قررت حكومة عصام شرف بعد ضغوط أملتها جهات غير مصرية عليها وعلى المجلس العسكري أن تقيم جداراً إسمنتياً مسلحاً حول البناء الذي يضم سفارة الكيان الصهيوني بغرض حمايتها من الغضب المصري المتأجج على خلفية الجرائم التي يرتكبها العدو الصهيوني ضد الشعب العربي في مصر وفلسطين وفي كافة الدول المحيطة بها، بخلاف عمليات التهويد التي ينفذها الكيان داخل القدس وفي منطقة المسجد الأقصى وداخله، وفي كافة أنحاء الضفة الغربية مما يثير مشاعر الجماهير بمسلميها ومسيحييها التي طالبت بشكل واضح لا لبس فيه بطرد السفير الإسرائيلي من مصر العربية واستدعاء السفير المصري من تل أبيب وقطع العلاقات معها، ناهيك عن المطلب الدائم للشعب المصري بإعادة النظر في معاهدة كامب ديفيد، وما نتج عنها من اتفاقية سميت زوراً معاهدة السلام مع العدو الإسرائيلي. دولة الاحتلال تبني الجدران حول القدس وكل المدن والقرى الفلسطينية وتقتطع داخل هذه المعازل العنصرية أقساماً واسعة من الأرض الفلسطينية لمصلحة الاستيطان وما تسميه الأمن الإسرائيلي، وهنا في القاهرة تأتي الحكومة التي يفترض أن تعبر عن نبض الخامس والعشرين من يناير لتذكرنا بالسلوك العنصري للدولة العبرية فتقيم جداراً عازلاً حول السفارة الصهيونية بغرض حمايتها، فأي حكومة هذه؟ المجلس العسكري يتذرع بأن الظروف ليست جاهزة لفتح ملف العلاقات المصرية الإسرائيلية وإعادة النظر في المعاهدة المشؤومة، تلك التي أبقت سيناء كلها رهينة للاحتلال والتي أبقت كذلك حدود مصر الشرقية في عهدة الولاياتالمتحدة وحليفتها "إسرائيل"، وكلنا يعرف أن تلك الحدود كانت دائماً الممر لكل الغزوات والاعتداءات الخارجية على مصر عبر تاريخها القديم والحديث، ناهيك عن وجود الوحش الصهيوني على هذه الحدود. ما بين إلغاء المعاهدة الظالمة لمصر والمخزية لنا جميعاً (والذي سوف يقع ذات يوم) وبين إعادة النظر فيها هامش كبير للعمل وتلبية مطالب الشعب الغاضب لكرامته ودماء أبنائه الذين اغتالتهم طائرات وجنود العدو الصهيوني في سيناء قبل أيام قليلة. إننا لم ولن ننسى شهدائنا وقتلانا الذين روعتهم قوات العدو قبل أن تغتالهم في سيناء عام 1967 وبلغ مجموعهم ما يزيد عن الثلاثين ألف قتيل من الجنود والضباط الذين كانوا ينسحبون إلى الخطوط الخلفية ولا يحملون سلاحاً أو يشكلون خطراً على القوات الغازية. إن الذاكرة لا يمكن أن تمسح تاريخاً أسوداً لغدر هؤلاء القتلة ممن نقيم لهم الجدران الإسمنتية لحمايتهم، وإن أرواح أطفالنا الذين قتلتهم طائرات العدو وتناثرت أشلاؤهم في مدرسة بحر البقر وأبو زعبل لا زالت تستصرخ فينا النخوة والحمية لمحاسبة هؤلاء المجرمين على ما اقترفته أيديهم وليس لحمايتهم والتظليل عليهم في مصر العروبة وخصوصاً بعد أن تم طرد عميلهم الأكبر من رئاسة مصر وانتهى حكمه الفاسد. الجدار الذي نبنيه لحماية سفارتهم بكل ما يرمز له من خضوع لإملاءات غربية وعربية رجعية لن يحول دون تعبير المصريين بأغلبيتهم الكاسحة عن رفضهم لوجود السفارة الإسرائيلية ببلادهم أو بقاء سفارتهم في تل أبيب، مثلما لن تمنع المناضلين من أبناء مصر بكل فئاتهم من ملاحقة الكيان العنصري على الجرائم التي ارتكبها بحق المصريين والفلسطينيين على امتداد تاريخه الدموي، وكما رفع محامون أجانب دعاوى ضد الدولة العبرية وبعض قادتها وتلاحقهم محاكم أوروبية عديدة نصرة لفلسطين وشعبها المكافح، فإن أبناء مصر ومحاموها على الخصوص سوف يقومون بذات الأمر وقد بدءوا بهذا منذ فترة، وسيجد الجمهور المصري الواعي لأخطار الوجود الإسرائيلي فوق أرضه الوسائل المناسبة لاقتلاع السفارة وما تمثله داخل الجغرافيا المصرية وكذلك لاقتلاعه من ثقافتنا ومناهج تعليمنا التي أملاها علينا السيد الأمريكي أثناء غفلة الزمن التي حكم فيها أنور السادات "أم الدنيا" وخلفه المخلوع حسني مبارك الذي يمثل اليوم أمام القضاء لمحاكمته على الجرائم التي ارتكبها بحق مصر والمصريين.
ويبقى السؤال حول دور قوى الثورة الصاعدة بمصر وكذلك قوى ما يسمى بالإسلام السياسي المتصدرة للمشهد في الحراك السياسي وسعيها لنيل نصيب الأسد في الانتخابات القادمة بمصر، أين هي من هذا القرار وما يرمز له في سياق تعبئتها الجماهيرية؟ وكيف نحول دون إعادة بناء العلاقات المخزية السابقة والحالية مع دولة مارقة لا تعرف الحق ولا تقيم وزناً لأرواح أبنائنا؟ إن ما نواجهه في الحقيقة ليس جداراً من الاسمنت المسلح، بل قراراً وسلوكاً مصرياً يؤسس لمرحلة من التبعية والاستسلام مجدداً للعدو الأمريكي الصهيوني بعد أن أطحنا برمز تلك المرحلة. ليس لمصر أن تعود للوراء أبداً، وهي لن تعود بإذن الله. المجد لشهداء مصر والأمة العربية في مواجهة العدو الإسرائيلي وحلفائه ولن تنجح كل جدران العالم في طمس معالم الجرائم الصهيونية، أو إخفاء القيم العظيمة والنبيلة التي يمثلها هؤلاء الشهداء الكرام.