سجن الصحفي محمد بوغلاب 6 اشهر مع النفاذ    تعيين أوسمان ديون نائبا جديدا لرئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا    زغوان: تطور في قيمة نوايا الاستثمار في قطاع الخدمات في الثلاثي الاول للسنة الحالية    توزر: تأمين 22 رحلة من مطار توزر نفطة الدولي نحو البقاع المقدسة ذهابا وايابا منذ انطلاق موسم العمرة في ديسمبر 2023    البطولة الوطنية المحترفة لكرة السلة(مرحلة التتويج-الجولة9): النتائج والترتيب    عبد المجيد جراد رئيسا جديدا للجامعة التونسية للكرة الطائرة    معاقبة النادي الصفاقسي باجراء مباراتين دون حضور الجمهور    حسام الدين الجبابلي: يجري التنسيق من أجل تسهيل العودة الطوعية للمهاجرين من دول جنوب الصحراء أو تقديم الدعم للراغبين في البقاء    خمسة عروض من تونس وبلجيكا وفرنسا في الدورة الثانية لتظاهرة المنستير تعزف الجاز    أطفال من بوعرادة بالشمال الغربي يوقعون إصدارين جماعيين لهم في معرض تونس الدولي للكتاب 2024    أريانة: الدورة الثانية لأيام المنيهلة المسرحية من 17 إلى 23 أفريل الجاري    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    توزر: المؤسسات الاستشفائية بالجهة تسجّل حالات إسهال معوي فيروسي خلال الفترة الأخيرة (المدير الجهوي للصحة)    الكاف: تلقيح اكثر من 80 بالمائة من الأبقار و25 بالمائة من المجترات ضد الأمراض المعدية (دائرة الإنتاج الحيواني)    لعبة الإبداع والإبتكار في كتاب «العاهر» لفرج الحوار /1    نيبينزيا: على مجلس الأمن أن يدرس بشكل عاجل مسألة فرض عقوبات ضد الكيان الصهيوني    "سينما تدور": اطلاق أول تجربة للسينما المتجولة في تونس    الفضيلة    أخبار الترجي الرياضي...يان ساس جاهز وأندري بوكيا لغز كبير    غدا افتتاح معرض تونس الدولي للكتاب...إمضِ أبْعد ممّا ترى عيناك...!    أخبار المال والأعمال    حالة الطقس ليوم الخميس 18 أفريل 2024    وزير الصحة يعاين ظروف سير العمل بالمستشفى الجهوي بباجة    بعد إلغاء 150 رحلة..عملية استقبال المسافرين في مطارات دبى ستبدأ غداً صباحا    بطولة شتوتغارت... أنس جابر تطيح بالروسية إيكاترينا    مكافحة الهجرة غير النظامية والجريمة المنظمة محاور لقاء وزير الداخلية بنظيره الايطالي    توننداكس يتجاوز حاجز 9 آلاف نقطة مع اغلاق تداولات الاربعاء    وزير الداخلية كمال الفقي يلتقي نظيره الايطالي    تونس: حجز 6 أطنان من السكر المعد للاحتكار في الحرايرية    جراحة فريدة في الأردن.. فتحوا رأسه وهو يهاتف عائلته    عاجل/ هذا موعد تصويت مجلس الأمن على عضوية فلسطين بالامم المتحدة    لإنقاذ مزارع الحبوب: تزويد هذه الجهة بمياه الري    جورجيا ميلوني: "لايمكن لتونس أن تصبح دولة وصول للمهاجرين"    سليانة: إخماد حريق نشب في جبل برقو    ححز كوكايين وأقراص مخدّرة لدى 3 شبان يعمدون إلى ترويجها في الكاف    توقّيا من مخاطر الأنترنات على الأطفال: وزارة الطفولة تصدر قصّة رقميّة    التداول حول القانون الأساسي المتعلق بالتبادل الآلي للمعلومات المتعلقة بالحسابات المالية    صافي سعيد: هذا ما أعد به المساجين السياسيين إذا فُزت بالرئاسية    عاجل/ القبض على شخصين متورطين في طعن عون أمن بهذه الجهة    المركز العسكري لنقل الدّم يتحصّل على شهادة المطابقة للجودة    سيلين ديون تكشف عن موعد عرض فيلمها الجديد    قتل مسنّ حرقا بمنزله: القبض على 6 أشخاص من بينهم قصّر    عاجل/ سفن حربية ومقاتلات.. هكذا تستعد إيران للهجوم الصهيوني المرتقب    بطولة شتوتغارت: أنس جابر تضع حدا لسلسة نتائجها السلبية وتتاهل الى الدور ثمن النهائي    سعيد يدعو إلى اعتماد مقاربة جماعية لمسألة الهجرة ومحاربة شبكات المتاجرة بالبشر    أبطال إفريقيا: الترجي الرياضي يفرض الويكلو على التحضيرات    وزيرة التربية: "البنية التحتية من أبرز أسس تطور قطاع التعليم"    صفاقس: حادث مرور يخلف 5 اصابات    محرز الغنوشي: الأمطار في طريقها إلينا    الحماية المدنية: 19 حالة وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني في تونس اليوم..    بعد صمت طويل: هذا أول تصريح لأمين قارة بعد توقّف برنامجه على الحوار التونسي    علامة ''هيرمس'' تعتذر لهيفاء وهبي    مباراة الترجي وصانداونز: تحديد عدد الجماهير وموعد انطلاق بيع التذاكر    عاجل : دولة افريقية تسحب ''سيرو'' للسعال    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    مفاهيمها ومراحلها وأسبابها وأنواعها ومدّتها وخصائصها: التقلّبات والدورات الاقتصادية    فتوى جديدة تثير الجدل..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الذين ينهبون تونس ويستبدون بشعبها ليسوا مؤهلين لإعطاء الدروس في الوطنية
نشر في الحوار نت يوم 01 - 01 - 2010


في الردّ على حملة "التخوين":
الذين ينهبون تونس ويبيعونها للأجنبي ويستبدون بشعبها ليسوا مؤهلين لإعطاء الدروس في الوطنية

31 كانون الأول (ديسمبر)
مثل "التخوين"، إلى جانب الاعتداءات الجسدية والاعتقالات، أحد أهم الأساليب التي استخدمها نظام بن علي في الحملة المسعورة التي شنها بمناسبة المهزلة الانتخابية الأخيرة على رموز الأحزاب والجمعيات والمنظمات المستقلة، وما تزال هذه الحملة متواصلة إلى حد اليوم. وهي تتخذ مظهرين اثنين:
الأول: رسمي شارك فيه رموز السلطة، بدءًا ببن علي (خطاب 24 أكتوبر 2009 أي ليلة الاقتراع وخطاب التنصيب يوم 12 نوفمبر 2009)، ووصولاً إلى الأمين العام للتجمع الدستوري، الفاشستي محمد الغرياني.
والثاني: غير رسمي وإن كان من الواضح أنه بإيعاز من السلطة وتحريض منها ويشارك فيه حفنة من مرتزقة الإعلام والسياسة من بينهم قادة أحزاب الديكور، ويأتي على رأسهم "التائب" العائد، محمد مواعدة، و"الوطني الغيور" أحمد الأينوبلي.
وقد تم، خلال هذه الحملة توزيع للأدوار. فقد تولى الرسميون تحديد العناوين العامة للحملة وتُركت للمرتزقة المهمة القذرة المتمثلة في "تأثيثها" بما هبّ ودبّ من الأكاذيب والافتراءات على حساب المستهدفين. ومن الواضح أنّ بن علي استباح لمرتزقة نظامه أعراض هؤلاء ليهتكوها كما شاؤوا دون رادع أخلاقي أو مهني أو قانوني. فقد وصفوهم ب"الخونة" و"العملاء" و"المأجورين" واتهموهم ب"تلقي الأموال من الخارج" و"الإستقواء بالأجنبي على بلادهم". ولمّا لم ينفع ذلك عمد أحد المرتزقة المرتبط مباشرة بالبوليس السياسي (صاحب "الحدث" و"كل الناس") إلى إهدار دمهم دون أن يحرّك قضاء العار ساكنا، مما يعني أنه ينفذ تعليمات "أولياء" نعمته.
وليس خافياً على كل متتبع للشأن العام في بلادنا أنّ السبب الحقيقي لهذه الحملة الخسيسة يتمثل في أنّ الشخصيات المستهدفة، والتي هي ليست في حاجة إلى شهادة من أيّ كان، ومن باب أولى وأحرى من نظام بن علي ومرتزقته، لإثبات وطنيتها، رفضت الانخراط في المهزلة الانتخابية وفضحت فصولها ودعت إلى عدم الاعتراف بنتائجها المقرّرة مسبقاً ومواصلة النضال من أجل تغيير ديمقراطي حقيقي. وكان لهذا الموقف صدى لدى الرأي العام الداخلي والخارجي. وهو ما أربك نظام بن علي الذي كان يعوّل على أجهزته البوليسية وعلى حفنة أشباه الإعلاميين والكتاب العرب والأجانب الذين استأجر خدماتهم بالمال العام، لتمرير المهزلة الانتخابية والإيهام بأنها تمت في نطاق "الحرية والشفافية" وبأنّ نتائجها تعكس "التفاف الشعب حول صانع التغيير وحزبه".
لقد سقطت حسابات بن علي في الماء. فما كان منه إلا أن صعّد وتيرة القمع (اعتداءات، اعتقالات، محاكمات جائرة، محاصرة مقرات السكن ومقرات الأحزاب والجمعيات ومنع أنشطتها...) واندفع هو وطغمته ومرتزقتهما في شنّ حملة "تخوين" مسعورة لم تستثن أحدًا ممّن انتقدوا المهزلة أو عارضوها بصوتٍ عالٍ. وقد ذهب في ظنهم أنهم سيتمكنون بهذه الطريقة من تشويه مناضلات الحركة الديمقراطية ومناضليها وتهميشهم ولفت أنظار التونسيات والتونسيين عمّا يصدعون به من مواقف ويتقدمون به من مقترحات وبرامج لتحسين أوضاع الشعب المادية والمعنوية. كما ذهب في ظنهم أنّ اتهام وسائل الإعلام العربية والغربية والمنظمات غير الحكومية الإقليمية والدولية والشخصيات الأجنبية التي انتقدت الظروف التي جرت فيها الانتخابات والاعتداءات والاعتقالات والمحاكمات الجائرة التي رافقتها أو أعقبتها، ب"التدخل في الشأن التونسي"، كافٍ لإبطال مفعول انتقاداتها والتشكيك في مصداقيتها وجرّ التونسيات والتونسيين إلى الالتفاف حول "دكتاتوريتهم" باسم وطنية مزيّفة وكاذبة.
ولكن من سوء حظّ "الجماعة" أنّ الخدعة لم تنطل. إنّ الشعب التونسي الذي خبر "نظام السابع" لمدة 22 سنة وعانى الكثير من مظالمه، لم ينسق وراء حملات التشهير المرذولة بل إنه ازداد نفورًا من وسائل الإعلام المحلية كما أنّه لم يُبدِ أيّ حماس للمهزلة الانتخابية التي قابلها بلا مبالاة كبيرة وقاطعها مقاطعة واسعة وتلقائية، لأنه كان يدرك أنّ نتائجها معلومة مسبقا وأن لا وزن لصوته. وإلى ذلك لم تُخفِ قطاعات هامة من الشعب تعاطفها مع رموز المعارضة السياسية والمدنية الذين عبّروا، رغم الضغوط والتهديدات المتعددة، عن طموحات الجماهير الواسعة ومطالبها.
"التخوين" لإخفاء الوجه البشع للاستبداد وتشريعه
إنّ "التخوين" أسلوب من الأساليب المعتادة التي تستخدمها الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية في حربها على معارضيها المطالبين بالحرية والديمقراطية للشعب، وبالتالي فإنّ نظام بن علي لم يأت بجديدٍ، بل إنه نحى منحى تلك الأنظمة التي ينتمي إلى صفها. وهو إذ ينتهج هذا الأسلوب المتخلف والمحكوم عليه مسبقًا بالفشل، فلأنه يتعامل مع الشعب التونسي كرعيّة، لا حرية ولا حق لهُ، بل كقطيع مطالب بالخضوع والتصفيق وبأن يقنع بما "يمنّ به عليه" "مالك البلاد والعباد"، فلا مُطالبة ولا احتجاجا، إذ لا حق له كي يُطالب به، ولا حرية له كي يحتجّ. وفي أفضل الحالات يمكنه أن "يتوسّل" أو "يترجى" أو "يلتمس" كما يفعل العبد مع سيده. إنّ كل معارضة، تمثل، في منطق بن علي الاستبدادي، جُحُودًا، بل جريمة تستوجب العقاب، إلا إذا كانت معارضة من قبيل الديكور، لا يتعدّى دورها التسبيح بحمده والشهادة له ب"إنجازاته العظيمة".
إن بن علي يحاول الإيهام بأنّ الأوضاع في البلاد "على ما يرام"، لا وجود لمشاكل ولا لقضايا تستحق النقاش أو النقد أو المعارضة أو الاحتجاج، وبأنّ الشعب "راضٍ كل الرضا" و"ملتف حول قائده الذي لا يرضى له بديلا". ومن البديهي والحالة تلك أنه لا مبرّر، في نظره لوجود معارضة، لأنّه ليس لها ما تعارضُ، إلاّ إذا كانت معرضة "هدّامة"، لا تعترف ب"الإنجازات" و"تريد تعطيل مسيرة البناء والتشييد". ومثل هذه المعارضة لا يمكن أن تكون "نبتة وطنية"، ولّدتها حاجة موضوعية إلى التغيير، بل هي "كيان مصطنع"، "أقلية حاقدة" و"خائنة"، في "خدمة الأجنبي" الذي "يحرّكه الحنين إلى الماضي الاستعماري" إذا كان غريبًا، أو "الحسدُ لما حققته تونس بعد التغيير المبارك من إنجازات ومكاسب"، إذا كان عربيًا، أو إفريقيا، إلخ.
في كل الحالات، لا وجود، بالنسبة إلى بن علي، لأسباب داخلية تشكل قاعدة لظهور معارضات فهو الممثل المطلق لمصالح كافة طبقات المجتمع وفئاته و"راعيها حراميها". وهو لا يتورع، بغرض التضليل والمغالطة، عن أن يماهي، أو يماثلَ بين شخصه ونظامه الظرفيين الزائلين وبين تونس، الوطن، السابق لهما والباقي بعدهما. "فبن علي هو تونس"، و"تونس هي بن علي"، "ولا ولاء لتونس إلا بالولاء لبن علي" وكلّ معارضة لبن علي، الذي حوّل نفسه إلى صنم وأحاطها بهالة قدسية، تصبح "مساسًا بالوطن" و"تطاولاً عليه" و"نيلا من قدسيّته" و"تشويهًا لسمعته"!! وبعبارة أخرى فإن المصلحة الضيقة، الأنانية لآل بن علي والطرابلسية والماطري والمبروك والجيلاني وكل العائلات التي تنهب تونس، تغلّف بغلافٍ وطني، وتصبح حسب ذلك المنطق الرجعي الاستبدادي، الفاشستي "المصلحة العليا للوطن" لمنع الشعب والمعارضة من نقد تلك العائلات ومعارضة النظام الذي يحمي مصالحها ولتجريم كل محاولة لتغييره.
إنّ "الوطنية" بالنسبة إلى بن علي تعني الخضوع لاستبداد نظامه والتصفيق له والصمت على الاستغلال والفساد والعمالة والاقتناع بعيش الذلّ والهوان. ومن لا يقبل ذلك فهو "خائن"، "لا وطني"!!. ومن البديهي أنّ هذه الاتهامات لا تقلق أحرَارَ تونس الذين نذروا حياتهم للدفاع عنها وقدموا من أجلها تضحياتٍ جسيمة. إنّ هؤلاء الأحرار موالون لوطنهم وشعبهم، لا لبن ونظامه الذي يلحق بالوطن والشعب أضرارًا جسيمة. إنّ الولاء لتونس يشترط مقاومة هذا النظام الدكتاتوري الذي يُفقِرُها حِسًّا ومعنى ويمنعها من النهوض والارتقاء إلى مصافّ البلدان المتحضرة.
وليس من الصعب أن يُلاحظ المرء أنّ في البلدان الديمقراطية التي تمكنت شعوبها من فرض حدّ أدنى من الحريات السياسية لا تسمح أنظمة الحكم لنفسها "بتخوين" أو "أبلسة" ((diabolisation معارضيها ومنتقديها لأنّ النقد والمعارضة جزء من البناء الديمقراطي في تلك البلدان وحق أساسي من الحقوق التي ينبني عليها الانتماء إلى الوطن، وانتهاكهما يعتبر جريمة، فلا مواطنة بدون حرية وبدون إسهام في الحياة العامة وفي تقرير اختيارات البلاد ومحاسبة مؤسسات الحكم على أدائها.
كما أنه ليس من الصعب أن يلاحظ المرء أنّ الحاكم في البلدان الديمقراطية، لا يخوّل لنفسه، رغم أنه منتخب وهو الذي يمثل البلاد في المحافل الدولية وينطق باسمها، المماهاة بينه وبين الوطن فلا يقول لمواطنيه مثلا: "يمنع عليكم نقدي أو معارضتي لأنكم بذلك تنالون من قداسة الوطن"، لأنّ الوطن أكبر من شخصه وأوسع من أن يختزل فيه هو أو في حزبه أو عائلته. فلكل حزب مكان في الوطن وله رؤيته الخاصة، الطبقية، للمصلحة الوطنية ولكيفية تحقيقها، ويعود إلى الشعب، صاحب السيادة، الحكم عبر انتخابات حرة ونزيهة.
أمّا في تونس، حيث لا حرية، ولا ديمقراطية، ولا انتخابات حرة ونزيهة، فإنّ الرئيس رئيسٌ مدى الحياة وحزبه هو الحزب المحتكر للحياة العامة "مدى الحياة" أيضا ولا يحق لأحدٍ أن ينافسهما على ذلك. وإن تجرأ طرف من الأطراف على الطعن في شرعية ما يفعلانه وعلى المطالبة بالاحتكام إلى المبادئ الديمقراطية فإنه يتّهم ب"الخيانة" ويصبح عرضة للقمع والمحاكمات الجائرة والسجن. إنّ بن علي يعتبر أنّ الرئاسة له وحده ولا يمكن لأحدٍ أن ينازعه فيها. كما أنّه يعتبر أنّ الحياة العامة لحزبه هُو وحده ومجرم هو الحزب الذي ينازعه على ذلك. وهل ثمّة من منطق استبدادي، دكتاتوري، وفاشستي أكثر من هذا المنطق؟
إنّ الديمقراطية هي العدوّ اللدود للأقلية المستبدة ببلادنا وشعبنا، حتى وإن تغلّفت بغلافٍ حداثي. فهي تخشى حرية الإعلام لأنّ الإعلام الحر يكشف الحقائق وهو أداة للمراقبة وتنمية الوعي والتعبئة ضد الاستغلال والفساد. كما أنها تخشى حرية التنظم، لأن هذه الحرية تمكن الطبقات والفئات الشعبية من تكتيل صفوفها ومن التحول إلى قوة فاعلة ومؤثرة في مجرى الأحداث وقادرة على تغيير موازين القوى لصالحها. وهي تخشى أيضا وجود قضاء مستقل، لأنه يعرّضها للمحاسبة على الجرائم الاقتصادية والسياسية التي ترتكبها على حساب الشعب والوطن. وأخيرًا وليس آخرًا فهي تخشى الانتخابات الحرة والشفافة لأنها تفقدها السلطة وتعرّض مصالحها الضيقة، والأنانية، للخطر.
لهذه الأسباب تعادي تلك الأقلية الديمقراطية، ولهذه الأسباب فهي ترفض إذن وجود إعلام حر ومعارضة حقيقية، وقضاء مستقل، ومؤسسات ممثلة للإرادة الشعبية، وفي أقصى الحالات فإنها لا تقبل بأكثر من تعدّدية إعلامية وحزبية صورية، للديكور فقط أي تعدّدية تدعم سلطتها في نهاية الأمر ولا تمثل أي خطرٍ عليها. ومن هنا علينا أن نفهم أنّ التجاء بن علي وطغمته إلى "التخوين"، تخوين المعارضة الحقيقية، إنما يهدف إلى تغطية معاداتهما للديمقراطية.
ولسائل أن يسأل: إذا كانت المعارضة السياسية والمدنية في تونس، كما يزعم بن علي، مجرد "أقلية"، "خائنة" و"حاقدة" و"عميلة" و"كاذبة"، وإذا كان الشعب التونسي "ملتفا حوله" ومنحه ومنح حزبه 90% من أصواته، فلماذا إذن هو يخشى هذه الأقلية؟ ولماذا يُجنّد حكومته وبوليسه وإدارته وقضاءه الفاسد وحزبه ومرتزقته لمواجهتها؟ لماذا يهتزّ وينتفض ويرتبك بمجرد أنّ أحد رموز المعارضة أو المجتمع المدني ظهر في إحدى الفضائيات الأجنبية ليعبّر عن موقف؟ منذ متى كانت أغلبية ال...,99% تخشى أقلية ال...,0%؟ لماذا لا يترك بن علي هذه "الأقلية" تتواجد وتنشط وتشارك في الانتخابات الرئاسية والتشريعية بكلّ حرية، على أن يتولّى الشعب الذي يزعم بن علي أنّه "ناشده " بكل طبقاته وفئاته أن يترشح للمرة الخامسة على التوالي للرئاسة، حُبًّا فيه وتمسّكا به، ينبذها ويهمّشها ويقضي عليها القضاء المبرم؟ لماذا هذا التناقض المفضوح بين الإدعاء بأنّ المعارضة "لا تمثل شيئًا" وبين منعها بكل الوسائل من النشاط و"تخوينها"، إلخ.؟
إنّ بن علي، وهذا هو لبّ الموضوع، يعلم علم اليقين أنّ معارضي نظامه الإستبدادي، لا يمثلون "أقلية" كما يدعي. كما أنهم ليسوا غرباء عن هذا الوطن وعن هذا الشعب بل هم من صلبهما ومن صميمهما. وهم يعبّرون عن الحاجة العميقة لأوسع الجماهير الشعبية إلى الحرية والديمقراطية، وإلى الحياة الكريمة. كما أنّه يعلم علم اليقين أنّهم لا يكذبون ولا يفترون وإنّما يتحدثون عن مشاكل وقضايا حقيقية، لذلك يجد خطابهم، رغم قلة إمكانياتهم وندرة الفرص المتوفرة لهم، طريقه إلى عقول الناس وقلوبهم، بينما يبقى خطابه، رغم سيطرته على كافة وسائل الإعلام والفضاءات العمومية والخاصة، دون تأثير، لا لشيء إلا لأنّه خطاب كاذب، ديماغوجي، لا تصدقه الأغلبية الساحقة من الناس.
وإلى ذلك فإنّ بن علي يعلم علم اليقين أنّ هؤلاء المعارضين الديمقراطيين لا يُشوّهون سمعة تونس، بل هم يدافعون عنها ويريدون الارتقاء بها إلى مصافّ البلدان المتحضرة، وأنّ الذي يشوّه سمعتها حقًا إنما هو نظامه الذي حولّها إلى سجن كبير وإلى موطن للاستغلال والنهب والفساد، مما جعلها تحتلّ في كلّ ما يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان آخر المراتب في العالم وهي تتراجع بخطى حثيثة في مجال الفساد لتحتلّ مكانا ضمن أكثر البلدان فسادًا. ومن دون تقديم المزيد من الأمثلة لا يمكن للمرء إلاّ أن يتساءل: من يشوّه تونس: المعارض الذي يناضل من أجل الحرية والشغل والكرامة لبنات بلده وأبنائه أم "الصهر" الذي يسرق "اليخوت" من فرنسا وتملأ فضائحه الصحافة الأجنبية ويجد مع ذلك الحماية حتى لا يقاضيه القضاء الفرنسي على جرائمه؟
وأخيرا فإنّ بن علي يعلم علم اليقين أنّ أغلبية الشعب التونسي ليست معه وأنّ الإجماع المزعوم حول شخصه هو إجماع مفبرك بمحلات وزارة الداخلية. فلا نسب "المشاركة الشعبية" ولا نسب "النجاح الباهر" في المهزلة الانتخابية الأخيرة صحيحة. إنّ بن علي يعرف جيدًا أنّ معظم الناس، بمن فيهم العديد من أعضاء حزبه قاطعوا بشكل واسع وتلقائي هذه المهزلة وأنّ صناديق الاقتراع الخاوية حشاها الولاّة في آخر نهار 25 أكتوبر ب"الورقة الحمراء" (ورقة الحزب الحاكم) وتفنّنوا في تزوير نسب المشاركة والتصويت له ولحزبه. إنّ الشعب التونسي لو أتيحت له حقا فرصة للاختيار في مناخ من الحرية والديمقراطية لكنس نظام الاستبداد والدكتاتورية وتخلص منه إلى الأبد، ولكنه مكبّل بألف قيد وقيد (بوليس، لجان يقظة، شُعب مهنية وترابية، لجان أحياء...) يمنعه من الانطلاق نظرا لارتهان المواطن بيولوجيا في قوته (أكله وشربه...) لأنّه مهدد بفقدان عمله إذا تجرّأ على رفع صوته.
إنّ بن علي لا وزن له دون أجهزة البوليس ، ولا وزن لحزبه دون مساندة الدولة ودعمها، وإنّ بقاءهما في الحكم كلّ هذا الوقت لا يعود إلى شعبيتهما بل إلى غطرستهما وتسلطهما إنّ الحرية والديمقراطية لا يخشاهما إلاّ من يعرف أنه يمثل مصالح أقلية نهّابة وفاسدة. أمّا من له ثقة في برنامجه فإنه لا يخشاهما بل يتمسّك بهما ويحرص على الاحتكام إلى الشعب.
ولكن الوضع الذي تعيشه بدنا لا يمكن أن يكون تاريخيا إلاّ ظرفيّا وانتقاليّا، فالدكتاتوريات مهما تغطرست وتعنتت وتفننت في أساليب قمع شعوبها، إلى زوال. وما الهستيريا التي انتابت نظام بن علي خلال الانتخابات الأخيرة والتي تتواصل إلى اليوم، إلا علامة على المخاوف التي أصبحت تساوره. فهو يخشى تطوّر المعارضة السياسية والمدنية من جهة ونهوض الحركة الاجتماعية من جهة أخرى بما يقوّض أركانه ويفسد مخطّطات القائمين عليه المنشغلين من الآن بموعد 2014، بحثًا عن "التمديد" لبن علي بانقلابٍ جديد على الدستور، أو عن صيغة من صيغ "التوريث" التي تبقي الحكم بيد حفنة العائلات المتنفذة. وفي كلتا الحالتين فإنهم يريدون إبقاء الوضع تحت السيطرة حتى يتسنى لهم التصرف على هواهم.
العملاء ليسوا مؤهلين لإعطاء الدروس في الوطنية
وفوق ذلك كلّه فإنّ بن علي ليس في الموقع الذي يؤهّله لإعطاء دروس في الوطنية لرموز الحركة الديمقراطية في تونس. إنّ من يستمع إليه وإلى رموز نظامه ومرتزقته يخوّنون المعارضة ويتهمونها ب"الولاء للأجنبي" و"الاستقواء به على الوطن"، كما يتهمون "أطرافا أجنبية" ب"النيل من سيادة البلاد" و"التدخل في شؤونها" يذهب في ظنه أننا في حضرةِ "نظام وطني" "معادٍ للامبريالية والاستعمار" مُهدّدٍ بخطر "غزو أمريكي-أطلسي" يسعى إلى القضاء عليه وتعويضه ب"عملاء" أتى بهم على دبّاباته!! وما هذا في الواقع إلاّ أمر مُضحك، لأن نظام بن علي لا هو نظام وطني، ولا هو في صراع مع الامبريالية والاستعمار بل هو الخادم الأمين لمصالحهما في بلادنا، وهما اللذان يدعمانه ويحافظان على وجوده.
إنّ الوطنية ليست شعارًا يرفعه من يشاء ومتى يشاء فيصدقه الناس. بل هي مضامين اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية ودبلوماسية. وهذه المضامين هي الاستقلال والتحرر من كل هيمنة أجنبية، وهي بالتالي السيادة على خيرات البلاد وثرواتها. وهي أيضا خدمة مصالح الشعب بما يوفر له أسباب العيش الكريم من شغل وتعليم وصحة وسكن ونقل وبيئة سليمة، إذ لا خير في نظام لا يضمن لمواطناته ومواطنيه حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والوطنية هي أيضا ضمان الحقوق السياسية الفردية والجماعية، بما يكفل للشعب ممارسة سيادته إذ لا سيادة وطنية دون سيادة شعبية، تعطيها محتوى ملموسًا وتوفر لها الحماية وتضمن لها الدوام. وهي كذلك حماية الهوية الثقافية للشعب من التفسخ والانحلال وتطويرها باستمرار بما يضعه على سكة التقدم والإسهام الفعّال في إثراء التراث الإنساني. وأخيرا فإن الوطنية تعني استقلالية القرار لا في الشأن الداخلي فحسب، بل كذلك في الشأن الخارجي حتى تكون دبلوماسية البلاد متماشية مع مصالح الشعب، في خدمة القضايا العادلة عربيا ودوليا.
إنّ كلّ هذه المضامين التي تعطي للوطنية معنًى ملموسًا لا علاقة لها باختيارات نظام بن علي التي تكرّس العمالة والاستبداد والاستغلال والفساد. فاختيارات تونس الاقتصادية مثلا لا تقرّر في الداخل من قبل بناتها وأبنائها، وفقا لمقتضيات تنمية بلادهم وحاجاتهم المادية والمعنوية، بل تقرّرها في الخارج المؤسسات المالية النهّابة وعلى رأسها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وفقا لمصالح القوى الرأسمالية الكبرى التي تسيطر على هذه المؤسسات وعلى الاقتصاد العالمي. فمنذ أن وصل بن علي إلى الحكم في عام 1987 وهو يكرّس برامج معادية لمصالح الوطن حدّدتها هذه المؤسسات والقوى. فمن "برنامج الإصلاح الهيكلي"، إلى "برنامج الشراكة الأورومتوسطية"، إلى مشروع "الإتحاد المتوسطي"، و"التلميذ النجيب" حسب وصف البنك الدولي لا يرفض شيئا. وهو يسعى الآن إلى الحصول على مرتبة "الشريك المتميز" مع الاتحاد الأوروبي، مُفاخرًا بأنه كان "السبّاق" دائما إلى قبول برامجه ومشاريعه الهيمنية والنهّابة التي فاقمت تبعية بلادنا وعمّقت تفكك نسيجها الاقتصادي الهش أصلا. فتراجعت القطاعات الإنتاجية، صناعية وفلاحية لحساب قطاع خدماتي هش ومتقلب وغير مضمون وازداد تغلغل الرأسمال الأجنبي ليحكم قبضته على مفاصل الاقتصاد التونسي في كافة الميادين.
إنّ الخوصصة التي تمثل العمود الفقري لكلّ برامج المؤسسات المالية الدولية ومشاريع الاتحادات الاحتكارية الإقليمية (الاتحاد الأوروبي...) الهادفة إلى رفع العوائق أمام تغلغل الرأسمال الأجنبي، أدّت في ما أدّت إلى استحواذ هذا الرأسمال على 87% من رأس المال المؤسسات العمومية التي تمّ التفويت فيها ومن ضمنها مؤسسات ذات صبغة استراتيجية. كما أن فتح الباب على مصراعيه أمام الاستثمارات الأجنبية ومنها العديد من التسهيلات المالية والجبائية، أدّى إلى تزايد الشركات والمؤسسات الأجنبية المنتصبة في تونس والتي يبلغ عددها حاليا حوالي 3 آلاف شركة ومؤسسة تُشغل حوالي 300 ألف أجير. هي تساهم في نهب البلاد وفي استغلال بناتها وأبنائها مقابل أجور بؤس وتصدر أرباحها إلى الخارج وتغلق أبوابها متى شاءت تاركة وراءها عمّالا على قارعة الطريق وعائلات بأسرها دون مورد رزق. وإلى ذلك فقد تعدّدت، في إطار هذه السياسة اللاوطنية، الامتيازات الممنوحة إلى الرساميل الخليجية لإقامة مشاريع سياحية وعقارية ضخمة لا تعود بأيّ فائدة على الشعب التونسي، عدا مزيد من الإذلال والاستلاب، لأنّ تلك المشاريع موجهة إلى تلبية نزوات الأثرياء، وهي لا تتطلّب، في تسييرها يد عاملة كثيرة ومتخصّصة.
وعلى صعيد آخر فقد تفاقمت مديونية بلادنا الخارجية إذ أنّها تضاعفت خلال 22 سنة من حكم بن علي 5,7 مرات مقارنة بما كانت عليه عام 1987. وتقترض تونس اليوم، لا لتطوّر قدراتها الاقتصادية الصناعية والفلاحية وبنيتها التحتية، بل لتسديد خدمات مديونيتها وهو ما يؤكدّ أنّ الديْن الخارجي أداة للنهب وليس للمساعدة على التنمية. وإذا ما أضفنا المديونية الداخلية إلى المديونية الخارجية فإننا نجد أن المديونية العامة لتونس تضاهي 114% من الناتج الداخلي الخام. وهو وضع سيء للغاية، ووخيم العواقب في بلد "غير نفطي". فالدولة والمؤسسات والمواطن، جميعهم يعيش بالديون. ولا مستقبل بالطبع لمن يعيش بأموال غيره ولا يعوّل على ذاته.
ولا يختلف وضع تونس على المستوى التجاري عن وضعها على المستويات الأخرى. فقد تعمّقت تبعيتها، منذ انخراطها في المنظمة العالمية للتجارة التي حكمت عليها برفع الحواجز الجمركية، أمام تدفق السلع الأجنبية وهو ما أدّى إلى تدمير العديد من مراكز الإنتاج المحلي الصناعية والفلاحية. كما أدّى إلى ربط معيشة الشعب التونسي بالأسواق الخارجية وما ينتج عن ذلك من انعكاسات، من بينها ارتفاع الأسعار. كما أنّ بعث فروع لعدد من احتكارات التوزيع (كارفور، جيون، شمبيون، بريكوراما، مونوبري...) ما انفكّ يضيّق الخناق على التجارة المحلية الصغيرة والمتوسطة ويحكم عليها تدريجيًا بالتهميش، وممّا زاد الطين بلّة إنتشار التجارة الموازية، التي ينشّطها بالخصوص أفراد من "العائلة الحاكمة" أو مقربون منهم. وتعتمد هذه التجارة على سلع أجنبية مهرّبة أو مورّدة بطرق غير مشروعة عن طريق الموانئ التونسية وهذا ما يسبّب خسارة كبيرة لخزينة الدولة، كما يسبّب تدميرا للإنتاج المحلّي الذي لا يقدر على المنافسة. وقد انتشرت التجارة الموازية إلى درجة أنّ التجار العاديين أصبحوا يتندرون بالقول إنّ تجارتهم تحولت إلى تجارة موازية بينما أصبحت التجارة الموازية، هي التجارة العادية بالبلاد.
إلى ذلك فإنّ السياسة الاقتصادية النيوليبيرالية التابعة التي يكرسها نظام السابع من نوفمبر أسهمت في التطوّر السريع لفئة من أصحاب الأعمال الذين تنطبق عليهم صفة "المافيوزيين" أكثر من أيّ صفة أخرى. وهم يلحقون أضرارًا جسيمة بالاقتصاد. لقد استغلّ هؤلاء ارتباطهم بالقصر عن طريق القرابة أو المصاهرة أو الصداقة ليغنموا من هذه السياسة وبالخصوص من الخوصصة ويضعوا أيديهم على جزء هام من الأملاك العمومية بأسعار بخسة أو بقروض بدون ضمانات (يشترون أملاك الدولة بأموال الدولة...). فالعديد من المؤسسات والشركات والأسهم البنكية والأراضي والمباني التابعة للدولة انتقلت إلى "الأقارب والمقربين". وقد استغلّت هذه الفئة أيضا ما يوفره لها القصر من دعم سياسي لفتح نيابات شركات احتكارية أجنبية في مختلف المجالات وفرض نفوذها في تونس على الشركات والمؤسسات الأخرى المنافسة. وبنفس الغطاء يتوسّط الأقارب والمقربون في صفقات الدولة ويحصلون على رشاوِ ضخمة. كما يحصلون على قروض بنكية كبيرة دون ضمانات ناهيك أنّ هذا الصنف من القروض Les créances douteuses) ) تبلغ قيمته حاليا حوالي ثلث مجموع القروض وهي نسبة عالية مقارنة بالنسبة المسموح بها دوليا (حوالي 12%). وتثير المحسوبية في منح القروض استياءً في كافة الأوساط بما في ذلك في وسط رجال الأعمال لأنّ البنوك أصبحت تعمل لصالح "الحيتان الكبيرة" المدعومة من فوق. وتمارس هذه الحيتان ضغوطا شتى على أصحاب المشاريع الرابحة بابتزازهم مستعملة لتركعيهم أجهزة الدولة من إدارة (الجباية، الضمان الاجتماعي...) وبوليس وقضاء. وأخيرًا وليس آخرا لا يتورّع العديد من أفراد هذه الفئة عن اغتصاب أرزاق الغير عن طريق الإكراه والتحيل. ومن الملاحظ أنّ العلاقات داخلها ما انفكت تتدعّم عن طريق المصاهرة بالخصوص ليتسم الاقتصاد التونسي شيئا فشيئا بسمة "إقتصاد العائلات"التي تمارس سيطرتها عليه خارج أيّ ضوابط قانونية.
وما من شكّ أنّ هذا الواقع لا صلة له بالوطنية التي يدعيها نظام بن علي إنّ تحويل تونس إلى مستعمرة اقتصادية معرضة لنهب الشركات والمؤسسات والدول الأجنبية بتواطئ أقليات من الكمبرادور المحلي، المافيوزي، إنما يندرج في سجل التبعية والعمالة لا في سجل الوطنية.
أما على المستوى الاجتماعي، فقد كان للسياسة الاقتصادية التي انتهجها نظام بن علي بإملاءات خارجية أسوأ الانعكاسات على النسيج الاجتماعي التونسي وبالخصوص على الطبقات والفئات الشعبية. لقد اتسعت الهوّة بين قطبي الثراء والفقر أكثر من أيّ وقت مضى. فالأغنياء ازدادوا غنًى والفقراء ازدادوا فقرًا نتيجة النهب المزدوج الداخلي والخارجي، ولا أدلّ على ذلك من الأرقام التي نشرت بالتقرير الأخير للأمم المتحدة حول التنمية في العالم العربي. ففي سنة 2000 مثلا لم تتجاوز حصّة ال10% الأكثر فقرًا من التونسيين من الدخل والاستهلاك 2,3% وال20% الأكثر فقرا 6%، وبالمقابل فقد بلغت حصّة ال10% الأكثر غنًى 31,5% وال20% الأكثر غنى 47,3 % (voir les tableaux à la fin du rapport). وإلى ذلك فإنّ البطالة التي كانت عام 1987 في حدود 13% حسب الأرقام الرسمية التي لا تعكس حقيقة الواقع، ما انفكت تتفاقم منذ ذلك التاريخ ناهيك أنّها لم تنزل، حسب الحكومة، دون ال14,3%. ويمثل الشباب، خاصة من حاملي الشهادات العليا الضحية الرئيسية للبطالة في بلادنا وهو ما يدفعه إلى الهجرة السرية والمقامرة بحياته في قوارب الموت أو إلى الانخراط في الجريمة والمخدرات والكحولية والبغاء، إلخ.
وتعدّ تونس حسب التقرير المذكور أعلاه، ثاني دولة عربية، بعد الإمارات العربية المتحدة التي يتواجد بها عدد كبير من المهاجرين، من حيث ارتفاع عدد المساجين مقارنة بعدد السكان. (263 سجين لكل 100 ألف ساكن في تونس (26 ألف سجين في الجملة عام 2007) مقابل 288 سجن لكل 100 ألف ساكن في الإمارات أي 8927 سجين في الجملة لنفس العام).
وتعاني الطبقات والفئات الشعبية التونسية من التدهور المستمر لمقدرتها الشرائية نتيجة غلاء الأسعار من جهة وضعف الأجور والمداخيل من جهة ثانية. وتقدّر بعض الدراسات المختصة (أنظر دراسات جورج عدّة) أنّ المقدرة الشرائية لأصحاب الأجر الأدنى الصناعي مثلا (Smigards) تدهورت خلال الربع قرن الأخير بما لا يقل عن 24 أو 25%.
كما أدّت الخوصصة وما رافقها من تراجع لدور الدولة الاقتصادي والاجتماعي إلى تردّي الخدمات الصحية التي تحوّلت إلى مجال الاستثمار والربح الرأسماليين ممّا نجم عنه بروز منظومتين صحيتين: عيادات راقية للأغنياء وأخرى رديئة للفقراء. وهو ما يمثل تمييزا فضيعا داخل المجتمع وانتهاكا لمبدأ إنساني وهو المساواة بين المرضى أي أن تتوفر لكل فرد من أفراد المجتمع نفس الحظوظ لتلقي العلاج المناسب دون تمييز بسبب الجنس أو المركز الاجتماعي والسياسي. فقد أصبح الحق في الحياة في تونس مرتبطا بشكل صارخ بالثروة.
وإلى ذلك قد دمرّ بن علي، بشهادة أهل الاختصاص المنظومة التربوية التي تشكو أصلا من اختلالات تستدعي التقويم والتغيير. فمن إصلاح عشوائي إلى آخر أكثر عشوائية، بإملاء من المؤسسات المالية الدولية، تدحرج التعليم في تونس إلى أسفل السافلين، فلا البرامج ولا الطرق البيداغوجية ولا الشهادات العلمية تستجيب للمقتضيات الدنيا للنهوض بالبلاد بل هي مكيفة بالكامل مع الحاجات الظرفية والمتقلبة للسوق الرأسمالية، ومفروضة فرضا على التلاميذ والطلاب وهيئات التدريس والبحث. وقد تفاقم نتيجة ذلك التمييز الاجتماعي في التعليم بحكم بروز منظومتين تربويتين: واحدة نخبوية، راقية، لا يقدر عليها إلاّ من له الثروة، وأخرى رديئة، لإنتاج المعطلين عن العمل من حملة الشهادات العليا التي تراجعت قيمتها العلمية بشكل مفزع. ولا بدّ من ملاحظة أنّ الأمية مازالت تشمل بعد أكثر من نصف قرن من "الاستقلال" أكثر من25.7% من السكان ممن هم في سنّ التعليم مقابل 7.6% في الأراضي الفلسطينية المحتلّة و8.9% فقط في الأردن.
وليست الثقافة أفضل حالا من التعليم في عهد بن علي. فالتصحّر هو السمة البارزة في هذا المجال نتيجة غياب الحرية من ناحية وتراجع دور الدولة في الإنفاق على الثقافة من ناحية ثانية وتشجيعها لأنماط ثقافية استهلاكية مستوردة لا هدف منها سوى خلق أجيال متخلفة الوعي، تفكر بغرائزها وتتصرف كالقطعان، لا يحركها طموح، ولا يغذيها أمل، من ناحية ثالثة. وقد تظافرت كل هذه العوامل لتعكس سلبيا على الطاقات الإبداعية في بلادنا ومجتمعنا.
ولا بدّ من ملاحظة أنّ التدهور العام للحياة الاجتماعية والثقافية في تونس يتخذ أبعادا حادة من جهة إلى أخرى. فالبطالة والفقر والتهميش والأمية والمرض والتدهور البيئي، تضرب الشريط الغربي، لبلادنا من شماله إلى جنوبه أكثر من المناطق الساحلية. لقد دعم بن علي منذ مجيئه الإخلالات الجهوية سواء لأسباب اقتصادية (البحث عن الربح) أو سياسية (الحفاظ على الزبائنية السياسية الممركزة في المناطق الساحلية). وما من شكّ في أنّ هذا الوضع الاجتماعي العام متعارض تماما مع المصلحة الوطنية، بل إنه لا يخدم، كما وضحنا، سوى مصالح أقليات محلية وأجنبية لا تربطها بالوطن سوى علاقة نهب واستغلال وتكديس للأرباح. فعن أيّ وطنية يتحدث بن علي وطغمته إذن؟ إنّ تونس اليوم ليست واحدة بل اثنين: تونس الأثرياء الذين يعيشون في الترف وتونس الفقراء الذين يكدحون ويلهثون يوميا وراء لقمة العيش يزداد الحصول عليها صعوبة من يوم إلى آخر.
ولا يمكن بأيّ شكل من الأشكال اعتبار الاستبداد السياسي علامة من علامات "الوطنية"، بل على العكس من ذلك فهو حكم بالموت على الوطن. لقد تحدثنا في الفقرات السابقة عن هذا الاستبداد الذي حكم على شعبٍ بأكمله بالصمت والخضوع، لا حق له في إبداء رأي أو المشاركة في اتخاذ قرار أو اختيار حاكم أو محاسبته أو عزله.
إنّ النظام السياسي في بلادنا قائم على حكم فردي مطلق في شكل رئاسة مدى الحياة، وعلى هيمنة الحزب الواحد المخفيّة وراء تعددية صورية، وعلى القوة الغاشمة لجهاز بوليسي ضخم، يطغى على كافة أجهزة الدولة الأخرى. وفي هذا النظام تنتهك الحريات انتهاكا منهجيًّا، ويدمّر المجتمع المدني، وتتمأسس ممارسة التعذيب ويزج بالآلاف في السجون، ويشرّد مثلهم في المنافي، وتزوّر الانتخابات ويقع السطو على إرادة الشعب. إنّ هذا الطابع الاستبدادي لنظام بن علي ليس معزولا عن طابعه العميل، التابع، المعادي للوطن. فالإستبداد هو الإطار السياسي الذي تحقق فيه القوى الإمبريالية والاستعمارية الغربية نهبها لبلادنا واستغلالها لشعبنا، بتواطؤ مع الأقلية الكمبرادورية المحلية، إنّ دور الإستبداد هو أن يفرض على عُمالنا وكادحين في المدن والأرياف، وعلى نسائنا وشبابنا ومثقفينا ومبدعينا هيمنة هذا التحالف الأجنبي-المحلي ويمنعهم من الحق في مقاومته.
ولا يمكن أن نتطرق إلى المجال السياسي دون الإشارة إلى الظاهرة التي تعمقت في "العهد الجديد" أو "المبارك" كما يقال وهي تتمثل في الخوصصة المتفاقمة للدولة. لقد أصبحت أجهزة البوليس والإدارة والقضاء في خدمة "العائلات المتنفذة"، وسيلتها في ذلك "التعليمات" التي تعلو على كلّ القوانين، وهو ما وسم هذه الأجهزة بسمة "العصابات" التي تخدم، عن طريق العنف والتسلط والغطرسة ودوس القانون، تلك "العائلات"، وهو ما أفقدها – أي الأجهزة – صبغة "الوطنية" بل كل صبغة عمومية (public)، ذلك أن الشغل الشاغل لتلك الأجهزة هو حماية نظام بن علي والأقلية المنتفعة منه لا حماية المصلحة العامة. ولا تختلف وضعية البرلمان أو مجلس المستشارين المحدث منذ سنوات عن وضعية باقي مؤسسات الحكم، فهما أداتان بيد بن علي. فهو الذي يعيّن، في غياب انتخابات حرة، أعضاءهما من بين أعضاء حزبه أو أعضاء أحزاب الديكور أو خدم نظام حكمه بصفة عامة، لذلك فإن جورها لا يتعدى التصديق على ما يقرره هو. وهو ما يفسّر أن التونسيات والتونسيين لم يسمعوا أبدًا أن البرلمان استدعى مثلا وزير الداخلية لمساءلته عن ممارسة التعذيب أو عن انتهاكات حقوق الإنسان. كما أنهم لم يسمعوا به يسائل وزير العدل عما يجري في سجونه من قتل بطيء لآلاف المساجين السياسيين، أو وزيري أملاك الدولة والثقافة عن الأراضي التي مُنحت بمنطقة قرطاج لبعض أفراد "العائلة الحاكمة" رغم أنها مصنفة من طرف اليونسكو "إرثا إنسانيا" أو وزير المالية لمسائلته عن المليار و800 مليون مليم الذي قُدّم منذ سنتين إلى "صاحبة" معهد قرطاج الدولي دعما لمشروعها الخاص في الوقت الذي تفتقد المدارس العمومية إلى أبسط التجهيزات، أو عن إلغاء دين لأخت الرئيس بسوسة من طرف مجلس وزاري مضيق، إلخ. بالطبع المؤسسة غير المنتخبة، لا يمكن أن تخدم الشعب أو أن تحرص على صيانة المال العام، بل تخدم من عينها ومن يرشي أعضاءها. وهو وجه من أجه خوصصة الدولة في بلادنا. ومن البديهي أن دولة مستبدة، في خدمة أقلية، نهابة وفاسدة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحمي الوطن ولا أن تدعم اللحمة بين أفراده، بل إنها تفسح المجال للتفكك، والأمثلة على ذلك كثيرة في العالم.
وأخيرا فإن السياسة الخارجية لنظام بن علي لا تخرج عن السياق العام لتبعيته، إن دبلوماسية أي نظام هي امتداد لسياسته الداخلية، وما دام نظام الحكم في بلادنا ليس صاحب القرار في اختياراته الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فهو لا يملك السيادة في سياسته الخارجية لأنه لا يملك "الأدوات" اللازمة لانتهاج ديبلوماسية مستقلة ونقصد ب"الأدوات" الاستقلالية الاقتصادية أوّلا والاستقواء بتمثيل الشعب تمثيلا ديمقراطيا ثانيا. وهذا ليس بالأمر الجديد، فالنظام التونسي ارتبط دائما بالقوى الإمبريالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا، في المجال الديبلوماسي. وهذا الارتباط لم يَخِفَّ في "العهد الجديد" بل تفاقم لتفاقم الارتباط في المستويات الأخرى. كما أن بن علي ما انفك يقدم التنازلات على حساب الوطن لأصحاب القرار في واشنطن وفي العواصم الأوروبية حتى يضمن تأييدهم الدائم لحكمه الاستبدادي وعدم تدخلهم لتغييره.
إن التبعية الدبلوماسية لنظام بن علي تتضح من خلال مواقفه من القضايا الدولية الكبرى وخاصة منها القضايا العربية. ففي عام 1996، حتى لا نذكر إلا الأمثلة القريبة، فتح بن علي، سرًّا، "مكتب علاقات" للكيان الصهيوني بتونس استرضاءً للإدارة الأمريكية التي طالبت الأنظمة العربية التابعة لها بالتطبيع مع الكيان الصهيوني. ولم يعرض بن علي قرار فتح هذا المكتب حتى على برلمانه الصوري. وفي عام 2003 ساند بن علي الحرب على عراق صدّام حسين، وطلب مثله مثل بعض الحكام العرب الآخرين، من الإدارة الأمريكية التكتم على الأمر. ولكن الصحافة الفرنسية (Le canard enchainé) كشفت المستور ولم تجرأ الديبلوماسية التونسية على تكذيب الخبر. وفي عام 2004 انعقدت قمة رؤساء وملوك الدول العربية بتونس وطلبت الإدارة الأمريكية من بن علي تأجيل القمة ل"إنضاج الظروف" لتمرير "مشروع الشرق الأوسط الكبير" فما كان منه إلا أن لبّى الطلب بطريقة مفضوحة. وفي عام 2005 استدعى بن علي مجرم الحرب أريال شارون للمشاركة في القمة العالمية لمجتمع المعلومات بتونس، ولم يحضر هذا الأخير وعوضه وزير خارجيته "سيلفان شالوم" الذي حطت طائرته بجربة والعلم الإسرائيلي يرفرف عليها إلى جانب العلم التونسي. ويمارس نظام بن علي إلى اليوم التطبيع مع الكيان الصهيوني سرًّا وجهرًا. وهو يمنع الشعب التونسي من التعبير عن تضامنه مع أشقائه في فلسطين ولبنان والعراق، ولا يتورّع عن التنكيل بكل من يتجمّع أو يتظاهر من مناضلات ومناضلي أحزاب المعارضة والمجتمع المدني الذين لم يتخلّفوا يوما عن الدفاع عن قضايانا العربية العادلة (العدوان على لبنان 2006، العدوان على غزة 2008 – 2009).
ويشارك بن علي منذ عام 2003 في ما يسمى "الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب" ويعتقل المئات من الشبان وينكّل بهم ويزجّ بهم في السجون لأنهم خطّطوا للالتحاق بالمقاومة في فلسطين أو العراق.
وغير خاف على أحد أن نظام بن علي لا يحظى فقط بالدعم الاقتصادي والمالي من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وبالخصوص فرنسا، بل كذلك بالدعم الأمني والعسكري مقابل الدور الذي يقوم به في المنطقة ضمن المخططات الهيمنية لهذه الدول. ولا نبالغ في شيء إذا قلنا إنه لولا هذا الدعم لما أمكن للدكتاتورية أن تستمرّ كلّ هذا الوقت، فهي تستقوى بعلاقاتها بهذه الدول لمواصلة إخضاع الشعب التونسي ونهب البلاد.
وخلاصة القول إنّ نظام بن علي غارق في التبعية حتى النخاع وهو إذ يستبدّ بالشعب التونسي فمن أجل أن يفرض عليه هذه التبعيّة التي لا تستفيد منها سوى أقلية كمبرادورية. وإنّ مثل هذا النظام الذي يمثل هدفا للنضال الديمقراطي والوطني، لا يمكنه أن يعطي دروسا في الوطنية. إنّ حزب العمال الشيوعي التونسي جعل من النضال ضدّ الدكتاتورية النوفمبرية شرطا لتحقيق الاستقلال الفعلي لبلادنا. وقد نصّ برنامجه العام على مختلف الإجراءات الواجب اتخاذها من أجل بلوغ هذا الهدف، مثل تأميم مصالح الاحتكارات والدول الامبريالية ببلادنا وإلغاء المديونية الخارجية وكلّ الاتفاقيات القائمة على النهب والتي تنال من سيادة تونس، إلخ.
"السيادة الوطنية" : ذريعة لفرض الوصاية على الشعب واستعباده
لسائل أن يسأل: إذا كان نظام بن علي تابعا وفاقدا لاستقلالية القرار على الصعيد الداخلي ( الاختيارات الاقتصادية) والخارجي (السياسة الخارجية) فبماذا تفسّر هذه "النعرة" الوطنية التي انتابته اليوم؟ لماذا يرفع عقيرته بالصياح محتجّا على "النيل من سيادة تونس" متّهما "أطراف خارجية" ب"التدخّل في الشأن الوطني لتونس"؟ إنّ الجواب عن هذا السؤال بسيط للغاية والأمر ليس فيه تناقض. إنّ بن علي لا يحتجّ على النهب الاقتصادي لبلادنا ولا على الاستغلال الفاحش الذي تمارسه الشركات والمؤسسات الأجنبية على عمّالنا ولا على إملاءات واشنطن ولندن وباريس وبرلين في المجال الدبلوماسي بل إنّه غاضب لأنّ الانتقادات الموجّهة إليه تتعلّق بكرسيّه وبأسلوب حكمه الاستبدادي للشعب التونسي وتصرّفه وتصرّف محيطه الفاسد في خيرات تونس وثرواتها. في هذه الحال فقط يصبح بن علي "وطنيا" ويطالب "الأطراف الأجنبية" بأن تحترم " السيادة الوطنية لتونس" و"استقلالية قرارها" وتتركه بالتالي يتصرّف في "العباد والبلاد" كما لو أنهم ملكه الخاص دون أن يسأل أو يحاسب بناء على التزاماته الدولية.
وفوق ذلك كلّه، لا بد من توضيح من هي هذه الأطراف الأجنبية حتى لا يظن المرء أنها حكومات وجيوش وسفراء وقناصل، وما هي القضايا التي أثارتها وتثيرها والتي كانت سبب اتهامها ب"التدخل في الشأن الوطني" وهو ما سيمكننا من إدراك الطابع الديماغوجي للخطاب "الوطني" لبن علي وطغمته. إنّ "الأطراف الأجنبية" المعنية هي أوّلا وقبل كلّ شيء منظمات غير حكومية (ONG) إقليمية ودولية تعنى بالحريات وحقوق الإنسان ومنها من يتمتّع بالعضوية الاستشارية في الأمم المتحدة. ومن بين هذه المنظمات: منظمة العفو الدولية، الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، مراسلون بلا حدود، مرصد مراقبة حقوق الإنسان (هيومن رايتس واتش)، لجنة حماية الصحفيين بنيويورك، الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان، "الخط الأوّل" "فرونت لاين"... وقد أثارت هذه المنظمات والهيئات في تقاريرها وبياناتها موضوع انتهاك النظام التونسي المنهجي للحريات وحقوق الإنسان (تعذيب، اعتقالات تعسفية، محاكمات جائرة، ظروف اعتقال غير إنسانية، تنكيل بالمساجين السياسيين وبعائلاتهم، قمع حرية الإعلام، محاصرة نشاط الأحزاب والجمعيات، عدم استقلالية القضاء...) كما أثارت الظروف التي جرت فيها الانتخابات الأخيرة واعتبرتها غير مطابقة للمقاييس الدولية. وطالبت المنظمات والهيئات المعنية بن علي وحكومته باحترام التزاماته الدولية في مجال حقوق الإنسان. فالدولة التونسية صادقت وأمضت على اتفاقيات عديدة تتعهّد بموجبها إزاء "المجتمع الدولي" باحترام الحريات وحقوق الإنسان في تعاملها مع مواطنيها. وهذا هو الأساس الذي تتدخّل بموجبه تلك المنظمات غير الحكومية، وبالتالي فهي لا تنتهك سيادة تونس" بل تطالب حكومتها بتنفيذ ما تعهّدت به لصالح مواطناتها ومواطنيها وعدم إبقائه حبرا علي ورق. كما أنها طالبت حكومات البلدان الغربية بالكفّ عن إتباع سياسة المكيالين: غض الطرف عن انتهاك الدكتاتوريات الصديقة والحليفة، ومنها نظام بن علي، للحريات وحقوق الإنسان من جهة، واتخاذ هذه الحريات وحقوق الإنسان ذريعة لشن حملات ضد الأنظمة "غير الصديقة" و"غير الحليفة" (العراق سابقا، كوريا الشمالية، كوبا...) من جهة أخرى.
وهكذا فإننا نلاحظ أنّ المسائل التي أثارتها المنظمات غبر الحكومية الإقليمية والدولية هي مسائل حقيقية وغير مفتعلة كما أن هذه المنظمات لا تنطلق من فراغ بل من الاتفاقيات الدولية التي أمضت عليها الدولة التونسية وتعهّدت بتطبيقها. وفي كل الحالات فإنّ المواقف التي عبّرت عنها هذه المنظمات هي مواقف إيجابية لصالح تونس وشعبها وليست ضدّهما. لكن نظام بن علي له رأي آخر فهو يريد أن يمضي على الاتفاقيات دون تكريسها، ليستخدمها لتجميل صورته في الخارج للحصول على القروض والمساعدات. كما أنه يريد من المنظمات غير الحكومية أن تكون على شاكلة المنظمات المحليّة التابعة له أو المنظمات الإقليمية المأجورة، أي أن تتواطأ معه في انتهاك حقوق التونسيات والتونسيين، وهو ما لا تقبله تلك المنظمات غير الحكومية التي كسبت مصداقيتها بما تتحلى به من استقلالية وحيادية، حتى لو كانت مواقفها قابلة أحيانا للنقد في بعض القضايا العربية والدولية فهي منظّمات غير معصومة من الخطأ وخاضعة بهذه الدرجة أو تلك لموازين القوى داخلها وقابلة للتطوّر خصوصا أنها محكومة بمبادئ وقوانين أساسية واضحة، وليس أدلّ على ذلك من الدور المركزي الذي تقوم به هذه المنظمات اليوم في ملاحقة مجرمي الحرب الصهايينة.
أما الطرف الأجنبي الثاني المقصود فهو إعلاميون عرب وغربيون جاؤوا إلى تونس بمناسبة الانتخابات للتحقيق في الظروف التي تجري فيها ولاستجلاء أراء النخب المعارضة والمستقلّة والمسؤولين الرسميين والمواطنين العاديين في الأوضاع العامة في البلاد وفي هذه الانتخابات بالذات وهؤلاء الإعلاميين ليسوا من صنف المرتزقة الذين تستجلبهم وكالة الاتصال الخارجي الرسمية ليأكلوا ويشربوا ويتجوّلوا ويتسلّموا الهدايا مقابل نشر مقالات أو بث تعليقات، غالبا ما تحرر لهم على عين المكان، لتمجيد نظام بن علي ولكنّهم إعلاميون محترفون يحترمون مهنتهم ويرفضون أن يتلاعب بهم أيّ كان. وقد سجّلوا في مراسلاتهم وكتاباتهم ما رأوه وما سمعوه بأنفسهم من قلق التونسيات والتونسيين على مستقبلهم ومستقبل بلادهم وتبرّمهم من انتشار ظاهرة الفساد وتعمّق الفوارق الاجتماعية وتفاقم البطالة وغلاء المعيشة علاوة على لا مبالاتهم إزاء الانتخابات التي أكّدوا أن نتائجها معلومة مسبقا... وقد كان هذا الكلام منافيا للصورة الزائفة التي يقدّمها الرسميون وأن يكتفوا بنقل ما يقولونه لهم. وهو ما أثار حفيظتهم لأنه كان بودّهم أن لا يقابل الإعلاميون غيرهم. وبالفعل فقد تعرّض هؤلاء الإعلاميون لضغوط شتى من أجل أن لا يقابلوا المعارضين والمستقلّين والمواطنين العاديين وفيهم من أطرد من المطار (مراسلة صحيفة لموند الفرنسية). كما أن فيهم من منعهم البوليس بالقوة من التحدث مع المارة (مراسلة "لوسوار" البلجيكية)، وفيهم أيضا من إفتكّت له سلطات المطار بعض أجهزة الإرسال ممّا يضطرّه إلى المرور عبر القنوات التونسية لإخضاع مراسلته للرقابة (فرانس 24). وفي نفس الوقت تعرّض إعلاميون تونسيون إلى الاعتداء والاعتقال بسبب ما صرّحوا به لوسائل إعلام عربية وأجنبية.
لكن ذلك كلّه كان دون جدوى، فوسائل الاتصال أصبحت فالتة عن مراقبة أي نظام دكتاتوري بما وفّرته الأنترنت خصوصا من إمكانيات. لذلك لم يجد نظام بن علي بدّا من اتهام الإعلاميين الأجانب عربا وغربيين بالتدخل في الشأن التونسي لأنهم فضحوا البعض وليس الكل من مظاهر استبداده وفساده. وبطبيعة الحال فإن سلوك النظام هذا مختلف تماما مع الإعلاميين الذين يمجّدونه بمقابل في أغلب الأحيان فهو لا يعتبر ما يكتبونه أو ما يقولونه تدخلا في الشأن التونسي، بل إن وسائل الإعلام التونسية تعيد نشره أو بثّه ويستشهد به المسؤولون ك"دليل" على "النجاحات العظيمة" التي حققها "العهد الجديد". وبعبارة أخرى فإن حجّة التدخل في الشأن التونسي لا تستخدم إلاّ حين يتعلّق الأمر بنقد وسائل الإعلام الأجنبية لمساوئ نظام الحكم، أمّا التطبيل و"التزمير" فهو مطلوب دائما وشعار السلطة هو "هل من مزيد"، لأنها سلطة تعادي الحقيقة ولا ترى في الإعلام إلاّ أداة للدعاية والتظليل.
ويتمثّل الطرف الأجنبي الثالث في أحزاب ديمقراطية وتقدمية عربية وغربية هي في الغالب ذات توجّهات يسارية عبّرت عن مساندتها لضحايا القمع في تونس وللشعب التونسي بأسره في ما يعانيه جرّاء الاستبداد. وكانت هذه الأحزاب تعاطفت مع أهالي الحوض المنجمي في وقت سابق وهي لم تفعل سوى واجبها تجاه قضايا عادلة فالتضامن بين القوى السياسية في العالم أمر عاديّ، ولولا مثل هذا التضامن لما عرفت، مثلا حركة التحرر الوطني في تونس، قبل 60 عاما ما عرفته من زخم. لكن بن علي يزن الأمور بمكيالين فالأحزاب اليمنية الرجعية التي تساند نظامه، لا يتّهمها بالتدخّل في الشأن التونسي، بل يقع التهليل بمواقفها وتنشر في الصّحف وتبثّ في مقدمات النشرات الإخبارية التلفزية والإذاعية وتقدّم على أنها علامة من علامات "نجاح" تونس بقيادة "صانع التغيير"، مع العلم أن هذه الأحزاب هي التي غالبا ما تتدخل في الشأن التونسي لأنها تقف وراء الحكومات التي تنهب تونس وتدعم نظام الحكم فيها وتساعده على الاستبداد بالشّعب التونسي وإبقائه تحت السيطرة.
تلك هي الأطراف الأجنبية إذن التي يتهمها بن علي "بالنيل من سيادة تونس" وهي كما رأينا منظمات غير حكومية، وإعلاميون مستقلّون وأحزاب ديمقراطية وتقدمية، وقد وقفت هذه الأطراف بهذا القدر أو ذاك إلى جانب الحقيقة ودافعت عن حقوق الشعب التونسي، كلّها أو بعضها كلّ حسب اهتماماته أو اختصاصاته. ومن هذا المنطلق فهذه الأطراف لا يمكن اعتبارها معادية لتونس وشعبها بمجرد أنها انتقدت نظام بن علي، فهذه خديعة لا يمكن أن تنطلي على أحد. إنّ ما يحرّك نظام بن علي هو أنه يريد في الواقع الانفراد بالشعب التونسي وبقوى المعارضة الديمقراطية في تونس ولا يريد أن يكون لهما أي سندا في الخارج، لذلك فهو يتوتّر حين يلاحظ أن الأمور تسير لغير صالحه في الساحة الدولية وأن عزلته تتزايد، فلا يجد بدّا من الاتكاء على مبدأ "السيادة الوطنية" للتصدي للأصوات الحرة التي تنتقد لأسلوبه الديكتاتوري التسلّطي في معاملة الشعب التونسي.
إنّ ما زاد نظام بن علي توترا هو أن النقد الموجّه إليه لم يقتصر هذه المرة على الأطراف التقليدية المناصرة للحريات وحقوق الإنسان بل إنه تجاوزها ليشمل أصدقاءه الذين يساندونه في العادة ويدعمونه ويغطّون انتهاكاته. فقد عبّرت وزارة الخارجية الأمريكية عن "انشغالها" بالظروف التي دارت فيها الانتخابات خصوصا أنّ السلطات التونسية لم تستدع جهات دولية محايدة ومستقلة لمراقبتها. أمّا وزارة الخارجية الفرنسية فإنها لم تثرْ موضوع الانتخابات، خصوصا أن ساركوزي، الصديق الشخصي لبن علي كان إلى جانب رئيس الحكومة الإيطالي برلوسكوني المتخبّط منذ مدة في قضايا فساد، من بين المسؤولين الغربيين القلائل الذين هنّأوه ب"النجاح الباهر" ولكنّها عبّرت تحت ضغط وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية (مراسلون بلا حدود خصوصا ) وعدد من البرلمانيين الفرنسيين والأوروبيين والأحزاب السياسية عن "قلقها" حيال "المصاعب" التي تعترض الصحافيين التونسيين في إشارة إلى اعتقال توفيق بن بريك وزهير مخلوف والاعتداء على سليم بوخذير ولطفي حجّي وغيرهم. وإلى جانب وزارة الخارجية عبّر رئيس بلدية باريس الاشتراكي "برتراند دولانوي"، وهو واحد من أهمّ أصدقاء النظام التونسي، عن "انشغاله" بتدهور أوضاع الحريات وحقوق الإنسان في تونس وأخيرا أفصح وزير الخارجية البلجيكي في ردّ على سؤال موجّه إليه من أحد أعضاء مجلس الشيوخ ، عن أنّ أوضاع الحريات في تونس سيئة وأن الانتخابات لم تجر في ظروف مناسبة.
لا بدّ من ملاحظة أن هذه الانتقادات لم تصدر تلقائيا، بل كانت كلّها تقريبا إجابة على انشغالات الرأي العام في البلدان المعنية كما أنها، عدا رد وزير الخارجية البلجيكي تمّت بطرق "غاية في الدبلوماسية" فالخارجية الأمريكية أكّدت أن "انشغالها" بما جرى في الانتخابات لن يمنع الولايات المتحدة من مواصلة العمل مع النظام التونسي الذي تعتبره حليفا استراتيجيا في المنطقة. أما وزير الخارجية الفرنسي، فهو يدبّج في كل مرة انتقاداته ب"تثمين المكاسب" التي حققها نظام بن علي، ثم لا ينبغي أن ننسى أن تدخلات المسؤولين الأوروبيين في ملف الحريات وحقوق الإنسان في تونس له "إطار قانوني وشرعي". فاتفاقية الشراكة التي وقعها بن علي مع الاتحاد الأوروبي (وهي اتفاقية يرفضها حزب العمال الشيوعي التونسي لطابعها الاستعماري الجديد) تنصّ في بندها الثاني على أن الطرفين الموقعين يلتزمان باحترام حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية وهو ما يخوّل لكلّ منهما التدخّل في حالة إقدام أحدهما على انتهاكها.
إن بن علي إذن، وليس المعارضة التونسية، هو الذي أجاز للأوروبيين التدخّل في الشأن التونسي مقابل منافع اقتصادية (قروض ومساعدات...) ولكنّه، مثلما يبيّن سلوكه إلى حد الآن، يحاول في كلّ مرة، التمتّع بهذه المنافع، دون الالتزام بالبند الثاني المتعلّق بالحريات وحقوق الإنسان لأنه ليس في صالحه.
لقد كان ردّ بن علي على هذه الانتقادات وخصوصا الصادرة منها عن الجانبين الفرنسي والبلجيكي، متوتّرا. وكالعادة استخرج من جرابه حجّة "التدخّل في الشأن الوطني" للتشهير بمنتقديه. إنّ قمع الصحافيين والناشطين السياسيين والحقوقيين والتزوير المنهجي للانتخابات لإعادة إنتاج الرئاسة مدى الحياة، هما "شأن تونسي داخلي"، ليس لأيّ كان "التدخل فيه" ولكن حين يتخذ هذا التدخّل شكل المساندة والمديح والإطراء، فإنّ طريقة التعامل معه تتغيّر، فلا يعتبر ذلك تدخّلا في الشأن الوطني فيقع الترحيب به وإعلانه على رأس الملأ. إن البرقية التي أرسلها العقيد القذافي مثلا إلى بن علي ليؤكّد له فيها مساندته الشخصية ومساندة الشعب الليبي لترشحه لولاية خامسة، لم تعتبر تدخلا في الشأن التونسي، بل وقع إشهارها في كافة وسائل الإعلام، وليتصوّر المرء لو أنّ تلك البرقية وجّهت إلى أحد رموز المعارضة، فهل كانت ستردّ عله السلطة بغير التشهير والتجريم وربّما الاعتقال وتلفيق القضايا.
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أمر آخر وهو أن السلطة تريد احتكار المجال الديبلوماسي لنفسها، أيضا، فهي لا تريد أن يكون لأي حزب معارض أو جمعية مستقلّة، صلة، بالسلك الديبلوماسي في بلادنا، الغربي خاصة، الذي تربطه اتفاقيات بنظام الحكم، وليس ذلك من باب "الغيرة" على الوطن وعلى "إستقلالية قراره"، بل كلّ ما في الأمر أنّ السلطة تريد احتكار هذه الصلة حتى تبلغ ما تريد وتزوّر الحقائق على هواها، كأن تزعم مثلا أنّ أحداث الحوض المنجمي في العام الفارط من "صنع حفنة من المشاغبين" أو أنّ البوليس التونسي لا يمارس التعذيب وأن من يدّعي عكس ذلك فهو "كاذب" و"متطرّف" أو أن الأزمة التي تعيشها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان "أزمة داخلية سبّبها تيار يساري متطرّف"، أو أنّه "لا وجود لمساجين سياسيين في تونس" أو "أن التونسيين يعيشون في بحبوحة"، الخ.
كما أنه لا ينبغي الاعتقاد أنّ ما تثيره السلطة من جعجعة حول "التمويل الخارجي" لبعض الجمعيات مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أو الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، نابع من حرصها على "نبذ التبعية" و"الحفاظ على سيادة البلاد". فكما بيّنا فإن السلطة هي التي تغرق البلاد في التبعية على كافة المستويات. ثمّ إن هذه التمويلات المخصّصة ل"دعم المجتمع المدني" هي جزء من اتفاقية الشراكة مع أوروبا، التي أمضى عليها نظام بن علي. والأهم من ذلك هو أن الجزء الأكبر من هذا التمويل، الذي هو محلّ جدل، والحق يقال، في صلب الحركة الديمقراطية التونسية، يذهب إلى الجمعيات والمنظمات الصورية التابعة للسلطة، والتي لا يتورّع بعضها حتى عن قبول التمويل من البنتاغون (الاتحاد النسائي). إنّ ما تعارضه السلطة ليس "مبدأ التمويل الخارجي" ولكن هو أن تحصل عليه منظمات مستقلّة، خارجة عن مراقبتها، فيتدعّم نشاطها وتزداد إستقلالية عنها، لأنّ التجربة أن حصول بعض الجمعيات المستقلّة عن دعم مادي لم يغيّر شيئا في مواقفها المبدئية في القضايا الداخلية وخاصة الخارجية (فلسطين، العراق، لبنان، أفغانستان...). إنّ نظام بن علي الذي يحرم هذه الجمعيات من التمويل العمومي في الداخل رغم أنه حقّ من حقوقها، يريد أن يحرمها أيضا من التمويل الخارجي ضمن الاتفاقيات التي أبرمها هو بنفسه، من أجل خنقها والقضاء عليها عبر حصار متعدد الأشكال.
ومهما يكن من أمر فإنّ الاستنتاج الذي يمكن الخروج به من الانتقادات الرسمية الغربية ومن ردّ فعل السلطة المتوتر عليها، هو أنّ نظام بن علي أصبح يحرج حتى حلفاءه بل حماته في الساحة الدولية، ولا يمكن أن يكون ذلك سوى مصدر قلق إضافي في الظرف الحالي لبن علي وبطانته، فهم يخشون تضافر العوامل الداخلية (التذمّر الشعبي، تطوّر المعارضة السياسية والمدنية...) مع العامل الخارجي (تفاقم العزلة الدولية) لإسقاط حساباتهم. إنّ شغلهم الشاغل في الوقت الراهن هو الحفاظ على الحكم. وهو ما يفسّر توترهم الحالي ونزوعهم، إلى تشديد القمع السياسي في الداخل، أما على الصعيد الخارجي فليس من المستبعد أن تلجأ السلطة بعد "الشوشرة" التي أقامتها إثر تصريحات الخارجيتين الفرنسية والبلجيكية إلى تقديم المزيد من التنازلات للقوى الغربية الرئيسية في المجالين الداخلي (امتيازات جديدة للرأسمال الأجنبي) والخارجي (انخراط أكثر في مشاريعها الهيمنية بالمنطقة) لاحتواء انتقاداتها وكسب تأييدها، وكالعادة سيكون الشعب التونسي هو الخاسر الأكبر.
"الوطنيون الجدد": متاجرة بالقضايا الوطنية في سوق الاستبداد
شارك قادة أحزاب الديكور منذ البداية، وبإيعاز من وليّ نعمتهم في الحملة على رموز الأحزاب والجمعيات والمنظمات المستقلّة التي رفضت الانخراط في المهزلة الانتخابية ودعت بالخصوص إلى مقاطعتها وعدم الاعتراف بنتائجها، ووصفوا هؤلاء الرموز بنفس الصفات التي وصفتهم بها السلطة، بل إنّهم كانوا يعيدون بالضبط الكلمات والعبارات التي تستعملها: "عملاء"، "استقواء بالأجنبي"، " الإساءة للوطن"، "المتاجرة بحقوق الإنسان"... كما أنّهم وصفوا الأطراف الخارجية من وسائل إعلام ومنظمات غير حكومية وشخصيات رسمية انتقدت الأجواء التي تمّت فيها الانتخابات ب"الاستعماريين الجدد" و"الحاقدين"، الخ. لقد بدوا وكأنهم يقرؤون أو ينسخون نفس البيان المسلّم لهم من وزارة الداخلية أو القصر أو وكالة الاتصال الخارجي. وهذا السلوك ليس غريبا أو جديدا بالنسبة إلى أحزاب الديكور التي كوّنت السلطة بعضها (الحزب الاجتماعي التحرري، الإتحاد الديمقراطي الوحدوي، حزب الخضر للتقدّم) و"طهّرت" بعضها الآخر من عناصره المستقلّة لإخضاعه بالكامل وتحويله إلى قطعة من قطع الديكور (حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، حزب الوحدة الشعبية...). لقد أصبحت هذه الأحزاب جزءا لا يتجزّأ من نظام الاستبداد، ووجودها مرتبطا عضويا بوجوده. فهو يستعملها واجهة ديمقراطية لتجميل صورته، وهي تتمعّش منه (مقاعد في البرلمان، مناصب في المؤسسات العمومية وفي الإدارة، منح وقروض لبعث مشاريع شخصية...) وهو ما جعل هذه الأحزاب تدافع بكلّ ما لديها من جهد عن نظام بن علي، لأنّها تدرك أن نهايته تعني حتميّا نهايتها هي أيضا.
وقد جرت العادة بأن لا تتحرّك أحزاب الديكور هذه إلا بإيعاز من السلطة. فهي تصدر بيانات ويقوم "قادتها" بتصريحات لوسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية، كلّما ألقى بن علي خطابا ل" تثمين مضامينه الرائدة" كما أنها تصدر بيانات كلما طلب منها للتهجّم على هذا الحزب أو ذاك من أحزاب المعارضة المستقلة أو على هذه المنظمة أو تلك من منظمات المجتمع المدني "الخارجة عن الصفّ" وهي تحضر إل جانب ذلك في المناسبات الرسمية وتشارك في المهازل الانتخابية لينافس بعضها بعضا على فتات المقاعد الراجع إليها والذي يوزّع عليها حسب درجة الولاء. وهي دائما شاكرة لنعمة بن علي. وقد كانت مشاركتها في حملة "التخوين" التي استهدفت رموز الأحزاب والجمعيات المستقلة تندرج في صلب دورها في الديكور الديمقراطي أي الدفاع عن نظام الاستبداد وتجميل صورته.
ولكن هذه الأحزاب، أي أحزاب الديكور فاجأت الرأي العام في تونس بعد انتهاء المهزلة الانتخابية الأخيرة بأن أثارت زوبعة عنوانها "مطالبة فرنسا بالاعتذار والتعويض لتونس على فترة الاستعمار". ومثّل أحمد الأينوبلي الأمين العام للاتحاد الديمقراطي الوحدوي وعضو مجلس المستشارين والمرشح " التيّاس" في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أوّل من أثار هذه الزوبعة ثمّ تلاه زملاؤه، قادة أحزاب الديكور الآخرون ليردّدوا نفس "الملزومة" التي لقنها لهم بعض الموظفين في القصر. وبطبيعة الحال لم يكن خافيا على أحد أن الأينوبلي لم يتحرّك من تلقاء نفسه بل وقع تحريكه كما يحرّك البيدق، وكانت الرسالة الموجهة إلى الحكومة الفرنسية وبالخصوص إلى وزير خارجيتها هي التالية "أنتم تثيرون ملف حرية الإعلام وحقوق الإنسان عامة في تونس لتحرجونا به، فها نحن نثير لكم موضوع الاستعمار الفرنسي لتونس لنحرجكم به" أمام الرأي العام في تونس. وسرعان ما نظمت جريدة "الشروق" الموالية ندوة مغاربية حول "الاعتذار والتعويض" وأعطيت تعليمات لوسائل الإعلام الأخرى كي "تهتمّ بالموضوع" وتغطّي على الانتقادات الخارجية "للانتخابات" وتحاول مغالطة الرأي العام وإقناعه بأن الأطراف الفرنسية، وسائل إعلام ومنظمات غير حكومية وشخصيات رسمية، التي تستنكر قمع الصحفيين في تونس، يحرّكها "الحنين للحقبة الاستعمارية".
إن ما يؤكد أن الغاية من إثارة موضوع "الاعتذار والتعويض" هي في الأساس سياسوية وبعيدة كل البعد عن الجدية أي عن المطالبة الحازمة لفرنسا كي تعترف بما ألحقته بوطننا وشعبنا من أضرار وتقدّم تعويضات عن ذلك، هو تكليف أحمد الأينوبلي بالذات لإثارة هذا الموضوع والحال أن القاصي والداني يعرف أنه لا يتمتع بأية مصداقية. ولسائل أن يتساءل لو كان الأمر جدّيا فلماذا لم يتحمّل بن علي نفسه أو البرلمان إثارته بصورة رسمية؟ لماذا خيروا أن يثيره الأينوبلي أوّلا وفي ندوة صحفية وليس في البرلمان أو مجلس المستشارين ثانيا؟ لماذا لم يتقدّم الأينوبلي بمشروع قانون عن طريق نواب حزبه في البرلمان، يدين الاستعمار الفرنسي ويطالب الدولة الفرنسية بالاعتذار والتعويض على غرار ما تفعله "جبهة التحرير في الجزائر"؟ إننا واثقون بأن ما قام به الأنوبلي لا يعدو أن يكون زوبعة في فنجان وستهدأ هذه الزوبعة حالما يهدأ "الجوّ" بين بن علي والخارجية الفرنسية، وقتها سيتلقّى الإينوبلي تعليمات بأن ينسى الموضوع في انتظار "مهمّة جديدة" والواضح أنه نسيه لأننا لم نعد نسمع صوته بالمرة هذه الأيام.
وفوق ذلك لو كان الإينوبلي وقادة أحزاب الديكور وطنيين، جادين، فلماذا لم تظهر عليهم هذه الوطنية في قضايا سابقة أو حتى راهنة، حتى يقنعونا بأن إثارتهم لمسألة "الاعتذار والتعويض" تندرج ضمن خطّ سياسي وطني عام. إن الجميع يعرف أنّ أحزاب الديكور التي أدخلها بن علي إلى البرلمان، صوّتت دائما ودون تحفّظ على كافة المشاريع والقرارات المتعلّقة بهدر خيرات بلادنا وثرواتها لفائدة أصحاب الرأسمال الأجنبي بمن فيهم الرأسماليون الفرنسيون الذين يملكون، من جملة ما يملكون، أكثر من 1100 شركة من بين ال 3 آلاف شركة أجنبية المنتصبة في بلادنا، كما أنهم صوّتوا دائما على القروض الخارجية التي أغرقت بلادنا في التداين وربطتها بألف خيط وخيط بالمراكز الإمبريالية الغربية؟ إنّ الاستعمار الفرنسي لتونس لم ينته، بل اتخذ شكلا جديدا فقط. وإلى ذلك كلّه لو كان الإينوبلي "ولد أمّو" و"نائبا عن الشعب بأسره" وأخذته بحق "الغيرة على تونس" من تدخّل وزير الخارجية الفرنسي، فلماذا لم يطالب الحكومة التونسية، أو على الأقلّ التونسيين بمقاطعة المصالح الفرنسية في تونس مثلا، مقاطعة "كارفور" أو "جيون" أو "شمبيون" أو "بريكوراما" أو "مونوبري" ليوم واحد حتى لا نقول لمدّة أسبوع أو أسبوعين؟ ألم يفعل الصينيون ذلك لمّا اعتدى مهاجرون "تيبيتيون" على بطلتهم الأولمبية المعاقة، عندما كانت تحمل بيدها، وهي في كرسيّها المشعل الأولمبي، بفرنسا؟ إن الأينوبلي أعجز من أن يفعل ذلك، لا لأنه غير مؤمن بالقضية بل خوفا على جلده من أصحاب المغازات المذكورة في تونس، وهم من أفراد "العائلات المتنفّذة". ثمّ أين كان "القومي العربي الفذّ" أحمد الإينوبلي وغيره من قادة أحزاب الديكور عندما فتح بن علي عام 1996 مكتبا للكيان الصهيوني بتونس؟ لماذا لم يثيروا هذا الموضوع في البرلمان؟ ولماذا هم لا يثيرون حتى اليوم موضوع "التطبيع" مع الكيان الصهيوني لا في مجلس النواب ولا في مجلس المستشارين ولا في بياناتهم ولا في صحافتهم؟ ماذا كان موقفهم عندما استدعى بن علي مجرم الحرب أرييل شارون لحضور القمة العالمية لمجتمع المعلومات بتونس عام 2005؟ ثمّ لمّا عوّضه وزير خارجيته الذي حلّ بجربة في طائرة يرفرف عليها علما إسرائيل وتونس؟ وماذا كان موقفهم أيضا من كلّ الذي مارسه ويمارسه نظام بن علي على الشعب التونسي كي يمنعه من التعبير عن تضامنه مع أشقائه في فلسطين والعراق ولبنان؟ هل سمعناهم ينتقدون الحكومة يوما لأنّها لا تعتبر ما يجري في العراق وأفغانستان احتلالا؟ وهل سمعناهم يوما انتقدوها على موقفها المتخاذل المتواطئ مع العدوان الصهيوني على لبنان (2006) وعلى غزة (2008-2009)؟ لماذا لم يثرْ الإينوبلي وهو عضو مجلس المستشارين، معايدة زميله "روجي بيسميث" على شارون، ومساهمته في مؤتمر "البرلمانيين اليهود" بالقدس؟ هل أنّ "بيسميث" تونسي أم إسرائيلي؟ إنّ هذه الأمثلة وغيرها كثير، تبيّن أنه لا الإينوبلي ولا قادة أحزاب الديكور الآخرون قادرون على تحمّل الهموم والمشاغل الوطنية والقومية للشعب التونسي، وهم ليسوا مؤهلين لإعطاء دروس في الوطنية لأيّ كان ولا لمطالبة فرنسا ب"الاعتذار والتعويض" على الماضي الاستعماري.
وفي الختام
إنّ القوى الوطنية الحقيقية في تونس اليوم هي تلك التي تقف في وجه نظام بن علي الاستبدادي دفاعا عن حقوق الشعب التونسي السياسية، إيمانا منها بأنّ الاستبداد هو أكبر عائق اليوم أمام نهوضه، وهو الذي يحكم عليه بالتخلّف ويشوّه سمعة تونس في العالم. وهي تلك التي تناضل أيضا من أجل تحرير تونس من شرك التبعية التي أوقعها فيه الاستبداد مما أبقاها مستعمرة جديدة تنهبها الدول والشركات الرأسمالية الأجنبية. وأخيرا وليس آخرا، هي تلك القوى التي تناضل من أجل "خبز" الشعب وكرامته في وجه الأقليات المافيوزية الناهبة. إنّ هذه القوى الوطنية هي القادرة على تحقيق استقلال تونس والنهوض بشعبها، وهي القادرة أيضا على مطالبة فرنسا "بالاعتذار والتعويض" عن ماضيها الاستعماري وفرض ذلك عليها.
لا ولاء لتونس إلا بالولاء لشعبها،
ولا ولاء للشعب التونسي إلا بالولاء لحقّه في الحرية والديمقراطية
ولا حرية ولا ديمقراطية للشعب دون القضاء على الاستبداد، ولا قضاء على الاستبداد دون القضاء على المصالح الأنانية والضيقة للفئات المافيوزية المحلية التي تسنده.
فهل تدرك القوى الديمقراطية والوطنية أن الوقت قد حان لتجاوز حالة التشتّت التي عليها وتوحيد الصفّ من أجل التصدّي للطغيان؟

س.ب.ع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.