لم يعرف الشعب التونسي منذ الاستقلال سوى حلقتين متواصلتين من الدكتاتورية البغيضة التي اختلفت في طبيعتها و تشابهت في شكلها. فكانت الدكتاتورية البورقيبية "تسلطا مستنيرا" حسب وصف جان دانيال فهي متقدمة في أبعادها التربوية و الثقافية و الاجتماعية و لكنها متخلفة في أبعادها السياسية حيث خنقت حرية التعبير و التنظيم و جمدت المجتمع المدني لفائدة دولة متسلطة تدور في فلك قائد أوحد يستند لموهبته اللدنية الخارقة (الكاريزما) و قدراته الخطابية الرهيبة و شرعيته النضالية ليرفع العصا الغليظة في وجه كل معارض سياسي أو نقابي و كل من تسول له نفسه المس من هيبة رئيس الدولة بما فيهم التلاميذ و الطلبة. أما دكتاتورية بن علي التي قامت على أنقاض دكتاتورية بورقيبة فقد استطاعت أن تغرر بأغلبية الشعب في بداياتها و قدمت الوعود بإرساء الحرية و الديمقراطية و لأن بن علي يفتقد لكل مقومات القيادة فقد أوحى اليه من حمله إلى السلطة بأن يستعين بأذرع متعددة و في مقدمتهم المثقفون و خاصة الجامعيين و أن يستعمل سياسة العصا و الجزرة فيغري بامتيازات متفاوتة و يهدد بالويل و الثبور، و أن يلمع صورته في الداخل و الخارج ، و أن يبعث التجمع الدستوري الديمقراطي عوضا عن الحزب الاشتراكي الدستوري، و برزت مفاهيم جديدة رنانة كالمجتمع المدني و الديمقراطية و السلوك الحضاري و الاستشراف و التنمية المستديمة.... مما جعل سياسيين من آفاق مختلفة (شيوعيون،ديمقراطيون اشتراكيون، يساريون، قوميون، ....) يهرولون للانضمام للحزب الجديد. و قد نجحت هذه السياسة في السنوات الأولى قبل أن تكشر الدكتاتورية عن أنيابها القبيحة و يستشري الظلم و الفساد إلى أعلى الدرجات. و بعد ثورة 14 جانفي ساد الأمل بأن الشعب الثائر سوف يتخلص من الدكتاتورية للأبد و يتولى أمره بنفسه و يستنشق نسائم الحرية و الديمقراطية . و لكن الأمور لم تتم كما هو منتظر و تكاثرت عمليات التخريب و الاضرابات العشوائية و تعطيل المصالح العامة و الخاصة و احتجاز المواطن رهينة لمطالب ما أنزل الله بها من سلطان و تم قطع الطرق أمام العاملين و حتى المرضى. و استيقظت الغرائز الحيوانية لتنتعش الصراعات القبلية و العروشية بعد عشرات السنين و تسود الأنانية . و انتشر استهلاك المخدرات و ترويجها و انتفى السلوك المدني فلا احترام لقواعد المرور و لا لمخططات التهيئة و تقلصت مساحات الهواء النقي و انتشر البناء الفوضوي في كل شبر و استولى البعض على أملاك الدولة و على مساكن اجتماعية في طور البناء ، مما جعل البعض يؤكد أن هذا الشعب لا يمكن أن يساس إلا بالعصا الغليظة و بحكم دكتاتوري. ألم يكن بورقيبة يبرر الدكتاتورية ب"الخوف من أن تؤدي الديمقراطية إلى الصراعات القبلية و العروشية" ؟ فهل أكدت الأحداث حدسه؟ و بالتوازي مع هذه المظاهر المتخلفة برزت لدى الطبقة السياسية ميول دكتاتورية. فالإختلافات داخل الأحزاب بما فيها المكوتة حديثا لا تحل بالحوار و الوفاق بل بالإقصاء أو الاستقالة أو الانشقاق (حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، الديمقراطي التقدمي، حزب الوطن، حزب الرخاء، حزب الاستقلال، الاجتماعي التحرري، حركة الشعب، الوحدوية التقدمية ......) و لم يتردد من حصل على جزء من السلطة أومن يطمح للحكم أن يظهر انفرادا بالرأي و نفيا للآخر و أن يبدي دكتاتورية مقيتة مثلما هو الشأن في: دكتاتورية السبسي: رغم أن الحكومة الانتقالية غير شرعية إذ عينها رئيس مؤقت فاقد بدوره للشرعية فهو معين بالاستناد إلى دستور أصبح لاغيا و بإعتبار الخطة التي أسندها له الرئيس المخلوع، فإن رئيسها تقمص جلباب الدكتاتور رافضا أن يشاركه السلطة أي أحد أو أن يحاسب أو تتم مساءلته. و استغل مركزه ليمنح وزارات هامة لوجوه تجمعية معروفة و لشخصيات تحوم حولها الشبهات و لم تفعل حكومته شيئا لمحاربة الفساد غير بعض المسكنات (محكامة آل بن علي و آل الطرابلسي في قضايا استهلاك مخدرات و تزوير جوازات سفر). دكتاتورية الهيئة العليا: هي هيئة تكونت على مقاس اللوبي الفرانكو-لائكي و بقرار من الرئيس المؤقت و لكنها انقلبت على الشرعية و تجاوزت صلاحيتها لتصبح برلمانا يصدر المراسيم و يشرع في كل المجالات بما فيها قانون الأحزاب ونظام الجمعيات و العقد الجمهوري و شروط الترشح للانتخابات. و أصبحت بعض الشخصيات النكرة التي لم يفهم سر تواجدها بهذه الهيئة تتطاول على الرموز و تتحكم في مصائر العباد و البلاد. دكتاتورية كمال الجندوبي: هو من المعارضين النشيطين لبن علي من الخارج و بعد الثورة تم ضمه إلى الهيئة العليا و لنظرا لميوله الغربية اختارته الأغلبية الفرانكو-لائكية ليكون على رأس ما سمي "اللجنة المستقلة للانتخابات" و ما أن تولى هذه الخطة حتى استيقظ الحس الدكتاتوري لديه من خلال فرض تاريخ للانتخابات دون استشارة أحد و رفضه لأي نقاش أو حوار حول هذا التاريخ حتى مع الوزير الأول. و ها هو الآن يهدد خصومه و منتقديه بقوله "لن نتسامح مع أي تشكيك في الهيئة" (جريدة البيان 15 أوت 2011) فويل لمن يبدي رأيه حول أداء اللجنة أو ينتقدها، لعل السجن في انتظاره و عاشت حرية التعبير. دكتاتورية نجيب الشابي هو أيضا من الزعماء السياسيين القلائل الذين صمدوا في وجه دكتاتورية بن علي و عانوا الأمرين جراء ذلك. و لكنه مباشرة بعد الثورة تقمص دور بن علي و أصبح يسير على خطاه. بدأ بدعوة التجمعيين للالتحاق بحزبه على حساب رفاقه القدامى الذين صمدوا معه. ثم أغرق الصحف و الساحات العمومية بصورته إلى جانب مية الجريبي بنفس طريقة المخلوع، مستغلا الأموال التي أغدقها عليه رجال الأعمال على أمل تفادي أي محاسبة في المستقبل حول علاقاتهم مع رموز الفساد. ثم اعتمد مقاييس بن علي في تحديد أصدقائه و أعدائه و أصبحت حركة النهضة التي تحالف معها في سنوات الجمر هدف حملاته المفضل ليكيل لها تهم النفاق و التآمر على الديمقراطية و الانقلاب على الثورة إلى أن وصل به الأمر إلى إعلان "التصدي" لها. و بما أنه يعتقد راسخا أنه سوف يفوز بالانتخابات فلا شك أن "التصدي" سيتمثل في ما قام به بن علي ازاء الاسلاميين ، أي الاختيار بين السجون و المنافي. و بعدها قد يتفرغ، على غراره أيضا للمعارضات الأخرى. (غمزة لسيقموند فرويد و نظرية قتل الأب ) فما الذي يجعل مناضلين من أجل الحرية و الديمقراطية في تاريخ و حجم الجندوبي و الشابي يصبحان مثالا للتسلط و الديكتاتورية؟ هل هو تقليد الضحية للجلاد ؟ أم هي جينات لدى التونسيين و لا خيار لنا سوى الحكم الدكتاتوري المتسلط؟ من المؤكد أن المسيرة نحو الديمقراطية لن تكون سهلة و أننا مطالبون بتغيير عقلياتنا و التعايش مع الآخر و أن الشعب الذي سالت دماء أبنائه فداء للثورة لن يقبل بعد اليوم أن يستولي الديمقراطيون المزيفون على حريته.