لقد عرف المشهد القضائي في تونس جملة من التطورات الخطيرة أعادته إلى صدارة الأحداث و جعلته يستقطب حالة الاحتقان التي تميز المشهد العام في البلاد بحكم استمرار أقطاب الماضي في إعادة إنتاج سياسات الديكتاتورية تحت مسميات جديدة. و بدل أن يكون القضاء هو ملاذ أبناء الثورة في استرداد حقوقهم الفردية و الجماعية و في ترسيخ المسارات الانتقالية المتعددة و توفير الضمانات القانونية من اجل انتقال ديمقراطي حقيقي، فان القضاء في تونس صار هو البوابة التي تمكن عصابات الأمس القريب من الإفلات من القصاص وذلك عبر عقد محاكمات صورية تفتقر إلى الحد الأدنى من الحياد و النزاهة و اتخاذ جملة من القرارات التي تؤسس لمنظومة الإفلات من العقاب. و لقد شكل الإخراج السيئ لمسرحية تبرئة المدير السابق للأمن الرئاسي مما صار يعرف بأحداث مطار تونسقرطاج يوم 14 جانفي 2011 و ذلك بتنسيق فاضح بين وزارتي العدل و الداخلية, لقد شكل ذلك القطرة التي أفاضت الكأس و دفعت جموع أبناء الشعب إلى الشوارع من جديد ينشدون إنقاذ ثورتهم التي تكاد أن تكون قد أفرغت من محتواها. و عوض أن تنصت الحكومة المؤقتة إلى هذه المطالب المشروعة أطلقت يد وزارة الداخلية لتلجم كل صوت معارض بالتعنيف الممنهج و التعذيب و التجنيد القسري للشباب و الإيقافات العشوائية، هذا فضلا عن العودة المكشوفة لأفراد البوليس السياسي مع كم الممارسات التي تعودوا عليها لعقود طويلة (الترهيب، التصنت على المكالمات،افتعال الاحتقان من اجل بث الرعب و تخويف المواطنين، و استعمال الفزاعات الممجوجة للإرهاب و ما شاكله من اجل التضييق على الحريات و إعادة بسط نفوذهم على الشارع). إن هذه التطورات الخطيرة التي تشهد نسقا مسارعا منذ أحداث القصبة 3 (التي شكلت منعرجا خطيرا في ترسيخ التعامل البوليسي القمعي مع الاحتجاجات و التي وصلت حد الاعتداء الفاضح على حرمة بيوت العبادة) لتضع الحكومة المؤقتة أمام مسؤوليتها في وجوب تغيير سياساتها ورموزها من اجل الإنصات لنبض الشعب المتمثلة في كل ما حملته ثورة الكرامة و الحرية من مطالب سياسية و اقتصادية و اجتماعية و ثقافية مشروعية. فهذه الحكومة التي حادت عن دورها في كل المجالات تقريبا مدعوة فوريا إلى اتخاذ الإجراءات السياسية و الترتيبية اللازمة من اجل إعادة الثقة للمواطنين و الكف عن ارتهان القرار السياسي و الأمني و الاقتصادي للبلاد إلى قوى خارجية (تحقد على هذا الشعب الذي فجر ثورة قلبت كل الموازنات رأسا على عقب) و تحقيق مطالب الثورة في الكرامة و الديمقراطية الحقة و التنمية المتوازنة و محاربة الفساد و إقصاء رموزه في الدولة والإدارة و القضاء و الأمن مع ضمان محاكمة المتورطين منهم على ما اقترفوه في حق البلاد و العباد. ووعيا منها بخطورة المرحلة و بلوغ الاحتقان حدا ينبئ بانفجار جديد، فان جمعية " الحقيقة و العمل" تدعو الحكومة المؤقتة، فيما يتصل بالملفين الأمني و القضائي، إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة من اجل: إيقاف العمل بالتعذيب في مقرات الأمن أيا كانت المبررات وذلك تنفيذا لالتزاماتها بمقتضى القانون الدولي الإنساني و إنزال العقوبات الفورية و القاسية لكل من تجاوز هذا الخط الأحمر.
وقف العمل بالتجنيد الإجباري الذي يذكرنا بما تعرض له الطلبة في سنوات بن علي و الذي يشكل في نفس الوقت اعتداءا صارخا على قدسية الواجب الوطني الذي يجب أن يكون فخرا للمواطن و ليس عقوبة أيا كانت المبررات.
التفعيل الفعلي و الفوري للعفو التشريعي العام من خلال كف المتابعات الأمنية في المطارات و الكف الآلي للتتبعات الأمنية و القضائية و إعادة ضحايا المحاكمات الجائرة و القمع المنظم للحريات إلى مهنهم مع ضمان التعويض الكريم عن حقوقهم المدنية المنتهكة على مدى عقود.
التطهير الكامل لسلك القضاء من القضاة الفاسدين و معاونيهم ممن عرفوا بالفساد المالي وممن كانوا وراء التاريخ الطويل و المظلم للمحاكمات السياسية الجائرة في تونس، مع تمكين القضاة من تنظيم قطاعهم و انتخاب ممثليهم إلى المجلس الأعلى للقضاء الذي يجب أن يصبح هيئة تامة الاستقلالية و الشفافية.
الإسراع بتقديم المسؤولين عن جرائم القتل و القنص و التعذيب إلى محاكمات عادلة و شفافة حتى لا تترسخ ثقافة الإفلات من العقاب.
اتخاذ الخطوات السياسية و الدبلوماسية المستعجلة التي تمكن من تسليم المطلوبين للعدالة التونسية ممن يوجدون الآن بحالة فرار بالخارج، و استعادة الأموال المنهوبة باعتبار هذه الاستعادة لا يمكن أن تتحقق فعليا دون تدخل ناجع من الدولة التونسية بصفتها السيادية. إن جمعية "الحقيقة و العمل" تؤكد استمرار وقوفها اللامشروط مع كل مطالب ثورة 14 جانفي 2011، ثورة الكرامة و الحرية و تدعو الحكومة المؤقتة إلى اتخاذ الإجراءات التنموية المستعجلة التي تندرج ضمن طبيعة دورها و صلاحياتها. كما تدعو جمعية " الحقيقة و العمل" إلى الالتزام الكامل و اللامشروط بإجراء انتخابات المجلس التأسيسي في موعدها ضمن إستراتيجية تسمح بتشريك كل أطياف المشهد السياسي و المدني و تجعل من هذه المحطة بالفعل نقلة نوعية في تاريخ تونس الحديث. جينيف في 16 أوت 2011 عن جمعية الحقيقة و العمل عماد العبدلي، رئيس الجمعية