بسم الله الرّحمان الرّحيم يبدو أنّه لم يشفع لليونان أنّها كانت مهد الفلسفة الغربية الحاضنة للعقل الأوروبي، و أنّها أنجبت السّيدة الفاضلة الدّيمقراطية للغرب المنتفض على كنائسه و "باباواته" لتكون دينُهم وعقيدتُهم في السّلم والحرب، وأنّها كانت محضنة لمسرح " تيسيبس" و " أسخيلوس" و " سوفوكليس"و "هيبوليتس" الّذي تفتخر به الثّقافة الأوروبية، لم يشفع لها كلّ ذلك، ولم تشفع لها حتّى جزر اللّهو و الخناء الماجنة مثل: جزيرة "سنتوريني" السّاحرة و "هيدرا " و "إيوس " و "سالاميس"، بشواطئها المترامية على الخلجان وكازينوهاتها المفتوحة أوكارَ استراحةٍ لملوك أوروبا ورؤسائها و أثريائها من أباطرة المال والأعمال. لم يشفع لها كلّ ذلك وها هي تتخبّط في دراما اقتصادية لم يكتبها " أسخيلوس " ولا "تيسيبس" فما الذي يحدث لاقتصاد اليونان؟ لا أريد أن يقول لي أحدٌ أنّ بنوك أثينا هي أيضا شهِدَتْ مرور ليلى بن علي وعصابة الطّرابلسية ! في نهاية هذا العام سترسُم لوحة الناتج المحلّي لليونان انكماشا حسب خبراء الاقتصاد بنحو 4% ممّا زاد الذّعر في النّاس وهذا نتيجة تقشّف مجحف خضعت له الدّورة الاقتصادية لمدّة عامين كانت فيه اليونان أشبه شيء بمتظاهر عربي ملقى في وسط الشّارع ينزف دمًا بعد أن أصابه قناّص من البوليس السّياسي مجهول النّسب ليس له أمّ ولا أب! غموض مخيف للمستقبل يُخيّم على أرخبيل الفلاسفة السّاحر مهد أرسطو وأفلاطون. قيل إنّ المواطنين اليونانيين الّذين سرقوا من التّوانسة هتافاتهم مع شيء من التّغيير في الصّيْحة التونسية ذات الحقوق المسجَّلَة " الشّعب يريد إسقاط النّظام" ونادوا في شوارعهم المزوّقة بالمرْمر الرّاقي والمزهريات والفوانيس: " الشّعب لا يريد أن يأكل " السّردين " وينْسى " الكافيار "، لكن رئيس الوزراء اليوناني "جورج باباندريو" لم يقل لهم " أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ " بل قال لهم استعدّوا لبقرات عجاف يأكلهنّ بقرات أكثر عَجْفا و قحطا، وسنين يابسات إن رغبتم في مداعبة أوراق اليورو الحمراء. لكن اليورو نراه كمعتوه يجري حافي القدمين في منحدر سحيق أمام غريمه الدّولار بسبب هذه الأزمة وأزمة الاقتصادات الأربعة الأخرى المتهاوية وهي: إسبانيا والبرتغال وايرلندا وإيطاليا كلّ ذلك أمام أعين لاعبي الفريق السّبعة عشر الأعضاء في نادي اليورو المتفرّجين بشماتة في هذا العالم السّكران.. فقد دفَعَتْ الأزمة بسواد كبير من المستثمرين الأمريكيين إلى سحب أموالهم من أسواق أوروبا، كيف لا والبنوك الأمريكية بدورها سحبت 51 مليار من بنوك أوروبية وحوّلتها إلى سندات داخل مصارف أمريكية. وصول الدّين العام لأثينا حوالي ثلاثمائة وخمسين مليار يورو، ليس بالأمر المستغرب فالأوضاع المالية في اليونان الّذي لا يبعد تعداده السّكّاني عن بلدي تونس(11 مليون ساكن ) وتبلغ مساحته الجملية ( 132 ألف كلم مربّع )،قيل أوضاعه كانت مهزوزة دائماً بسبب ضعف الرقابة والفساد وقلة الموارد، مقارنة بالبلدان الأوروبية واستفحال الرّشوة زد على ذلك التّهرّب الضّريبي. وقال "ساركوزي" إنّ اليونان غالطَ الأوروبيين بإدلائه بأرقام مغلوطة عن اقتصاده ليلتحق بعَلَم أوروبا الأزرق ذي النّجوم.. ثمّ كاد يقول: علينا أن نلقي به وبجُزره في البحر نقمة وحِنقا ! لكن في الحقيقة اليونان حلقة متقدّمة لنظام إقتصادي أوروبي فاسد الّذي هو بدوره حلقة متقدّمة من نظام اقتصادي عالمي متوحّش ينهش لحم الضّعفاء ويجمع المال بيد رهط من المفسدين البخلاء، يشنّ الحروب لضبط مُعادلات اقتصادية ويصنع الفيروسات وينشرها ثمّ يصنع لها الدّواء لجلب المال، ويتسلّى بموت الجياع في إفريقيا والصّومال. لكن حصر سبب مشكلة اليونان في التّضخيم في برامج الإنفاق الاجتماعي بأكثر مما تسمح به ظروف الدّولة وإمكانياتها، وما ذكرناه من الأسباب الثّانوية الأخرى هو ضحك على الذّقون واستبلاهٌ للرأي العام العالمي. إنّنا أمام نظام بُنِي على امتصاص دماء الشّعوب، خَطُّه الرئيسي وخُطّته، استعمار الأرض بالرّبا المجحف ومضاربات البورصات الوهمية. أذكر الاقتصادي الفرنسي العملاق "موريس آليه"(Maurice Allais )، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1988م، الّذي أحبّ دائما أن أستشهد بنظرياته في بعض محاضرات ألقيها في مُقاومة التّدخين، وهو من الاقتصاديين الغربيين المشهورين بانتقادهم للنظام الاقتصادي الغربي، يقول ما معناه إن النّقود لا تلد نقودا وإنّ مبلغا من المال يخرج من أي مصرف ينبغي أن يُقابله عمل ومشروع تنمية على الأرض وليس ليعود بفائدة معلومة، ثُمّ يقول: معدّل الفائدة للنّقد في السّوق ينبغي أن يساوي صفر. بمعنى أنّ الرّبا هو أساس الخراب! وأنا أقول معقّبا: أنّ ما قلتَهُ يا مٍسترْ موريس هو ما جاء في قول الله تعالى في قُرآننا: " الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا " في النّهاية، مصرع الإتّحاد الأوروبي أو قُلْ مصرع المال العالمي النّتن بدأ من اليونان وسينتهي في أمريكا ، وهذه الأخيرة قصّتها قصّة ، ربّما سنتحدّث عنها في مقال آخر إن شاء الله فإلى ذلك الحين دمتم بخير وعيدكم مبروك. مخلوف بريكي فرنسا