أستراليا تمنع يوتيوب للأطفال: وداعًا للخوارزميات الخطرة؟    المهدية: اللإنثين القادم إنطلاق حملة تحيين مراكز الاقتراع لفائدة الناخبين المعنيين بالتصويت على سحب الوكالة    تطاوين : وزير السياحة يؤدي زيارة ميدانية إلى ولاية تطاوين ويؤكد دعم السياحة البديلة ومتابعة المشاريع المعطلة    لجنة متابعة وضعية هضبة سيدي بوسعيد تؤكد دقة الوضع وتوصي بمعاينات فنية عاجلة    مع الشروق :الاعتراف... نصر أكتوبر الجديد    البطولة العربية لكرة السلة - المنتخب التونسي يفوز على نظيره القطري 79-72    مباريات ودية: انتصارات لكل من النادي الصفاقسي، النجم الساحلي والاتحاد المنستيري    طقس الليلة.. خلايا رعدية مع امطار بعدد من المناطق    لرصد الجوي يُصدر تحييناً لخريطة اليقظة: 12 ولاية في الخانة الصفراء بسبب تقلبات الطقس    الكاف: شبهات اختراق بطاقات التوجيه الجامعي ل 12 طالبا بالجهة ووزارة التعليم العالي تتعهد بفتح تحقيق في الغرض (نائب بالبرلمان)    شائعات ''الكسوف الكلي'' اليوم.. الحقيقة اللي لازم تعرفها    قبلي: يوم تكويني بعنوان "أمراض الكبد والجهاز الهضمي ...الوقاية والعلاج"    بورصة تونس تحتل المرتبة الرابعة ضمن قائمة اداء الاسواق العربية خلال الربع الثاني من 2025    عاجل: سوبر الأحد..الترجي بغيابات مؤثرة والملعب التونسي يسترجع عناصره    قرطاج يشتعل الليلة بصوت نانسي: 7 سنوات من الغياب تنتهي    الإدارة العامة للأداءات تنشر الأجندة الجبائية لشهر أوت 2025..    عاجل/ وزارة الفلاحة توجه نداء هام لمُجمّعي الحبوب وتقدّم جُملة من التوصيات للفلاحين..    تنبيه هام: تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق..#خبر_عاجل    بالأرقام: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية في عدد من الولايات..    شراو تذاكر ومالقاوش بلايصهم! شنوّة صار في باب عليوة؟    زغوان: حجز 735 كلغ من الأسماك الفاسدة كانت داخل براميل بلاستيكية كبيرة الحجم    عاجل/ تزايد محاولات القرصنة..ووكالة السلامة السيبرنية تحذر..    عاجل/ شبهات اختراق وتلاعب بمعطيات شخصية لناجحين في البكالوريا..نقابة المستشارين في الإعلام والتوجيه الجامعي تتدخل..    عاجل/ الحماية المدنية تُحذر من اضطراب البحر حتى وإن كان الطقس مشمساً..    عاجل/ توقعات بان تتجاوز درجات الحرارة المعدلات المناخية خلال فترة اوت-سبتمبر-اكتوبر 2025..وهذه التفاصيل..    18/20 وُجّه لعلوم الآثار بدل الطب... تدخل وزاري يعيد الحق لتلميذ باكالوريا    غدًا.. الدخول مجاني لجميع المواقع الأثريّة والمعالم التاريخيّة    جامع الزيتونة ضمن السجل المعماري والعمراني للتراث العربي    الشاب بشير يمتع جماهير مهرجان سلبانة الدولي    عاجل/ زلزال بقوة 5.5 درجات يضرب هذه المنطقة..    عاجل/ القبض على "بلوجر" معروفة..وهذه التفاصيل…    تحذير: استعمال ماء الجافيل على الأبيض يدمّرو... والحل؟ بسيط وموجود في دارك    "تاف تونس " تعلن عن تركيب عدة اجهزة كومولوس لانتاج المياه الصالحة للشرب داخل مطار النفيضة- الحمامات الدولي    المنظمة الدولية لحماية أطفال المتوسط تدعو إلى سنّ ضوابط لحضور الأطفال في المهرجانات والحفلات    غازي العيادي ضمن فعاليات مهرجان الحمامات الدولي: ولادة جديدة بعد مسيرة فنية حافلة    وزير التعليم العالي يتدخل وينصف التلميذ محمد العبيدي في توجيهه الجامعي    اتحاد الشغل يؤكد على ضرورة استئناف التفاوض مع سلطات الإشراف حول الزيادة في القطاع الخاص    إيقاف حارس ميسي ومنعه من دخول الملاعب    وفاة جيني سيلي: صوت الكانتري الأميركي يخفت عن عمر 85 عامًا    كيفاش أظافرك تنبهك لمشاكل في القلب والدورة الدموية؟    جثمان متحلل بالشقة.. الشرطة تكشف لغز اختفاء عم الفنانة أنغام    بعد إيقاف مسيرتها.. أنس جابر تتفرغ للدفاع عن أطفال غزة    الرضاعة الطبيعية: 82% من الرضّع في تونس محرومون منها، يحذّر وزارة الصحة    مباراة ودية: تغيير موعد مواجهة النجم الساحلي والنادي البنزرتي    البطولة العربية لكرة السلة: المنتخب الجزائري يتوج باللقب    سهرة قائدي الأوركسترا لشادي القرفي على ركح قرطاج: لقاء عالمي في حضرة الموسيقى    عاجل : القضاء الأميركي يوقف ترحيل آلاف المهاجرين: تفاصيل    الحوثي يستهدف مطار بن غوريون بصاروخ باليستي    موجة شهادات مزورة تثير تداعيات سياسية في إسبانيا    بطاطا ولا طماطم؟ الحقيقة إلّي حيّرت العلماء    (سنغفورة 2025 – أحمد الجوادي يتأهل إلى نهائي سباق 1500م سباحة حرة بتوقيت متميز    عرض كمان حول العالم للعازف وليد الغربي.. رحلة موسيقية تتجاوز الحدود    القصرين: منع مؤقت لاستعمال مياه عين أحمد وأم الثعالب بسبب تغيّر في الجودة    أعلام من بلادي: الشيخ بشير صفية (توزر): فقيه وأديب وشاعر درس في الجزائر وتونس    تاريخ الخيانات السياسية (33) هدم قبر الحسين وحرثه    وزارة التجارة تعلن عن تحديد أسعار قصوى للبطاطا وهوامش ربح للأسماك بداية من 4 أوت    هل يمكن لمن قام بالحج أن يؤدي عمرة في نفس السنة؟    شنوّة جايك اليوم؟ أبراجك تكشف أسرار 1 أوت!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الحداثة الشكلية ونبذ التراث : بقلم زياد حفوظي
نشر في الحوار نت يوم 12 - 11 - 2011

كيف نجد طريق التقدم ؟ الجواب سهل : أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم في الحضارة، خيرها وشرها حلوها ومرها، وما يحب منه وما يكره، وما يحمد منه وما يعاب، فنذهب مذهبهم في الحكم، ونسير سيرتهم في الإدارة، ونسلك طريقهم في التشريع .. هذا كان جواب طه حسين وهو يبشر العرب بطريق التقدم والحضارة الذي أبصره بازغا أمامه من وراء كثبان من رمال «التخلف» الشرقية وكان هذا سبب حملته على التراث وإشغال الأمة بمعركة وهمية حول التراث العربي وتشكيكه في كل ما تناقلته أسلافنا إلينا قائلا حسبكم ذاك تخلف إنما التقدم في السير على طريق سلفكم الصالح، لكن أي سلف ؟ إنه الغرب، السلف الصالح الجديد بالنسبة لدعاة الحداثة الشكلية. لذلك استنتج طه حسين بعد تشكيكه في التراث عن بكرة أبيه وازدرائه لكل ما بين أيدينا من مؤلفات وكتب فقهية وتشريعية ونماذج رائعة لفلاسفة وأدباء وخطباء، كل هذه المؤلفات حسب طه حسين كانت خبط عشواء لان الأصول التي بنيت عليها خيالية أو مختلقة أو محرفة لذلك كان الاستنتاج الذي خرج به أن الحضارة الحقيقية في إتباع الغرب ولا طريق للحضارة دون ذلك. إنك وأنت تقرا لطه حسين تحس فعلا أنك أمام رجل متنكر لأصوله أن صحت العبارة حتى أنه تتملكك الحيرة وأنت أمام الصدمات المتوالية التي تتلقاها من كلامه واستنتاجاته وحلوله لهذه الحضارة التي يبشرنا بها. لم يكن هذا المرض مقتصرا على طه حسين بل تعداه لغيره ممن تؤثروا بفكره من بعده وشاركوه حلوله. وفي هذا المسلك يمكننا آن ندرج أقوال سلامة موسى على سبيل المثال حيث يقول : «إنه إذا كانت الرابطة الشرقية سخافة فإن الرابطة الدينية وقاحة والرابطة الحقيقية هي رابطتنا بأوروبا (هكذا ؟)، فهي الرابطة الطبيعية لنا وكلما زادت معرفتي بالشرق، زادت كراهتي له وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وانأ منها، فانا كافر بالشرق مؤمن بالغرب، وهذا هو مذهبي الذي اعمل له طول حياتي سرا وجهرا». يذكرني هذا الحل في طالب فاشل لم يجد بدًا من سرقة إجابات زميله على أسئلة الامتحان بحلوها ومرها، صحيحها وخطئها، إنها إجابات متوقعة ممن لا فكر له ولا بعد نظر في تراثه وهي في الحقيقة إجابات سهلة يمكن لأي شخص أن يعيدها ويكررها هكذا. وهذا المسلك هو مسلك الحضارة العمياء التي تحيلنا على حضارة شكلية فقط لا غير إذ انها تتنكر لمبادئها ولاخلاقها وتحاول التنكر في زي الغرب المثقف، لكن سرعان ما يسفر هذا التنكر عن وجهه القبيح فلا نجد إلا أمثلة قديمة جديدة على التخلف الفكري الذي نتج عن هذا الفهم فبإمكانك تذكر مثال اتاتورك في تركيا وكيف أنه حارب طويلا من اجل تحويل الاذان من اللغة العربية إلى اللغة التركية وخاض معاركه العظيمة لتحويل اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية وكذلك في منعه للجبة والقميص والحجاب واستبدالهم بالملابس الغربية، وكذلك غيره ممن فشل في تأكيد منهجه بصفة علمية فسارع إلى القمع والقتل ومنهم «المجاهد الاكبر» الحبيب بورقيبة صاحب الجملة الشهيرة "نحن نقطع الرؤوس ان لزم الامر"
إن أخذ مفتاح التقليد الذي جاء به دعاة الحداثة الشكلية لباب غير موجود لا يمكن أن يسعفنا بشيء إذ ان واقعنا غير واقعهم ومشكلاتنا غير مشكلاتهم وتراثنا غير تراثهم وهذا لا يعني قطع الصلة بيننا وبين الغرب إنما هذا يعني فتح باب البحث الجدي ومراعات تراثنا وواقعنا وعدم النظر لمشاكلنا من برج عاجي لا يمكن ان نجني منه سوى سخافات الحلول والتي نعاني منها منذ قرن ونصف في تغريب فرض من قبل الاستعمار وخلفه تغريب فرض من قبل استعمار جديد لكن من بني جلدتنا كان سلاحهم فيه كما قلت القمع وخوض المعارك الوهمية في محاولة تغيير نمط عيش او مبادئ أو مجموع اخلاق هذه الامة، وبالنسبة لي فإني لا أؤمن أبدا أن الأخلاق أو المبادئ يمكن تغييرها بالقمع والفرض إنما ينبغي ان ياخذ المجتمع حضه لتصحيح ما يراه مناسبا وترك ما يراه طالحا ولا يمكن لامة أن ترضى السير مؤصدة الأعين في طريق امة اخرى ولا تفلح الوسائل القمعية أو الزجرية في ذلك. والمبادئ والاخلاق ليست متغيرة من عصر إلى عصر ولا يمكن ان تكون كذلك إنما هي محددة في قواعد ديننا وأصوله ولم يكن الدين الاسلامي أبدا تراثا ميتا لا حياة فيه فهو متجدد بحر لا ينفذ فيه أصول وقواعد فقهية تمكننا من الدمج بين تراثنا والواقع المعاصر دون الخوض في حروب لتغيير الواقع دون مرجعية مسبقة تمكننا من الاندماج في الحاضر وإيجاد مرجعية واضحة يمكننا الاستناد ولا شك أن هذا المسلك مسلك صعب تتداحل فيه العلوم بين ماهو ديني وماهو دنيوي ولكنه يبقى الحل الامثل والواقعي بدل التحديق صباحا مساءا في الغرب والأخذ بمبادئه واخلاقه وفلسفاته ومزجها بالعلوم الحديثة. فالتقليد إن كان اعمى لا يمكننا أبدا من اللحاق بالغرب فضلا عن تجاوزه لذلك يقول جمال الدين الأفغاني :»وأما من طلب إصلاح الأمة بوسيلة سوى هذه فقد ركب بها شططا، وجعل النهاية بداية، وانعكست التربية وانعكس فيها نظام الوجود، فينعكس عليه القصد فلا يزيد الأمة إلا نحسا ولا يكسبها إلا تعسا» ويقول أيضا : "ان العلاج الناجح لانحطاط الأمة الاسلامية إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها، والاخذ باحكامه على ما كان في بدايته فهي متأصلة في النفوس، والقلوب مطمئنة إليه، وفي زواياها نور خفي من محبته، فلا يحتاج القائم بإحياء الامة إلا إلى نفحة واحدة يسري نفسها في جميع الأرواح لأفرب وقت. فإذا قاموا وجعلوا أصول دينهم الحقة نصب أعينهم فلا يعجزنهم أن يبلغوا في سيرهم منتهى الكمال الإنساني"
أخيرا أقول .. أن امتنا الإسلامية بين جهلين، بين اناس حسبوا أن الدين مجرد احكام عبادية من ركوع وسجود وتطويل لحية وحجاب دون إداراك للمقاصد الحقيقية لهذه الاحكام وبين آخرين من الطرف الآخر حسبوا أن الحضارة الغربية هي تعرية للمرأة وصخب وطرب وعربدة وشرب خمر. يقول الباحث والدكتور لؤي الصافي: "إن العقل الذي صنع الحضارة الغربية الحديثة ليس العقل الهلامي المفتقد للمبادئ العلوية والقيمية والثابتة، والمستعد للتشكل وفق الإناء الذي يوضع فيه، لكنه العقل الواثق من ذاته ومن مبادئه، المتوثب إلى إعادة تشكيل واقعه الاجتماعي وفق مبادئ كلية تشكلت إبان الإصلاح الديني".
------------------------------------------------------------------------
------------------------------------------------------------------------
التراث بين النهضة اليابانية والنهضة العربية

هذا المقال هو استكمال للمقال السابق "في الحداثة الشكلية ونبذ التراث" وسأحاول في هذا المقال التركيز على ما قاله بعض الأساتذة في مقارنتهم للنهضة العربية والنهضة اليابانية علما أن النهضة العربية بدأت قبل النهضة اليابانية بل كان المفكرون اليابانيون يترجمون كتب رواد النهضة العربية مثل الطهطاوي وخير الدين التونسي. السؤال عن سبب نجاح النهضة اليابانية خلال القرن التاسع عشر وفشل النهضة العربية يتطلب أكثر من مقال وفيه أكثر من نقطة لا ينبغي غض البصر عنها، لكن سأحاول التركيز علة نقطة مهمة اعتبرها العديد من الأساتذة الدارسين للتجربة اليابانية ساعدت في نجاحهم وهي تمسك اليابانيين بهويتهم وثقافتهم حيث يقول الأستاذ مسعود ضاهر : (( برزت تيارات يابانية تدعو إلى التخلي عن التراث الياباني بكامل رموزه : اللغة، والآداب، ونظام التعليم، ونمط الحياة الإجتماعية وغيرها. ودعا بعض المفكرون اليابانيون صراحة إلى تبني الحرف اللاتيني، وأشكال السكن والطعام واللباس السائدة في الغرب. واعتبر بعضهم أن الحداثة تراث غربي محض لا يمكن أن ترسخ في الدولة بالكامل [إلا إذا تخلصت] من موروثها القديم واعتمدت الأشكال الغربية بحذافيرها في مختلف المجالات. ولكن محاولات التغريب تعرضت لانتقادات شديدة من جانب القوى الأساسية الفاعلة في المجتمع الياباني التي آمنت أن التحديث شيء والتغريب شيء آخر، وأن بامكان اليابان الاستفادة من جميع العلوم العصرية مع الاحتفاظ بكامل تراثها اللغوي والثقافي والفني، بالإضافة إلى عاداتها وتقاليدها الموروثة. فانتهت عملية الاقتباس عن الغرب بتبني الكثير من نتاجه التكنولوجي والقليل من انماطه السلوكية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفنية )). كما ذكر الأستاذ أيضا، وهو مؤرخ له كتب حول التجربة اليابانية ومقارنتها مع التجربة العربية، ذكر أن من بين المراحل الأربع التي مرت بها اليابان كانت المرحلة الأخيرة تدعو إلى التفريق بين العلوم الغربية وبين آداب وثقافة الغرب وكان شعارها هو "علوم غربية بروح يابانية".
إذا تستطيع ان تلاحظ أن الحفاظ على هوية الشعب وتراثه أمر مهم ادرجه المفكرون ضمن أسباب النهضة اليابانية، وهذا السبب نفسه أدرجه الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه وجهة نظر ضمن أسباب نهضة الغرب الحديثة إذ انهم صاغوا نهضتهم على أساس الإندماج في تراثهم المستمد من الثقافة اليونانية القديمة والرومانية مراعين في ذلك امرين، أولا ترجمة الكتب العربية التي حافظت على تراث اليونان وطورته، ثانيا عدم الذوبان في الثقافة العربية الإسلامية وفلسفتها. بل يؤكد الدكتور محمد عابد الجابري أن هذا الأمر من أهم ما تستند عليه أي حضارة هدفها النمو والإزدهار ويعطي امثلة عديدة في ذلك ليس هذا مجال لذكرها. كما يؤكد شكيب أرسلان هذه الحقيقة فيقول : (( إن ظفر اليابان بالصين لم يثبت علو الأفكار والمبادئ العلمية التي اخذتها اليابان عن الغرب وكفى بل أثبتت أمرا آخر وهو أن شعبا آسيوي بمجرد إرادته وعزيمته عرف أن يختار ما رآه الأصلح له من مدنية الغرب مع الاحتفاظ باستقلاله وقوميته وعقليته وآدابه وثقافته )).
الاختلاف بين النهضة اليابانية والعربية أن الاولى نجح فيها دعاة التمسك بالتراث وعدم نبذه وراء ظهورهم والتأكيد على لغتهم وثقافتهم ككل أما الثانية فقد كانت السيطرة فيها لدعاة التغريب الفكري، بعض النماذج أوردناها في المقال السابق، فكانت المعركة هنا "شكلية" بينما كانت عند اليابانيين في لب الموضوع بعدم الولوج في معارك وهمية لا تسمن ولا تغني من جوع بل كان التركيز على ما تضمنه شعار "علوم غربية بروح يابانية" من معان عظيمة وإدراك باهر مما أفرز المقولة الشهيرة للامبراطور الياباني "الحقوا بالغرب وتجاوزوه" بينما كانت المعركة عندنا محتدمة الوطيس حول تغريب اللباس وكان السؤال الأهم لدعاة التغريب أيهما أفضل الحجاب أم الملابس الأوروبية ؟ الجبة أم السروال الغربي ؟ الحروف اللاتينية أم الحروف العربية ؟ (كما حدث في تركيا) ثم سرعان ما تحول هذا الصراع، بعوامل كثيرة أبرزها الاحتلال المباشر، إلى إسقاط النموذج الغربي على الواقع العربي و الإسلامي فكانت النتيجة أن تحالف الغربيون ودعاة التغريب، بوعي أو بغير وعي، لسحق كل مقومات ثقافتنا وأولها الدين الإسلامي (انظر كتاب قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله) وثانيها اللغة العربية، وهذين الركنين إذا سقطا سقطت كلمة "ثقافة عربية إسلامية" وأصبحت بلا معنى، تماما كما نرى اليوم، إذ ان البعض يردد هذه العبارات في حين انها خالية من كل معانيها فيؤكد على سعيه لحماية الهوية العربية الإسلامية في حين أنه يكتب باللغات الأجنبية بياناته وكتبه ومقالاته وحتى كلامه (ههه تذكرت جو في كونفيونس اون بن آلي هععع قتلك اللغة الفرنسية تعبر خير) ولا يرى في حضارته الإسلامية إلا النقاط السوداء جاعلا مرجعيته هي شبهات وتخرصات المستشرقين وبذلك يصبح كالباحث على الزبالات في رحاب قصر التراث الإسلامي خاصة إذا كان في مناظرة مع دعاة التمكس بالتراث، بل تفعيله في الحياة، حيث يظهر لك واضحا بحثه المستمر على أي نقطة سوداء وعلى أي شبهة حتى يثيرها ويحاول استنادا عليها تجاوز التراث تماما دون أي عملية تمحيص وتدقيق فيه، مثله كالذي يريد تجاوز المراحل للحاق بالغرب بأي وسيلة كانت حتى ان كانت تجاوز التراث كله وسياسة القفز على المراحل، بل الأدهى والأمر هو سياسة تكميم الأفواه التي استمرت عندنا من عند دعاة "الحداثة" المزعومة لقرن ونصف مما جعلنا نجتر حوارات قرن ونصف اجترارا ولا نلاحظ أي تقدم في هذا الميدان فأفرز لنا صراعات متكررة صارت توصف بصراعات وحوارات منطقة الصفر، إذا استعرنا عبارة الأستاذ فهمي هويدي، ومن مثال سياسة حوار الحديد والنار ما انتهجه بورقيبة في تونس بشهادة احمد مزالي إذ قال هذا الأخير : (( عندما وضع المسعدي برامج تقضي على التعليم الزيتوني صادف ذلك هوى في نفس بورقيبة الذي يعتبر جامع الزيتونة موطنا للجمود )) وبهذه الطريقة المقيتة كان لبرقيبة الدور الأبرز في تحطيم مشروع الشيخ الجليل الطاهر بن عاشور، الذي يعتبره دعاة التغريب الفكري مجرد رجل جاهل ومن دعاة الجمود ولا يفتخرون بهذا العالم في الحقيقة، ساهم في تحطيم مشروعه والقضاء عليه بجرة قلم إذ أن الشيخ الطاهر كان قد أعد برنامجا لإصلاح التعليم الزيتوني وقد بدأ يعطيى اكله في الحقيقة وذلك من خلال كتابه أليس الصبح بقريب الذي خصصه لهذا الأمر، لكن سياسة القفز على المراحل كانت الأسهل بالنسبة لمخالفيه من أصحاب السلطة ففرضوا منهجهم القائم على القطع مع التعليم الديني والحد منه قدر الإمكان، كيف لا والأستاذة آمال قرامي تعترف فتقول : ((القضاء على التعليم الديني يعد مدخلا ضروريا لتتمكن الدولة الحديثة من علمنة المؤسسة التربوية وصبغ الدراسة بصبغة علمانية غير مقدسة ووضع الأخلاق على أسس نفعية)) وعبارة "القضاء" على التعليم الديني لها دلالات خطيرة في الحقيقة، كما أن كلمة "علمنة المؤسسة التربوية" تؤكد أن المسار الذي نسير فيه هو القضاء تماما على هويتنا في آخر معاقلها بعد القضاء على التعليم الزيتوني والكتاتيب وسياسة تجفيف المنابع. لكن ما يهمنا هو المخطط الذي ينظر إليه دعاة التغريب فإن الذي رفض تعريب العلوم (مشروع بدأ فيه العالم بشير التركي رجمه الله لكنه وجد أن مسير الوزارة الفعلي حينها فرنسا - انظر كتابه الجهاد لتحرير البلاد) وحتى إلقاء مجرد نظرة أو تحفيز أو تخصيص ميزانية في هذا الأمر لا يمكنه إلا أن يستمر في غيّه للقطع تماما مع الهوية الإسلامية بعد أن قطع شوطا هاما في تقويض اللغة العربية وكانت النتائج لهذه السياسة واضحة للعيان من تحقير للغة العربية واعتبارها لغة الصحراء ولا تصلح إلا لمصطلحات مثل "البعرة" و"البعير" حتى أن بعض "العرب" المستغربين الآن يعتبر أن تعريب العلوم والكتب والمؤلفات وآخر ما صدر في العلوم ضرب من ضروب تضييع الأوقات في حين أن اليونان فقط تترجم كل عام ضعفي الكتب المترجمة للغة العربية خلال نفس المدة الزمنية. وهذا الأمر هو ما أدركه الأستاذ مصطفى صادق الرافعي فقال في كتابه وحي القلم متحدثا عن النهضة العربية ((أنها لا تقوم إلا على أساس وحيد وهو غذا نهض الركنان الخالدان، الدين الإسلامي واللغة العربية، وما عداهما فعسى ألا تكون له قيمة في حكم الزمن)). إذا نتبين من الذي سقناه أن الاختلاف بين النهضتين هو أن المجال الفكري فتح على مصراعيه في اليابان، إضافة إلى ان الامبراطور -السلطة- كانت له إرادة للإصلاح وتقويم الأوضاع وهذا ما أكده الدكتور رشيد خشينة، في حين غاب هذا الأمر في بلداننا العربية حين تميز أغلب حكامنا بصفتين أساسيتين هي الغباء،بوعي أو دونه، أو الديكتاتورية وكثيرا ما كانتا صفتين متلازمتين، دعك من العمالة للغرب والسير تحت مشروعهم التغريبي فهو أمر واضح لا يحتاج لتنصيص. وكانت نتيجة هذا الأمر أن حدثت عملية إجهاض فكرية على مدار قرن ونصف، و ((عندما يتخلف القانون او تجف أوراق الحرية يتوقف التقدم، ويصاب الفكر بالعقم ويقضي الناس أعمارهم في الأنين)) كما قال الإمام محمد عبده. وها نحن نكتشف أبعاد قوله حين غابت الحرية الفكرية ووجدنا أنفسنا في الأنين كالعادة لا نكاد نتقدم بخطوة إلا لنتأخر بخطوتين ونحن لا نغادر ثنايا الدكتاتورية المسلطة من قبل السلطة أو الديكتاتورية الفكرية المسلطة من قبل الخلايا النائمة التي كانت تغذي السلطة والتي أطلق عليها زورا وبهتانا النخبة المثقفة، وذكر الأحداث والأقوال المسلطة من قبل دعاة التغريب على مخالفيهم كثيرة، ولا تحسب أن "التكفير" من جهة واحدة وإنما هي من الجهتين فنجد مصطلحات مثل متطرف / رجعي / ظلامي / ... وغيرها من العبارات التي تعتبر نوع من "التكفير"، بما أن التكفير في عصرنا صار انواع، ساكتفي بحادثة تدل على مدى التغريب الفكري الذي نعيش فيه، وهي التي ستبين لك إلى أي حد وصل التطرف العلماني، إذ يقول المخرج السينمائي خميس الخياطي في كتابه معلقا على الشيخ عبد الله المصلح الذي أفتى لامراة تونسية بوجوب لبس الحجاب في عملها يقول : (( مثل هذا الرد هو تعدّ على نظام معيشي إختارته أغلبية الشعب التونسي منذ ما يقارب النصف قرن حتى وان لم يكن هذا الاختيار عن صناديق الاستفتاء، ومن من حكام العرب يستفتي شعبه آنذاك في منتصف القرن الماضي ؟ )) وانظر إلى الكم الهائل من المتناقضات في هذين السطرين من مخرج سنمائي كان حريا أن يقدم برامج تفيد الأمة وتساعد على تطويرها عوض أن يقدم لنا كتابا هزيلا يسعى فيه أولا لتبرير القمع وثانيا للتنكر للهوية شعب مسلم يعتز بإسلامه بله أن تكون الفتيات المحجبات من أكثر الناس اللاتي أعتدي عليهن ولا ينتصر لهن ثم يزعم أنه مع الحرية، فهو لا ينكر على النظام إنما يبرر قمعه ويطالب المحجبة بالالتزام بالنظام الذي اختاره الشعب ثم يناقض نفسه مرتين فتارة يقول لم يختره عبر صناديق الاستفتاء وأخرى يقول من من الحكام يستفتي شعبه؟ ولا أدري إذا كيف اختار هذا الشعب هذا النمط المعين ولا أدري إذا كانت الديمقراطية تعني ديكتاتورية الأغبية وقمع الأقلية في نظره فما بالك ان كانت الأغلبية مسلمة معتزة بدينها، هذا في الصفحة 132 من كتابه تسريب الرمل، وتفهم ما في قلب الرجل حين تعلم انه يصف الحجاب في الصفحة 165 بالخرقة وأن المحجبات يفرضن عليه "ضيقا" إذا ظهرن في التلفاز وكُنّ صحفيات ثم يستمر في هذه الأفكار المستوردة فيقول أنهن (( لا يفصلون فصلا قاطعا بين وظيفتي الصحفي أو المنشط وقناعاته الدينية)).
هكذا انخرط "مثقفونا" في إجهاض النهضة العربية وواجبهم الآن أن يكفّوا عن "تكفيرهم" لمخالفيهم فمن انخرط في تبرير قمع النظام وتغريب شعبه بإلزامه بأفكار غربية وتزيين الديكتاتورية بقناع للحرية واعتبار الحجاب والنقاب والجلباب والصلاة والصوم والزكاة وغيرها من الأمور الدينية مجرد "تفاهات" وسفاسف الأمور ثم من بعد التضييق على الدين التضييق على اللغة وإخراج الشعب من وحدته الإسلامية أولا ثم القومية وحصره في دول قطرية، لا ينبغي له أبدا أن يعيد نفس الخطأ ويحاول الانخراط في قمع إرادة الشعب بالتعاقد مع السلطة من أجل لقمة عيشه، فبعد الثورة السيد هو الشعب وله تقرير مصيره دون حاجته للنقبة الفاشلة.
يقول جمال الدين الأفغاني : (( لقد علمتنا التجارب أن المقلدين من كل امة المنتحلين أطوار غيرها يكونون فيها منافذ لتطرق الأعداء إليها وطلائع لجيوش الغالبين وأرباب الغارات، يمهدون لهم السبيل، ويفتحون امامهم الأبواب، ثم يثبتون أقدامهم )) وقد صدق رحمه الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.