في الرياض: وزير السياحة يجدّد التزام تونس بتطوير القطاع ودعم الابتكار السياحي    أستاذ يثير الإعجاب بدعوة تلاميذه للتمسك بالعلم    عاجل: الزّبدة مفقودة في تونس...الأسباب    صالون التقنيات الزراعية الحديثة والتكنولوجيات المائية من 12 الى 15 نوفمبر 2025 بالمعرض الدولي بقابس    سليانة: تقدم موسم البذر بنسبة 30 بالمائة في ما يتعلق بالحبوب و79 بالمائة في الأعلاف    عاجل: هبوط اضطراري لتسع طائرات بهذا المطار    ''واتساب'' يُطلق ميزة جديدة للتحكم بالرسائل الواردة من جهات مجهولة    عاجل/ طائرات حربية تشن غارات على خان يونس ورفح وغزة..    تنمرو عليه: تلميذ يفجر معهده ويتسبب في اصابة 96 من زملائه..ما القصة..؟!    31 قتيلا في أعمال عنف داخل سجن في الإكوادور    الأهلي بطل للسوبر المصري للمرة ال16 في تاريخه    كميات الأمطار المسجّلة خلال ال24 ساعة الماضية    الرابطة الثانية: برنامج مباريات الجولة التاسعة    نهاية موسم لاعب المنتخب الوطني    بطولة فرنسا: باريس سان جرمان يتغلب على ليون وينفرد بالصدارة    تصريحات مثيرة داخل النادي الإفريقي ...هذا شنوا صاير    بنزرت: وفاة توأم في حادث مرور    عاجل-التواريخ الهامة القادمة في تونس: ماذا ينتظرنا؟    فتح باب الترشح لمسابقة ''أفضل خباز في تونس 2025''    البرلمان يناقش اليوم ميزانية الداخلية والعدل والتربية والصناعة    ما خلصّتش الكراء... شنوّة الإجراءات الى يعملها صاحب الدّار ضدك ؟    عاجل: غلق 3 مطاعم بالقيروان...والسبب صادم    إنتر يتقدم نحو قمة البطولة الإيطالية بفوز واثق على لاتسيو    بطولة اسبايا : ثلاثية ليفاندوفسكي تقود برشلونة للفوز 4-2 على سيلتا فيغو    تونس: 60% من نوايا الاستثمار ماشية للجهات الداخلية    تأجيل محاكمة رئيس هلال الشابة توفيق المكشر    عاجل/ نشرة تحذيرية للرصد الجوي..وهذه التفاصيل..    عاجل: عودة الأمطار تدريجياً نحو تونس والجزائر بعد هذا التاريخ    حسين الرحيلي: حلول أزمة قابس ممكنة تقنياً لكن القرار سياسي    علاش فضل شاكر غايب في مهرجانات تونس الصيفية؟    أضواء الشوارع وعلاقتها بالاكتئاب الشتوي: دراسة تكشف الرابط    لن تتوقعها: مفاجأة عن مسكنات الصداع..!    دواء كثيرون يستخدمونه لتحسين النوم.. فهل يرتبط تناوله لفترات طويلة بزيادة خطر فشل القلب؟    أفضل 10 طرق طبيعية لتجاوز خمول فصل الخريف    شنيا الحاجات الي لازمك تعملهم بعد ال 40    أمطار صبحية متفرقة لكن.. الطقس في استقرار الأيام الجاية    زيلينسكي: لا نخاف أميركا.. وهذا ما جرى خلال لقائي مع ترامب    عاجل/ فاجعة تهز هذه المعتمدية..    محمد صبحي يتعرض لوعكة صحية مفاجئة ويُنقل للمستشفى    رواج لافت للمسلسلات المنتجة بالذكاء الاصطناعي في الصين    مجلس الشيوخ الأمريكي يصوت لصالح إنهاء الإغلاق الحكومي    الشرع أول رئيس سوري يزور البيت الأبيض    السينما التونسية حاضرة بفيلمين في الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بمدينة تيميمون الجزائرية    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    أمطار متفرقة ليل الأحد    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سلوك الإنسان أساس التغيير بقلم أسماء قائد السبسي
نشر في الحوار نت يوم 23 - 06 - 2011

العقيدة وما ينبثق منها من أحكام وما ينبني عليها من أفكار هي أساس التغيير..
سلوك الإنسان مربوط بما يحمله من مفاهيم. والمفاهيم هي قناعات ناتجة عن إدراكٍ للأشياء وخصائصها وعن ما يبنى على هذا الإدراك أو ينبثق عنه من قناعات أخرى.
والمفاهيم نوعان: الأول: مفاهيم عن الأشياء. وهي قناعات أو أحكام مصدرها الأشياء ذاتها. كقولنا: النار تحرق والسم يقتل والخمر يسكر، أو أن اللحم يؤكل والتراب لا يؤكل، أو أن كثرة الضغط تولد الانفجار، أو أن المجتمع مجموعة أفراد تربطهم علاقات دائمية، أو أن النهضة لا تكون إلا بالفكر المستنير. فهذه الأفكار أوصاف أو أحكام مصدرها موضوعها. وهي تكون صحيحة أو خطأ وذلك بحسب مطابقتها أو مخالفتها للواقع. وفي كل الحالات هي مفاهيم عند من يصدقها. وسلوك الإنسان مربوط بمفاهيمه عن الأشياء، فمن اقتنع أن طعامه مسموم فلن يتناوله وإن كان جائعاً. ومن كان عطشان فسيسعى إلى الماء لا إلى غيره، ومن أراد أن يسكر سيسعى إلى الخمر لا إلى الماء. النوع الثاني: مفاهيم عن الحياة، وهي قناعات أو أحكام مصدرها خارج عن موضوعها. كقولنا: الصلاة فرض والغش حرام والخمر حرام والقتل حرام...، فهذا الحكم ليس مصدره الشيء نفسه أو الفعل نفسه، وإنما هذا هو موضوعه أو الواقع المحكوم عليه ومصدر الحكم شيء آخر. فقولنا: الخمر يسكر هو صفة أو خاصية ذاتية للخمر، وهو حكم على الشيء بما فيه أو بما هو عليه. وقولنا: الخمر حرام ليس حكماً على الشيء بما فيه وإنما هو حكم من الله سبحانه الذي له أن يجعله حراماً وله أن يجعله مباحاً.
وسلوك الإنسان مربوط أيضاً بمفاهيمه عن الحياة، فإن كان مفهومه عن لحم الخنزير بأنه يؤكل، أي أنه قابل للأكل ويشبع الجائع. فهذا مفهوم عن الشيء. والمفهوم عن الحياة هو أن الخنزير حرام، أي أنه يجب أن يجتنبه. فمن أدرك هذا الحكم وصدقه، فهو حينئذٍ مفهوم لديه وسيؤثر في سلوكه ويمنعه من سد جوعته بلحم خنزير.
ومن كانت لديه مفاهيم أن الصنم له أثر في أمنه ورزقه وتوفيقه، أو أن بعض الأموات لهم هذا الأثر، فإنه سيعتريه شعور الرهبة والخشوع عند الأصنام، وسيستغيث بالأموات. على العكس ممن لا يصدق هذه الأمور، فلن يتوانى عن تحقير الأصنام وتخطئة المستغيثين بالأموات.
وهكذا فإن السلوك الإنساني مربوط بالمفاهيم عن الأشياء وبالمفاهيم عن الحياة. وما يلاحظ على بعض الناس أحياناً من ضعف هذا الربط فهو ناتج عن غفلةٍ عن هذه المفاهيم أو تغييبٍ لها وكأنها ليست مفاهيم له لأسباب عديدة تعرض للنفس. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبةً يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» (رواه البخاري).
ولذلك وجب لأجل تصحيح السلوك أو تقويمه إعادة الحقائق إلى الأذهان: حقائق الأشياء، والحقائق الشرعية من معتقدات وأحكام، والتذكير بها كي تكون مستحضرة ماثلة كي تؤثر في السلوك. قال تعالى: {وذَكِّر فإنّ الذكرى تنفعُ المؤمنين} (سورة الذاريات 55) على عكس الكافرين فإن تذكيرهم بالحقائق والمفاهيم الشرعية لا ينفعهم. فهم يسمعونها كأفكار ولكنها ليست حقائق بنظرهم، فهي ليست مفاهيم لهم، وبالتالي فلن تؤثر في سلوكهم.
فالمفاهيم عن الحياة تعيّن للإنسان كيف يعيش، فلا يكون همه أن يعيش، وإنما كيف يعيش، وليس همه أن يشبع حاجاته وإنما كيف يشبعها. ولذلك فالمفاهيم عن الحياة تجعل له طرازاً معيناً من العيش.
وبما أن المفاهيم عن الحياة مصدرها خارج عن الأشياء والأفعال ذاتها، فإنه لا يمكن أخذها إلا بعد الاقتناع بأن هذا المصدر له الحق أو الصلاحية أو السلطان بأن يحكم عليها، وأن أحكامه صحيحة.
والإسلام قد قرر أن الحاكم هو الله سبحانه وتعالى وأن مصدر الأحكام هو الوحي المنزَّل على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال تعالى: {إنِ الحكمُ إلا لله أَمَرَ ألاّ تعبدوا إلا إياه} (سورة يوسف 40) وقال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (سورة المائدة 44). وكل حكم غير حكم الله فهو طاغوت:{ألم تَرَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً} (سورة النساء 60).
فلا حكم للعقل أو للإنسان. وليس هذا سلباً لدورِ العقل أو حداً لقدراته، لأنه لا يملك الأدوات اللازمة للحكم، لأن هذا الحكم ليس مصدره الشيء أو الموضوع. فالذين جعلوا الحكم للشعب مثلاً لم يستندوا إلى دليل، وإنما تاهوا وضلوا، فحملوا مفهوماً غير صادق ولا واقع له، وجحدوا الحقيقة فقالوا بفصل الدين عن الحياة، ومعنى ذلك أن لا حكم لله.
وإذا أُعطيت صلاحية إصدار الأحكام للإنسان، وهو لا يملك أداة للحكم، فهو حينئذٍ لن يحكِّم إلا هواه وميوله ومصالحه حسبما يراها، وهي متغيرة ومتقلبة، وهو قد يرى المفسدة مصلحة وقد يرى الداء دواءً.
ومن هنا تأتي أهمية الإيمان بالله وبالنبوة وبالقرآن، فهذا الإيمان هو العقيدة التي تؤثر في السلوك، إذ تجعل عند الإنسان مفاهيم عن الحياة تعيّن له كيف يعيش، وغايته في الحياة، وغايته من سلوكه وهي أن ينال رضا الله عز وجل.
ومن هنا أيضاً تظهر أهمية أن تكون المفاهيم عن الأشياء وعن الحياة صحيحة صادقة، أي أن تكون حقائق. ويظهر أيضاً خطر عملية التجهيل والتضليل وتسويق المغالطات لإيجاد مفاهيم خطأ لدى الناس، وبذلك يقعون ضحية للجهل والضلال: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} (الكهف 103104). نعم يضل الأفراد وتضل الشعوب كما تضل سمكة في البحر حين تلتهم الطُعم، أو فأرةٌ أسرعت إلى طعام لها على مصيدة. ويتيه الإنسان ولا يصل إلى غايته حين يسير في طريق مقتنعاً بأنه يوصله إليها، وهو في الحقيقة يسير في الاتجاه المعاكس.
ويضل كذلك عندما يحمل مفاهيم خطأ عن الحياة نتيجة الجهل أو التحريف كمن يَرى أو يُورى أن الربا مباح، وأن الديمقراطية من الإسلام. أو أن تعلم الشريعة هو لأجل التكسب كغيره من الاختصاصات أو المهن. وعندما تُغَيَّب حقائق الإسلام وتُحشى الأذهان بأفكار خطأ كأفكار الحريات العامة، أو بأن تغيير الواقع المنحط مستحيل في جيلنا أو في مئات السنين، أو أنه مِنَّةٌ من الله لا يسعنا إلا أن ننتظرها قاعدين أو أن ننتظر المهدي. وبذلك يتحول الأفراد والشعوب أو الأمة إلى مجموعة كسالى خاملين يُساقون حيث يريد من يحمِّلهم هذه المفاهيم، وإلى أدوات لعدوهم وهم يظنون أنهم يحاربونه: {كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه} (سورة الرعد 14)، {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون} (سورة البقرة 17). ولذلك نكرر، أنه لأجل تغيير السلوك وتصحيحه وجعله سلوكاً صحيحاً راقياً وموصلاً إلى غايته، لا بد من إيجاد المفاهيم الصحيحة عن الأشياء وعن الحياة، وحينئذٍ يحسن الإنسان تسخير الأشياء وخصائصها بنجاح ويحسن السلوك الموصل إلى غايته وإلى غاية الغايات وهي نوال رضوان الله عز وجل: ]وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك[ (سورة القصص 77).
إن أُولى الحقائق وأهمها على الإطلاق هي العقيدة التي تعيّن للإنسان مفاهيمه عن الحياة، وهي أن الأشياء كلها مخلوقة لخالق هو الله سبحانه وتعالى، وأن الله أرسل رسولاً هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم برسالة الإسلام التي تبين كل ما يلزم الإنسان، وأنه تعالى سيحاسبه على الإيمان أو الكفر وعلى التقيد أو عدم التقيد بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
غاية المسلم في الحياة:
إن من أهم الحقائق بعد الإيمان أن يدرك الإنسان الغاية من خلقه، أي ما يجب أن يكون غاية له يسعى إلى تحقيقها. قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ} (سورة الذاريات 56). وعبادة الله هي الإيمان به وطاعتُه. وطاعته هي الالتزام بجميع أحكامه، وهي لا تقتصر على أعمال العبادات والأخلاق والمعاملات، بل إنها تتناول كل ما أمر الله به أو نهى عنه، وتتضمن أن لا معبود بحق إلا الله، ولا أمر ولا نهي لأحد سواه. روى أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ الآية:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً سبحانه عما يشركون} (سورة التوبة 31) فقال عدي: إنهم لم يعبدوهم. فقال صلى الله عليه وسلم: «بلى إنهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام، فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم».
وعلى ذلك فإن إعطاء حق التحليل والتحريم أو حق التشريع وحق الطاعة لأحد ما، هو عبادة له. قال تعالى: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إنِ الحكم إلا لله أمر ألاّ تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيِّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (سورة يوسف 40).
أما ما كان للحاكم أو الأمير أو الوالدين أو الزوج من حق الطاعة فذلك بجعل الله لهم هذا الحق. وعبادة الله تتضمن طاعته في تعبيد الناس له سبحانه، أي إخضاعهم لشرعه ومحاربة أن يكون هناك حاكمية لغير لله، أو غير شريعة الإسلام. ومحاربة الخروج على ما حكم به الله سبحانه وتعالى. وهي دلالة النصوص التي جاءت تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالجدال والبيان والإقناع والدعوة، وبالجلد والقطع والقتال والجهاد لإقامة حكم الله في الأرض وإعلاء كلمته.
ولذلك رأينا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أقام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة ووطد أركانها، يرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. ورأيناه صلى الله عليه وسلم وخلفاءه من بعده يرسلون حَمَلَة الدعوة والمجاهدين والجيوش يدعون الناس إلى الإيمان لإخراجهم من الظلمات إلى النور،ويقاتلون من أجل إخضاع البلاد والعباد لسلطان الإسلام. وهي دعوة لأن لا يكون معبود إلا الله، ولا حاكمية إلا لله. وهذه الغاية هي الفكرة الإسلامية التي يحيا المسلم لأجلها، وقد عبَّر عنها ببراعة الصحابي الكريم ربعي بن عامر عندما استغرب رستم قائدُ جيش الفرس دعوته وسأله:ما الذي جاء بكم ؟ فقال رضي الله عنه: «إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة».
وتتبيَّن هذه الفكرة جلية في القرآن والسنة وفي أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في نصوص تفوق الحصر سنقتصر على ذكر بعضها:
قال تعالى:{قُلْ يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (سورة الأعراف 158). وقال: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} (سورة سبأ 28). وقال: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (التوبة 33، وسورة الصف 9). وقال: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين} (سورة التوبة 123). وقال: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون[ (سورة التوبة 29). وقال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (متفق عليه).
وهكذا يُكرَه الكافرون على الخضوع لسلطان الإسلام ولسيادة شريعته وإن كانوا لا يكرهون على دخول الإسلام لقوله تعالى: {لا إكراه في الدين} (سورة البقرة 256). فالغاية أن لا قانون يطاع ولا تشريع يؤخذ إلا ما أمر به الله ولا حاكم إلا الله. وما يترك عليه بعض الكفار من اعتقاد وعبادة فبأمر من الله تركوا عليه.
وقد بين الله تعالى هذه الغاية من خلق الناس في قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (سورة البقرة 143) وهذا خطاب للأمة الإسلامية وتكليف لها لتحمل الرسالة بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى سائر الناس، وقد حَمَّلها إياها النبي بعد أن بلّغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق الجهاد. وقف صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يخاطب الأمة قائلاً: «... وإني قد تركتُ فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتابَ الله. وأنتم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغتَ وأديتَ ونصحت. ثم قال بأُصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: اللهم اشهدْ، اللهم اشهدْ، اللهم اشهدْ...» (رواه أبو داود). وهكذا شهد علينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبلاغ وتحميل الأمانة وأشهد الله علينا، وعلينا بعد ذلك أن نشهد على الناس بالطريقة نفسها كما فعل الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه. وقد بَيَّن الله تعالى أن هذه هي الغاية من الخلق قبل خلق آدم عليه السلام. قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماءَ ونحن نسبّح بحمدك ونقدّسُ لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} (سورة البقرة 30). فالملائكة عباد لله لا يعصونه {عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} (سورة التحريم 6) وعندما قال الله لهم: {إني جاعل في الأرض خليفة...} الآية أدركوا أنه تعالى سيجعل فيها من يعصي وذلك من لفظ (خليفة)، لأن لفظ خليفة هنا بمعنى من يستخلفه الله أي من يوكله ليقوم بأعمال التقويم والرعاية وغير ذلك مما يقوم به المستخلَف على أمر ما، فإذا كان ثَمَّ دور لأحد ما بالتقويم والرعاية، فهذا يعني أن ثَمَّ من يحتاج إلى هذا التقويم وهذه الرعاية، وهذا يعني أنه سيحصل خروج على أمر الله، وهذا ما يؤدي إلى الشقاء والضنك والهرج، ولذلك قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}. وبتعبير آخر، إذا كان الكون ليس فيه مَن أو ما يعصي فكل شيء يسير بأمر الله. فإذا أراد الله خلق من يقوم بعمل التقويم والهداية، فهذا يعني أنه سيكون هناك من يختار الضلال ويعصي الله.
ولذلك فإن الغاية في الحياة والتي بينها تعالى قبل خلق آدم هي أن يكون الإنسان عبداً لله وأن يقوم بتعبيد الآخرين لله، ممن يضِل عن هذه العبادة أو يرفضها.
وعلى ذلك فالحياة هي صراع فكري عَقَدي وسياسي بين الإيمان والكفر، عَقَدي لإعلاء كلمة الله وليكون الدين كله لله، ولا يكون حكم إلا لله، فلا يكون له شريك ولا يعبد أحد سواه ويتم الخضوع لشرع الله، وبهذا المعنى فهو صراع سياسي إذ يفرض أن لا تكون ثمة رعاية لشؤون البشر بأي تشريع إلا بشريعة الإسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.