د.خالد الطراولي يزداد تأكيد مسار الأحداث مع مرور الأيام أن الثورة ومكاسبها وأهدافها ومطالبها أصبحت في واد ومطالب وما تجتمع عليه النخبة وخاصة بعض الفصائل والتعبيرات منها في واد آخر... مسار الانتقال الديمقراطي لا يزال يترنح بين حكومة تبحث عن شرعية الفعل والقرار، وهيئة عليا لتحقيق أهداف الثورة وتوابعها تريد إثبات وجود عبر اجتماعات لا تنتهي وقرارات انفرادية تفاجئ واقتراحات تصبو أن تصبح إلزاما وتشريعا، وأحزاب تسعى لموطئ قدم بعضها لاقتسام الكعكة، والبعض لخدمة مصالح الحزب والفئة والشخص، والبعض يريد خدمة البلاد سرا وعلنا ولو بكثير من الحذر أحيانا! وبين هذا وذاك يبقى الشعب الكريم يشاهد، يراقب، ويبحث عن ملاذ... في هذا الإطار المشرئب بمناطق الرماد ومنازل الحسابات الضيقة أحيانا، يدخل على الخط مشروع العقد الجمهوري أو ميثاق المواطنة أو ما شابهه من ألقاب، وكأن تونس الثورة لم يعد ينقصها وهي تعبر بحر الظلمات إلا هذا الميثاق! وكأن الحالة الاقتصادية والأمنية لا تبحث عن باب! وكأن تونس الغد لا تعتزم الدخول، وفي أشهر معدودة، في انتخابات تأسيسية تبني دستورا جديدا يحمي البلاد والعباد، دستور يمثل ميثاقا جمهوريا وعهدا ديمقراطيا وعقد مواطنة ورباطا مرجعيا للوطن. أين الدستور أين الشرعية أين الوطن؟ تساؤلات عديدة تفرض نفسها ونحن نتابع هذا المسار الساعي لكتابة هذا العقد الجمهوري وإلزامه على كل مكونات المجتمع، تساؤلات تسبق الدخول في التجاذبات والمناورات وتطرح بكل جرأة، ودون تعسف أو إكراه، مدى مبدئية هذا العقد ومدى حاجتنا إليه: 1 لماذا يراد لنا عقد جمهوري أو ميثاق للمواطنة يسعى من ورائه البعض إلى استباق تنزيل دستور، يكون هو المرجع والملاذ والمؤسس لعلاقات المجتمع، وكأنه التفاف حول الشرعية المرجوة واستباق غير سليم لإرادة الشعب؟ 2 لماذا هذا السعي نحو فوقية للمواثيق على حساب الدستور، وكأن هذا الأخير ورقة من مجموع كراس تستوي فيه المواثيق والعقود مع أكبر عهد تجتمع فيه إرادة الشعب بكل مكوناته، مما يقزم من شأنه ويهوّن من أثر الانتخابات التأسيسية ويجعلها حلقة غير مميزة وغير محددة في مرحلة ما بعد الثورة وبناء مستقبل البلاد؟ 3 ألا يكفي الدستور الجديد الحامي للمواطنة وقيمها العادلة، أليس المجلس التأسيسي المزعم انتخابه إطار سليم وكفئ لتحديد هذه القيم وتنزيلها في قرارات وقوانين ومرجعيات؟ 4 أليس إحداث هذه المواثيق والعهود هو تكبيل لإرادة الشعب التونسي وتجاوز لصلاحيات بعض المؤسسات غير الشرعية في التشريع الإلزامي لمجتمع لم يعينها ولكن يسمح بوجودها تحت شرعية وفاقية وثقة متبادلة. 5 هل هو الخوف غير المبرر على هذه الثورة وعلى هذا الشعب وطعن غير مباشر في مستوى وعيه باعتباره مراهقا سياسيا يستدعي الكفالة والإشراف؟ هذا الشعب الذي أثبت درجة وعيه القصوى وهو يزيح أحدى أكبر ديكتاتوريات هذا القرن ويبني لتغيير مسار دول وحضارات! حتى لا ننسى الثورة حتى لا ننسى الوطن خوفي أن قراءات خاطئة وحسابات ضيقة ومناورات سياسية وطموحات شخصية أو مجموعاتية تريد تجاوز إرادة الشعب ولا تستثيق ميزان الانتخابات ومواجهة مصيرها العادل ووزنها الحقيقي في أرض الواقع، وتريد استباق الحدث حتى لا تفاجأ بمشروعها المجتمعي وقد لفظته الجماهير وحسمت في وجوده. خوفي أن يمثل هذا المنحى الفوقي في التعامل مع المشهد العام هروبا نحو المجهول وتعسفا على الواقع وفتحا لأبواب لسنا في حاجة لفتحها، وتجاوزا مفبركا لإرادة الشعب عبر تبريرات وتأويلات لا تجد تونس لها فيها نصيب. خوفي أن نفتح باب اختلاف ينجر عنه خلاف نحن في غنى عنه، ليتواصل المشوار غير سليم ويدفع نحو علاقات متوترة بين مكونات المجتمع التونسي وفصائله وتصوراته، في مرحلة تستدعي الكثير من الهدوء والوفاق وتوحد الأهداف. والاختلاف ليس عيبا ولا سلبا إذا حمله إطار ديمقراطي سليم وشفاف. خوفي أن شرخا بدأ ينبثق على نار غير هادئة، وخنادق بدأت تتسع بين رؤى متناقضة في المشروع المجتمعي لتونس، حيث أضحت قضية الهوية على المحك ومفترق طريق، بين من يريد لتونس لقاء سليما مع الأجداد، وبين من يريد اجتثاثها من واقعها التاريخي والحضاري العربي والإسلامي. لا نريد أستاذية على أحد ولا نريد فوقية على الدستور، ولا نريد تمثيلية لا تحمل شرعية الصناديق وهي تريد تحديد هوية هذا البلد ومشروعها السياسي والحضاري لأجيال وأجيال. إن أي مجموعة مهما كبر حجمها أو صغر لن تكون ذات مصداقية ولا شرعية في مستوى الفعل والنظر وهي تلامس المشهد العام إذا لم ينبثق إلزامها وتشريعها من شرعية الصناديق التي تحددها إرادة الشعوب. إن تونس للتونسيين جميعا، وأن الدستور هو الحلقة المفقودة اليوم لبناء مشروع الغد على أسس سليمة، دستور لا يعلو عليه ميثاق أو عقد ويحمي البلاد ويبني مجتمعها على أصل قانوني حاسم وحازم ويلامس الكثير من الأجيال. * مؤسس حركة اللقاء الإصلاحي الديمقراطي