية"؟ منور ملتي