لقد عرفت الشيخ عبد الفتاح مورو وأنا صغير لم يتجاوز عمري السادسة عشر, عرفته يوم زار مسجدنا مسجد الرحمة صحبة إخوة له منهم الأستاذ احميدة النيفر للدعوة بقريتنا قرية جبل الخروبة لاكانيا, تلك القرية الصغيرة والفقيرة المحاذية للحي الراقي 'بالفى' والذي كانت تقطنه في عهد الاستعمار كبار الشخصيات الفرنسية وكبار التجار وبعض المناضلين السياسيين فى عهد الاستقلال, وقد عانت قريتنا فى بداية الاستقلال من ظلم زرق العيون وتعسفه فقد أذل رجالها لما عرفت به آنذاك من تأييدها للزعيم صالح بن يوسف الذى كان يقطن بمونفلري غير بعيد منها, وكان ذلك فى بداية السبعينات, أذكر أننا يومها كنا نلعب كرة القدم ببطحاء "بلخوجة" تلك البطحاء الشاسعة, والقريبة من مسجد قريتنا, فيأتينا نفر من الشباب من بينهم علي الجلاصي شقيق صديقنا نور الدين الجلاصى قائد فريقنا لكرة القدم, ليطلبوا منا بكل أدب أن نتوقف عن اللعب لنستمع إلى كلمة قصيرة منهم, فاستجبنا لطلبهم وتوقفنا عن اللعب, واستمعنا إلى ما قاله بعضهم, فكان كلامهم مرهبا ومرغبا, دعوننا لحضور صلاة المغرب والاستماع لدرس سيلقى بالمسجد, فتوقفنا عن اللعب وصاحبناهم إلى المسجد ليعلموننا الوضوء وكيفية أداء صلاة المغرب, فانتظرنا إلى حين أذان الصلاة, وأدينا صلاة المغرب فى جماعة وكانت أول مرة أدخل فيها المسجد وأصلى فيها, وأحمد الله على ذلك, وإثرها قام شاب عليه سمات الوقار, يلبس جبة ويتعمم بعمامة بيضاء على عادة علماء الزيتونة ليلقي على مسامعنا درسا فى الإيمان, كان خطابه موجها إلى الشباب, يخاطب الوجدان ويستفز العقول ويداعب الأرواح ويمزج بين الجد و الهزل وتتخلل كلاماته بين الحين والآخر الطرفة الهادفة ويعقد المقارنات الذكية بين واقع شباب تونس فى ذلك العهد وواقع شباب الصحوة الإسلامية الأولى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسلوبه النقدي الممتع, فقد أثر آنذاك في نفسي تأثيرا قويا , وأحدث فيها نقلة نوعية شعرت معها وكأنني أولد من جديد, وهبت على قلبي نسمات الإيمان والحرية ومنذ ذلك الحين صرت مصاحبا له فى الخروج للدعوة, ومتعلقا به شديد التعلق أحضر معه حلقة التعليم بجامع سيدي يوسف ولما اعتلى منبر جامع سيدي يوسف كنت لا أتغيب عن صلاة الجمعة خلفه, وكنا نحضر معا مرة فى الأسبوع لحلقة الإملاء بجامع الزيتونة التي كان يقدمها المقرئ الفاضل الشيخ الخطوي وإثرها الدرس الذي كان يلقيه الشيخ الفاضل أحمد بن ميلاد وكان هذا الأخير إذا تغيب أو اضطرته ظروف طارئة للتغيب, يعوضه الشيخ عبد الفتاح مورو فكانت دروس الشيخ عبد الفتاح مورو تشد السامعين من شيب وشباب وكهول لما يجدون فيها من تناول لمشاكلهم ومن تقديم للحلول المناسبة لها, من خلال ما كان يطرحه شيخنا من سيرة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسير أصحابه الكرام البررة وسير العلماء والصالحين والمصلحين من مشائخ تونس وقد كان الشيخ عبد الفتاح مورو موسوعة فى ذلك وقد امتاز الرجل بخفة روحه وطرافة دعابته ومزحه المقبول و المفيد والفاعل والمؤثر أسوته فى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كان يمزح ولا يقول إلا حقا, وكان فى تناوله لكل المواضيع التى يطرحها مشخصا للأمراض تشخيصا دقيقا قائما على العلم و المعرفة بأحوال الأفراد والمجتمع, فحين تستمع إليه تحس وكأنه يحكى عنك ويطرح مشكلتك ويعبر عما فى ضميرك وضمير الشعب بل وفي ضمير الأمة من مشاكل وماسي وهموم وأحزان وكان لا يكتفي بذلك بل يطرح الحلول مستفيدا فى كل ذلك من مهنة القضاء التى كان يباشرها, وقد كان فى خطبه دائما يؤكد على أهمية توحيد الصف لمواجهة المشكلات الاجتماعية والسياسية واعتماد الحوار الهادئ لإيجاد الحلول لها ,ولما بدأ التضييق على العمل الدعوي وأدرك أهمية الشباب فى عملية النهضة والتغيير الاجتماعي أسس مع ثلة من مشائخ الزيتونة جمعية المحافظة على القران الكريم آنذاك لتكون مركزا لنشر الثقافة العربية الإسلامية فى صفوف الشباب فقد أدرك مبكرا طبيعة النظام البورقيبي الفرنكوفوني الاستبدادي و مخططاته الرامية الى تهميش المؤسسات الدينية وإقصائها عن العمل الجاد فى صفوف الشباب فبورقيبة منذ تسلم مقاليد الحكم عمل على إقصاء الإسلام من حياة التونسيين وتهميشه وعمل على تغريب كل مظاهر الحياة فى بلادنا لتصبح بذلك تونس مخبرا للغرب الاستعماري, ونموذجا حيا للتغريب, وكان مقرالجمعية بنهج سيدي بن عروس وانطلقت برامج عملها بندوات فكرية مخصصة للشباب يلقيها بعض من علماء جامع الزيتونة كالشيخ الحبيب المستاوي والشيخ راشد الغنوشي أستاذ الفلسفة آنذاك وغيرهم من أساتذة الجامعة الزيتونية كالأستاذ الجمالي والصيدلي صلاح الدين كشريد مترجم القران الكريم و غيرهم كثير ولما أحس نظام بورقيبة بخطورة هذه الحركة الثقافية على مشروعه التغريبي أحدث القطيعة بين مشائخ الزيتونة الذين كان يقودهم الشيخ الحبيب المستاوي من جهة والشيخ عبد الفتاح مورو والأستاذ راشد الغنوشي والأستاذ أحميدة النيفرمن جهة ثانية فقد كان الشيخ الحبيب المتساوي آنذاك يؤمن بإمكانية التغيير من داخل حزب بورقيبة , بينما كان الشيخ عبد الفتاح مورو واحميدة النيفر والشيخ راشد الغنوشي يعتبرون أن التغيير من داخل حزب بنيته الفكرية تقوم على مبادئ معادية لهوية الشعب غير ممكن وخاصة فى ظل حكم فردي منغلق ومستبد. وتم بعد ذلك إبعاد الشيخ عبد الفتاح مورو من عمله كقاض بالمحكمة الابتدائية بتونس فانخرط فى سلك المحاماة, وانتقلت المحاضرات التى كانت تلقى بمقر الجمعية إلى جامح صاحب الطابع بباب سويقة, وبدأ نشاط الدعوة يمتد وينتشر ليغطى مجالات عديدة ومساحات كبيرة, واستطاعت تلك الحركة الثقافية أن تستقطب الشباب والكهول من مختلف الأعمار, وتأسس للعمل النقابي الشبابي داخل الجامعة نواة إسلامية, فرضت وجودها رغم سيطرة اليسار علي الجامعة, كما استطاعت أن تكتسح الساحة العمالية وتقدم من خلال عناصرها نماذج فى العمل النقابي المخلص لحقوق الطبقة الشغيلة و مشاغلها.