لقد اعتمد نظام بن علي البوليسي القمعي على آليتين هامتين قد تستخدمان في اتجاهين مختلفين ومتناقضين ويمكن أن يكون لهما تأثير سلبي على المجتمع كما يمكن أن يكون لهما تأثير ايجابي عليه, ويدفعانه إلى النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي ألا وهما آليتي المراقبة والمحاسبة . ففي حين اتجهت الأنظمة الديمقراطية لتفعيل هاتين الآليتين لتحقيق الشفافية في المعاملات المالية والإدارية لدى المؤسسات العمومية, ومنظمات المجتمع المدني, والمؤسسات السياسية الدستورية والمحافظة على الأموال العامة من السرقة, وسوء التصرف, واحترام دستور البلاد, فما من قانون يصدر إلا ويخضع لمراقبة مجلس دستوري ولا يتم العمل به إلا إذا وافق عليه هذا الأخير, وما من مؤسسة عمومية ولا منظمة مدنية إلا وتخضع لتدقيق سنوي لحساباتها, ويخضع كل مسؤوليها للمساءلة والمحاسبة على المهام الموكلة لهم, والأموال التى بحوزتهم, والمؤتمنين عليها, وأي خلل أو تجاوز يكتشفه مراقب الحسابات, يكتب في شأن أصحابه تقريرا إلى الجهات القضائية المسؤولة, لتتبعهم والتحقيق معهم, ومحاسبتهم, ويأتي دور الصحافة هنا كسلطة رابعة لتقوم بواجبها في التحري, وتسليط الأضواء الكاشفة على تفاصيل التجاوزات, حتى يقف الشعب على حقائقها ويساهم بدور فاعل ومسؤول في التصدي لها, و لكل جرائم الرشوة والاستيلاء على الأموال العامة التى تعيق نمو اقتصادها وتقدم مجتمعها. فماذا فعل بن علي بهاتين الآليتين في بلادنا طيلة عشريتين كاملتين ؟ فهل سلك بهما مسلكا صحيحا ؟ أم استعملهما في الاتجاه الخاطئ؟ لقد عمد بن علي إلى تعطيل آليتي المراقبة والمحاسبة في أهم مؤسسة تضطلع بهما ألا وهي دائرة المحاسبات فقد عمد إلى تهميش دورها, ودور القائمين عليها, وحد من صلاحياتها ومهامها بحيث أصبحت لا تتجاوز حدود ما يرسمه لها, وصارت تقاريرها لا تتناول إلا النزر القليل من التجاوزات, ولا ينشر بالرائد الرسمي التونسي منها إلا ما يرضي بن علي ومستشاريه, ولا تحال إلى القضاء لمتابعتها ومتابعة القائمين بها, كما أنه ضرب على الإعلام رقابة مشددة حتى لا يقوم بدور فاعل في الكشف عن الفساد وفضح مرتكبيه, وحول هذين الآليتين – آلية المراقبة والية المحاسبة- فى اتجاه خصومه السياسيين المعارضين لنظام حكمه الاستبدادي, ففرض عليهم مراقبة لصيقة, أينما تحركوا تابعهم البوليس السياسي وراقبهم وضيق عليهم أنفاسهم, وعاضدت مجهودات هذا البوليس في المتابعة, شعب التجمع الدستوري الفاسدة, فقامت بدور نشيط في هذا المجال, فبرعت في المراقبة وكتابة التقارير السرية, بحكم تفرغها لهذه المهام, واستغلالها لضعاف الحال والمحتاجين لتوظيفهم في خدمة البوليس , وسلط عليهم مراقبي الأداءات لمحاسبتهم على كل مليم ملكوه وعلى ما لم يملكوه وعمد إلى فرض المراقبة الإدارية الجبرية على كل سجين سياسي مسرح تبدأ بمجرد الخروج من السجن, وليس لها من نهاية غير الموت, و يجبر السجين بمقتضاها على الحضور يوميا إلى مركز الشرطة القريب من سكناه, ويمضي في سجل معد لذلك - يخضع هو أيضا لمراقبة الكبار- والى منطقة الشرطة التابع لها ليمضي في سجل كذلك معد للغرض نفسه - ويخضع للمراقبة هو أيضا- وهنا يخضع للمحاسبة الدقيقة حول نفقاته المعيشية, ويدقق معه حتى في نوعية أكله وشربه, وتحركاته وسكناته, كما يخضع مرة في الأسبوع إلى المراقبة الفجائية الليلية, وان صادف وتأخر في شغله أو لشأن من شؤونه, وحظروا ولم يجدوه, عندئذ يتعرض لأشد المضايقات, ويجبر على الحضور للمنطقة يوميا مرتين أو ثلاثة مرات, ولا يسمح له بمزاولة أي عمل, وأي نشاط تجاري بل وذهب بهم الأمر إلى حد تسليط الضغوطات على أمه وأبيه وإخوانه إن هم قدموا له يد المساعدة. فبهذه الممارسات الاستبدادية انتعشت في بلادنا ظاهرة الفساد والإفساد, واستفحل أمرهما وانتشرتا في كل مفاصل المجتمع, وعمت ظاهرة الرشوة والغش وكثرت الوشاية, وعم الخوف والرعب في صفوف الشعب, وأصبح الأخ لا يطمئن لأخيه, والزوج لا يأمن زوجته على سره, وتقطعت صلة الأرحام فلا الابن يعود أباه, ولا الأب يزور ابنه, فكل فرد يحمل همه, وكل منشغل بأمره, وكل الناس في خوف دائم, يلتفتون اليمنة واليسرة, ويغضون من أصواتهم في مجالسهم خوفا من آذان صاغية شديدة الالتقاط والتسمع, فقد آن الأوان لإصلاح أمرنا وتوجيه آليتي الرقابة والمحاسبة في اتجاه إصلاح المؤسسات والمنظمات والكشف عن كل التجاوزات في أقرب الأوقات, قبل أن يستفحل الداء ويعز الدواء, وبذلك ينصلح حالنا ونقضي على الفساد ونحقق النمو لاقتصادنا والرقي لبلادنا .