أخيرا هل هلال عيد الفطر ، بعد انتظار وشوق وحنين ، هل الهلال ليرسم بسمات فرحة الإفطار بعد شهر من الصيام والقيام ، " للصائم فرحتان : فرحة عند إفطاره ، وفرحة عند لقاء ربه " ، هذه هي الفرحة الأولى إذا ، وفي انتظار الفرحة الثانية التي لا يعلم واحد منا متى ستكون ، تتناسل الاحتمالات ، وتتراكم علامات الاستفهام ... هل هلال العيد هذا العام على عالم إسلامي مضطرب أيما اضطراب ، عالم يتحرك بعنف وقسوة وجنون بعدما يئس من حالة الجمود والركود والسكون التي وسمته لسنوات ، عالم يعيش مخاض ولادة صعبة عسيرة ، بعد عقود من الحمل المرهق الشاق المضني ... تختلط مشاعر الحزن بمشاعر الفرح ، تمتزجان امتزاجا غريبا ، ولكل منها أكثر من مبرر ، هذه مشاعر الحزن تفيض عبرات غزارا على الخدود ، تتدفق آهات عميقة من الأعماق ، تنتشر نظرات حزينة حائرة تملأ كل الفضاءات ... عيد يغيب فيه أعز الأعزاء ، عيد نفتقد فيه أحب الأحباب ، عيد بلا نكهة وبلا مذاق ... رحلتَ يا أبي وتَركْتَ الجرح نازفا ... لم يعد لعيدنا أي مذاق ، كنا نلتف حولك جميعا صبيحة كل عيد ، نُقَبِّلُ يديك الطيبتين الوديعتين ، ونطبع قبلات حارة على جبينك المشرق العريض ، وننتظر منك دعوات صادقة ، وكلمات خاشعة كنتَ تتلفظ بها بصعوبة كبيرة ... لملمنا الجراح ، وأعلنا رضانا التام بقضاء الله وقدره ... وواصلنا المسير ... وعلى حين غرة رَحَلْتِ يا نعيمة ... انتفضت الأرض وانشقت وزلزلت من تحت أقدامنا ، إعصار مدمر زعزع الكيان ، وهز الأركان هزا ... مَوْتُكِ قاتل يا حبة الفؤاد ، رحيلك مدمر وناسف ... كيف نستقبل هذا العيد في غيابكِ ؟! كيف نبتهج وقد غِبْتِ عَنَّا ؟! أنتِ ... يا من جمع الله فيها كل الجمال وكل الكمال وكل روائع الخصال ... عيد بمذاق الحزن والألم ... لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ... لا نملك إلا أن نقولها ، ونرددها ليلا ونهارا ... لا راد لقضاء الله ... " أنا أريد ، وأنت تريد ، ولا يكون إلا ما أريد ... " ... لا راد لقضائك يا ألله ... !! نحن أحببناها ، وأنت أحببتها ... مرحى بحبك يا حبيب !! حزن يغمرنا يوم العيد ونحن نتابع على القنوات الفضائية عشرات بل مئات وآلاف الأشخاص الذين تحصدهم دبابات ومدافع وبنادق ورشاشات الطغاة المستبدين ، أولئك الذين استرخصوا كل شيء في سبيل الحفاظ على عروشهم ، بل من أجل توريثها لأبنائهم ، فعاثوا في الأرض فسادا وإفسادا ، وأزهقوا أرواح الملايين من أجل الحفاظ على سلطتهم ... هؤلاء الجبابرة الذين نصبوا أنفسهم آلهة وألزموا الرعية المغلوبة على أمرها بالركوع والسجود في محاريبهم ، هؤلاء الفراعنة الذين رددوا شعارات الفرعون الأول " ما أريكم إلا ما أرى ، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " ، بل إن لسان حالهم يردد " أنا ربكم الأعلى " ... ليس غريبا أن ينعتوا شعوبهم بأبشع النعوت ، وهم يخاطبونهم من بروجهم العاجية ، ليس غريبا أن يصبوا عليهم جام غضبهم ، فيرمونهم بشتى أنواع الأسلحة المدمرة ، يُقَتلونهم بالجملة تقتيلا يذبحونهم رجالا ونساء وأطفالا وشيوخا ، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ... هذه المناظر المثيرة لكل مشاعر الحزن والألم والبغضاء أصبحت جزءا لا يتجزأ من برامجنا اليومية ، إنها مشاهد تجعل عيدنا عيد ألم بامتياز ، عيد حزن وكمد ... ولكنه حزن ممزوج بفرح غريب . الوجه الآخر لعملة هذا العيد هو هذا الشعور بالفرح ... الفرح بالانتصار على النفس طوال شهر الصيام ، الفرح بقهرها وترويضها على الطاعة طوال هذه المدة ، الفرح والاستبشار باستحضار ما أعده الله عز وجل للصائمين " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " ، " كل عمل ابن آدم له ، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، والصيام جنة ، أي وقاية " " إن في الجنة بابا يقال له : الريان ، لا يدخله إلا الصائمون ، " ... الفرح بالقيام بين يدي الله عز وجل ، القيام الجماعي طوال الشهر الفضيل ، بيوت الله عامرة بعباده الراكعين الساجدين ، وأصوات الأئمة حاملي كتاب الله عز وجل تتصاعد وضاءة مستبشرة مبتهجة إلى السماء ، وأدعية المتهجدين تعانقها ملائكة الرحمن تصعد بها تباعا إلى الملإ الأعلى ، وآيات الكتاب العزيز تتلى في كل ركن وفي كل مكان وفي كل فضاء ، وأذكار علوية ربانية طاهرة قدسية تملأ الفضاء تناجي رب السماوات والأرض تتودد إليه حبا وعشقا وشوقا ... الوجه الآخر للفرح في هذا العيد هو أن دماء الشهداء لم تضع هدرا ، لقد رأينا عبر الفضائيات عروش الطغاة الجبابرة تتهاوى تباعا ، رأينا صورهم التي كانت تملأ كل الدنيا تطؤها الأقدام بجنون لا يعادله جنون ، رأينا تماثيلهم التي نصبوها في الساحات العمومية تهشمها أيادي المستضعفين الذين تعبوا من حياة الذل والخضوع والاستسلام ، واختفوا عن الأنظار فجأة بعدما كانوا يملأون حياتنا كلها بصورهم وبخطاباتهم وبشعاراتهم ... اختفوا اختفاء الذل والمهانة ، لتنكشف للرعية أسرار ثرواتهم التي تقدر بالملايير ، ولتصبح فضائح شهواتهم ورعوناتهم وطغيانهم حديث الموائد ، وماء أعمدة الجرائد ، ولتسقط أقنعة " الصولة والصولجان " التي كانوا يخيفون بها الرعية المغلوبة على أمرها ،... وصدق الله العظيم إذ يقول " " قل اللهم مالك الملك ، توتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ، بيدك الخير ، إنك على كل شيء قدير " ... يعود العيد إذا حاملا معه أسراب الحزن والاكتئاب ، وبشائر الفرح والحبور ، لا نملك إلا أن نحتفل بهذه المناسبة كما أمرنا بذلك ديننا الحنيف ، نتوجه إلى المصلى لنؤدي صلاة العيد مع جموع المصلين ، نتبادل التحايا والتهاني مع كل من نعرف ومع من لا نعرف ، نبتسم في وجوه كل الآخرين ... ونحتفظ بآهاتنا في قلوبنا المكلومة الممزقة ... وذا هو دأب المؤمن " حزنه في قلبه ، والبشر في وجهه " ...