كثر الحديث و توسّعت دائرة الجدال و تحققت بعض أهداف الذين ينصّبون أنفسهم حماة للحداثة و الثقافة و حرية التعبير. أردت أن تكون مقدمة حديثي من آخر الموضوع تعسّفا على منطق المنهج لكنه في الحقيقة تطبيقا لمنهج المنطق لان العبرة بالخواتيم و النتائج. الفلم الكرتوني الحدث الذي عرضته قناة نسمة-قناة المغرب العربي الكبير- أسال كثيرا من الحبر و كثيرا من الجدل و أيضا كثيرا من الموقفين,هذا الفلم الذي شاهدته مرّتين الأولى على شاشة القناة و الثّانية على الانترنيت سوف لن أتحدث الآن عن محتواه ليس لكونه لا يعنيني فهو أثار في نفسي ما أثاره في نفوس الملايين من المسلمين في هذا المغرب العربي الكبير بل نأيا منّي عن جدال لا ينفع النّاس و جدال يبتغيه أصحاب الغرض لذلك سأتحدّث في هذا الورقة عن الحداثة المزيّفة و الصراع المصطنع و ثقافة الإقطاع. النخبة المثقفة في بلادنا أفرزتها سياسة الحصار الثقافي هذه حقيقة لا بد أن يتفق حولها الكتّاب و النقّاد. فالسلطة السياسية عمدت طيلة الخمسة عقود على فرض أنماط محددة من الحراك الثّقافي أطلقت عليها تسمية ثقافة الحداثة و التّقدّم كرّست من خلالها كثيرا من الطمس و المسح و الحرق لذلك المخزون الضّمني الذي يحتويه تراث الأمّة و وجدانها الشعبي و مارست من خلالها أنواعا شتّى من التّزييف و التّسويف لخلافها و كثيرا من التّجميل و التّزيين و الفرض لما يدور في ركابها. و لأن هذا المنهج الأحادي الذي فرضته السلطة السياسية الأحادية التي لم تشعر يوما بالخجل و هي تجاهر بعدائها لتراث الأمة و ضميرها الجمعي. و لأنها كانت تنصّب نفسها المدافعة عن مكتسبات الحداثة و التّقدّم,و لأنها كانت تعمل على تأصيل وجودها بارتباطها بالثّقافة العلمانية المسوّقة لنا فرضا,لذلك كلّه كان لا بدّ لهذا المنهج أن تكون له مصانع و حظائر و يكون له عسس و حرس و نضّار و عمال'فأسست الرابطات و الجمعيات الثقافية والأدبية و المسرحية و السينمائية و الفنّية و التشكيلية و التكعيبية و التزييفية...........ودعّمت الأفلام الهابطة التي تخدش الحياء علنا و الأعمال المسرحية المقتبسة من العصر النابليوني و غيّبت تماما كل مظاهر الالتزام الفنّي و حوصرت الكلمة الهادفة و الأعمال التعبوية من مسارحنا ومهرجاناتنا و تظاهراتنا و محافلنا الرسمية وشنقت روح المبادرة بمقصلة الحداثة. و لم نعد نسمع في مشهدنا الثقافي حتى مجرد الحديث عن فلسطين المسلوبة و العراق المحتل و المسلمون الذين يقتلون في كل مكان و أصبح البلاد منفصلا لا فقط عن بعده التاريخي بل و حتى عن عمقه الجغرافي. في هذا الوقت المهم في تاريخنا السياسي و الثقافي طفحت على المشهد نخبة جديدة حداثية أو هكذا تسمّي نفسها تكونت من ائتلاف محموم بين يساري انتهازي لفظته أروقة الجامعات و علماني يتمسح على أعتاب أحذية مستوردة وسياسي دخيل يبحث عن موقع في الخارطة الثقافوية. تلك النخبة التي حفظتها السلطة لم تكن تتجرأ على التطرّق لهموم الشعب و آلامه و معاناته أو لأحلام التغيير و الانعتاق و كأن الثقافة شيء معلق في السماء لا ينزل إلى الأرض مخافة أن تدنّس'فالأرض بهمها و ظلمها و ترابها المعفّن خط احمر لا يجوز لها تعدّيه. و جاءت الثّورة بدماء المظلومين و المقهورين و الجائعين و التائقين إلى الحرّية و العدالة و المساواة...ثورة اختلطت فيها دماء الشهداء و الجرحى بأديم الأرض المتصحّرة الجرداء التي يغطّيها ذلك الخط الأحمر الفاصل بينها و بين الثقافة السائدة.و حتى لا يطالها أزيز الثائرين كان لا بد لتلك الثقافة أن تنزل إلى الأرض بحثا عن وجود لها و تفاديا لقطيعة قد تكون أبدية.و أصبح الصامتون بالأمس القريب عن الظلم و القهر و الاستبداد و خنق الحرّيات مناضلي اليوم الذين يدافعون ببسالة و شراسة عن حرية التعبير و الإبداع و أسقطوا من تلقاء أنفسهم ذلك الجدار الفاصل بينهم و بين الشعب و تعدوا الخط الأحمر الذي يفصلهم عن الأرض ليقعوا بثقلهم الهزيل على واقع لا تربطه بهم صلة ولا يستوعبون تاريخه و لا تتبنّون هويّته و لا يفهمون كنهه و لا يعيشون حاضره المرير و لا يشاركونه أحلامه الدّفينة....جاءوه بشعارات مزيّفة و جنّة وهميّة مستغلّين انشغال النّاس بالسياسة و الاستحقاق التاريخي الذي يبني عليه عامّة الشعب و خاصّته آمالا لا محدودة في بناء تونس الحرّة المستقلّة بقرارها تونس المنفتحة على الآخر المعتزّة بهويّتها,تونس التي تتّسع للجميع في إطار التشاور و التحاور و الوفاق,تونس الإبداع و الفن و الجمال'تونس التي آن الأوان لتتصالح مع تاريخا و ارثها و مخزونها الثقافي و العلمي و الديني,و تتصالح مع محيطها المغاربي و العربي و الإسلامي بعد عناق و احتضان طال أمده و مداه مع محيط غريب على تربتها و جذورها لم تجني منه غير ولادات مشوّهة و أجنّة مسلوخة قبل الولادة...لذلك كلّه كان فرضا على هؤلاء بحكم ولاءاتهم و ارتباطاتهم الفكرية الفرانكفونية و مصالحهم السرطانية المتشعبة التي لا بد أن يحافظوا عليها,كان لزاما عليهم أن يدقّوا نواقيس الخطر الذي يهدد الحداثة ومشروع التقدّم و الانفتاح ونصبوا أنفسهم حماة لهذه الشعارات و استفردوا بالأحقية التاريخية لهذه المهمّة و جعلوا ممّن يخافهم المراجع و الأهداف مجرّد جاهل للحتميات التاريخية و واقع الشعوب و الحقوق الانسانسة الأزلية (كما جاء على لسان الصحفي المنصف بن مراد على قناة نسمة). و لأنهم يعلمون جيّدا أن وجودهم و استمرارهم في الوجود السياسي و الثقافي مرتبط بالأساس بواقعين:الأول أن تطغى على البلاد سياسة الإقصاء و التهميش و التمييع,و ينتصر صوت الأقلية المنبوذة من ديمغرافية الشعب و يبقى الحال كما هو عليه .و الثاني تبقى البلاد غارقة في الفوضى الممنهجة و يتأجل الحسم التاريخي و ربّما يوأد حلم شعب بأكمله في نحت ملامح تاريخه الحديث.و لأنهم يعلمون ذلك فقد ازدادت وتيرة الانفعال العضوي لديهم و أصبحت أهدافهم-و هي معلومة لدى الجميع-أن تعيش البلاد أحد الواقعين المذكورين و تواترت تحرّكاتهم في كل المجالات مستغلّين في ذلك كل المنابر التي كانت متاحة لهم سابقا و التي أتيحت لهم لاحقا بفضل المستنفذين الجدد في السلطة الانتقالية-و اقصد بالذات وزير الثقافة و العاملين في الحقل الإعلامي-و فجئنا بتخمة من البرامج و الأحداث الثقافية التي تصب جميعها في بوتقة التكريس لتلك الأهداف.وفرضت على المشاهد التونسي وجوه لم يسمع عنها قبل الثورة مثل الدكتور ألطالبي و شطحاته المراهقة و الدكتور الصديق و تحليلاته المسقطه و نادية الفاني و فلمها الإلحادي المعلن و المستفز والأستاذ المنصف بن مراد و تهجماته المفضوحة و الصحفي زياد كريشان و انتروبولوجيته البالية و سفيان بن حميدة و تحليلاته الاستخباراتيه...إلى غير ذلك من الأقلام الداعية إلى الحداثة و التغريب.وأصبحت جميع المنابر الحوارية في اتجاه واحد حتى تلك الحصّة التلفزية التي أعقبت عرض الفلم الحدث على شاشة نسمة كانت كلها بصوت واحد و لم يدعى فيها شخص واحد مختص في العلوم الشرعية أو الشريعة و أصول الفقه رغم أن تونس تزخر بمثل هؤلاء الذين يفهمون الواقع و يدركون الحداثة أكثر ممّن يدّعونها.حتّى الأستاذ صلاح الدّين الجورشي الذي يحترمه الجميع لفكره النّير و دعوته الدائمة للحوار,فقد غاب صوته في الزحام و كان ضيفا ثقيلا عليهم. و لان هؤلاء يدركون جيّدا أن الشعب التونسي لا يقبل تحت أي ضغط و تحت أية مسمّيات التعدّي على حرمة عقيدته المتجذّرة في كيانه و التي عجزت كل المحاولات المتكررة في فسخها و طمسها و تغييرها ببدائل حداثية مزيفة مستعينين [أبواق الإعلام الفاسد و منبر الدعاية التجارية الهابطة و شعارات التخويف و الترهيب من المنطق الديني و الأخلاقي و القيمي...لأنهم يدركون ذلك فقد ركزوا على هذا الجرح العميق في جسم الأمة الذي كلما ناشد الالتئام داسوا عليه.فكانت الفوضى التي يرمون إليها و الحيرة و التساؤل عن مصير البلاد ما بعد 23 أكتوبر...لقد خّططوا لكل ذلك بالتزامن مع بروز موجة التيّار السلفي التي يعلم الجميع أصولها و أفكارها و نزعتها الراديكالية...هذه الحركة التي لا أريد الخوض في الحديث عنها لأترك ذلك للمختصّين في العلوم الشرعية الذين تفضّلوا مشكورين بتناول هذه الظاهرة بالدرس و التحليل و التحاور.لكنني و للتاريخ أريد فقط أن أشير أن مثل هذه التيّارات ما كانت لتتضخّم لولا عملية القمع و الإقصاء للفكر الإسلامي الحداثي الوسطي. فالعملية في رأيي سياسية بامتياز و قد اتخذت طابعا دينيا لعلم تلك النخبة العلمانية المتطرفة بخطورة المسالة الدينية و حساسيتها لدى المواطن التونسي بكل تكويناته و تجاذباته و لا تعدو أن تكون سوى حملة مغرضة لكل دعوة للتجديد و القطع مع ثقافة الإقصاء و التهميش.بيد أن الخطورة تكمن في استعمال المؤسسات الإعلامية و الثقافية العامة لفرض خيار الأقلية المصلحية الناشطة على حساب الأغلبية السلبية,فيكون الحدث بمثابة الخازوق السياسي الذي يهدف إلى قطع أمعاء المجتمع و تغييبه عن أهدافه الجوهرية و استحقاقاته التاريخية الهامة وجرّه إلى هامش التاريخ. ولان الفوضى لا يمكن لها أن تبني مجتمعا حرّا, فان الحوار كفيل بان يفضح المتآمرين و لتحرّك السلمي البعيد عن كل مظاهر العنف و الضوضاء كفيل بأن يركنهم إلى زاوية مظلمة لا نور فيها و لا هواء أو يرمي بهم إلى مزبلة التاريخ بعد أن ينقلب عليم الخازوق و يرتد الكيد إلى نحرهم. وحتى تطوى هذه الصفحة المظلمة و ننصرف إلى ما ينفع النّاس فليس للحديث بقية. الأستاذ كمال اليحياوي