"أود لو آخذك بيدك فاقتادك، كما اقتاد فرجيل وأنثى، في جحيم المدينة القديمة، وأطلعك على طبقة فوق طبقة من أناس يتلوون مرضاً، وأطفال ينافسون الكلاب على عظمة في القمامة، ونساء "يزعقن" لله من الجوع في أحشائهن. * ولسوف ترى هناك رجلاً يطعن آخر بسكين من أجل قرش، ونساء تنشب البعض أظفارها في وجوه بعض من أجل بضعة دريهمات اكتسبها ولد لهن هزيل مصفر. ولعلك حينئذ يغمى عليك وتقع أرضاً كالجثة الهامدة"، استعدت هذه المقطع من رائعة جبرا إبراهيم جبرا "صراخ في ليل طويل"، وأنأ أضع أول خطوة داخل حي علي الرملي بالسمار "جسر قسنطينة"، أين تقع اكبر إمبراطورية للقصدير بقلب العاصمة. قد يبدو صعبا أن نصدق أن الحي لا يبعد إلا خطوتين عن اكبر الإدارات والمرافق الحيوية، وأنه يقع في عاصمة البلد، ولكنه الواقع فعلا، حيث تغيب في هذا الحي أدنى شروط الإنسانية، عائلات بأكملها تقتات من المزابل والخردة، وأطفال يشتغلون في بيع أسلاك النحاس عوض الذهاب إلى المدارس، هنا أيضا يشارك البشر الجرذان والثعابين في مصب وادي الحراش وتنتشر الأمراض، ولكنه يدر أيضا ثروة على أصحابه من تجارة الخردة. * الدخول إلى حي "علي الرملي" قد يكون محفوفا ببعض المغامرة، خاصة للغرباء، ذلك أن أهله سرعان ما يكتشفون أمر الدخلاء ويتحفظون في الحديث إليهم، وإذا أردت أن تسال عن أي شخص، فستكون مجبرا أن تذكر كنيته في الحي والجهة التي جاء منها، لأن هنا ينسب الإنسان لمكانه الأول الذي قدم منه، فمن حومة السطايفية، وحومة الجواجلة، إلى باش جراح والحراش وغيرها من مناطق الوطن حتى صار الحي عينة ممثلة للجزائر بكاملها. * عل، يسكن هذا الحي منذ أزيد من 10 سنوات، هوالقادم من الشرق الجزائري، أجبرته أزمة السكن وغياب فرص العمل على المغامرة تجاه العاصمة بحثا عن فرصة أفضل، حيث قضى سنواته الأولى في التنقل بين عدة مهن مؤقتة بين طاولات الخضر وحافلات النقل في باش جراح قبل أن تجبره ظروف الحياة أخيرا على استقدام عائلته إلى العاصمة و بناء "براكة" هنا بمساعدة أبناء منطقته، قبل علي أن يرافقنا في جولة إلى الزوايا الخلفية لهذا الحي الكبير أو الإمبراطورية، واستطاع أن يقنع بعض رفقائه بالحديث إلينا، يؤكد علي أن آخر إحصاء عرفه الحي يعود إلى سنة 2007 عندما أقدمت السلطات على تسجيل السكان وإصدار بطاقة مقيم التي تعنى أن المسجل هنا له حق الحصول على سكن لاحقا، وصار الحي تابع إداريا لبئر مراد رايس، كما استفاد أيضا من الماء و الكهربا. *
إمبراطورية الخردة، النحاس ب300 دينار للكيلو غرام، والحديد مادة نادرة * يقول مرافقنا، وأن الحي أحصى وجود 2885 ساكن منهم 800 مستفيد من السكن، ولكن الغالبية اختارت العودة إلى هذا الحي، لأنها مستفيدة من تجارة الخردة، فكل شيء هنا يباع من محركات السيارات إلى الحديد والنحاس وبقايا البلاستيك، حتى أن البعض منهم نجح في بناء ثروة لا بأس بها من هذه التجارة التي لها زعماؤها هنا، ولكن يمارسها حتى الأطفال، وصارت تدر الأرباح على أصحابها، إذ لم تعد من الأشياء المثيرة أن تصادفك سيارات فخمة وجديدة وهي تخرج من بين أكواخ، ولا من قبيل الاستغراب أيضا أن نجد حافلات النقل الصغيرة مركونة قرب أحد بيوت الكارتون. * كان مرافقنا مشغولا بالحديث رفقة السائق، فاغتنمت الفرصة لأسئل بعض الأطفال عن تجارتهم، فأخبرني احمد، الطفل ذو العشر سنوات، انه يشتغل في بيع الخردة من أسلاك النحاس التي تباع بسعر 300 دينار للكيلوغرام والبلاستيك بسعر 50 ينارا للكيلوغرام، بينما الحديد الذي يصل سعره إلى 500 دينار غير متوفر في السوق، لذا فهو عملة نادرة جدا. * ونحن نغادر الأطفال ونتوغل داخل الحي، كنا نصادف أفواج الشباب والمراهقين وهي تذرع الطرقات الملتوية، حاملة أكوم النحاس والبلاستيك، كانوا يتفحصون الطريق بعيون النسور عساهم يعثرون على شيء ما يصلح لبيع البضاعة التي جمعها هؤلاء الذين يقضون نهارهم متجولين بين الأسواق المجاورة ومحاشر السيارات يجمعون أكوام الخردة في آخر النهار على أسطح البيوت أو في أماكن خاصة أمام الأبواب وفي الأزقة الخلفية. "كل السكان حولوا بيوتهم إلى مخازن للخردة" قال مرافقنا، وكأنه قرأ فجأة ما كان يجول بخاطري، وأردف مشيرا إلى كهل كان يعبر الطريق في هيئة حزينة "ترين هذا المخلوق، يملك هنا 10 بقرات ويدير تجارة الحليب". * على طول الطريق، كنت استمع إلى حكايات علي المثيرة عن هذا الحي الذي يضم خليطا من البشر والظروف والأسرار التي كان هو يرويها بثقة ودقة مدهشة، استمد تفاصيلها من مهنته كقابض حافلة بين باش جراح والحراش، الأمر الذي يجعله على علم بأدق تفاصيل اليوميات بما فيها أسعار البيع والشراء "في البراكات" التي وصل سعرها مؤخرا إلى 60 و70 مليونا للبراكة، هذا إن وجدت أصلا، فقد صار الحصول على براكة صعبا، خاصة بعد عمليات الترحيل المتكررة التي عرفتها العاصمة مؤخرا واستفاد منها أصحاب المساكن الهشة والقصديرية، حيث فتح المجال واسعا أمام السماسرة والمضاربين للتجارة بمآسي الناس وأزمة السكن التي ضربت بخناقها على الشباب. * السيارة تنزلق مثل حية عظيمة بين الأزقة الضيقة والمغبرة والتي تتحول إلى سيول ومستنقعات في فصل الشتاء، وتصير الحياة هنا مستحيلة، كنا نتوغل في الحي باتجاه حومة التوانسة وهو أقدم حي قصديري بالعاصمة، وربما في الجزائر، حيث يعود تاريخه إلى بدايات الاستقلال عندما ضم مجموعة من أعضاء الجالية القادمة من تونس الذين استوطنوا الحي قبل أن يختلطوا بغيرهم من الجزائريين، البعض يسميهم "بني عداس" أو "الغجر"، يحيون حياة جد قاسية هنا، حتى مساكنهم لا تبدو أكثر من كارتون وقش ومجموعة من الخرق البالية. كلما توغلنا داخل الحي زادت الأوضاع سوءا والحي خطورة حتى وصلنا إلى طرف وادي الحراش الذي يخترق هذه المساكن بروائحه وقاذوراته، مثل سد منيع، انتصب شاب أمامنا وحاول أن يمنعنا من التصوير وهو يبدي عدوانية زائدة تجاه كاميرتي الصغيرة التي حاولت أن أجعلها غير مرئية أمام هؤلاء، غير أن تدخل علي الذي استغل نفوذه هنا جعل الأمور تمشي بهدوء، حاولنا أن نتحدث مع بعض السكان الذين على ما بيدو أنهم ألفوا هذه الحياة ولم تعد الاحتجاجات عن الأوضاع تفيدهم أو تعنيهم، لذا انخرطوا في البحث عن حلول عملية لمشاكلهم اليومية، هنا تستحضر صور الأحياء الفقيرة في الهند وبنغلادش في الأفلام القديمة، أطفال حفاة عراة، تعلوهم الأوساخ، طبقات طبقات، ولكنها لم تنجح في التغطية على ملامح الجمال الغجري الصارخ، إذ كانت عيونهم الخضر تلمع أشعتها بفرح طفولي، متحدية واقعهم. بمحاذاة وادي الحراش، كانت جماعة من الأطفال غارقة في اللعب دون الاهتمام بتفاصيل المشهد الذي بدا لي صادما، وأمام إحدى "البراكات"، كانت مجموعة أخرى منهمكة في فرز كومة من الخردة في انتظار تسويقها اغلبهم كانوا متحفظين في الحديث عن واقعهم ومشاكلهم فقط، شيء واحد أكد عليه احدهم في حديثه إلينا هو مد طريق جديد بمحاذاة السكة الحديدية حتى يتمكن الأطفال من اختصار الطريق إلى المدرسة، غير أن مرافقنا أسر لنا فيما بعد، أن اغلب الأطفال هنا لا يذهبون إلى المدارس بل وغير مسجلين أصلا في الحالة المدنية، وطريق السكة الحديدية يتحول في صباحات الجمعة إلى طوابير من المتسولات اللواتي يخرجن من هذا الحي في انتظار أن تقلهن سيارات كلونديستان لتوزعهن على أحياء وشوارع العاصمة، وقد تصل أجرة اليوم في هذه السيارات إلى 1500 دينار، كما أكد لنا أحد السائقين لاحقا، إذ أن ما تجنيه هاته النسوة يوميا ليس بالشيء الهين. * نقلنا علي إلى الطرف الآخر من الحي الذي تقطنه أغلبية جزائرية، حيث قمنا باستجواب بعض زوجات وعائلات أصدقائه الذين أكدوا لنا أن الحياة هنا صعبة، خاصة في أيام الشتاء، حيث تتراكم البرك والأوحال ويصير المرور من هنا أمرا في غاية الصعوبة، كما اشتكت إحدى السيدات من بعض المشاكل التي يعرفها الحي، خاصة ليلا من المشاجرات التي تقع بين الشباب والمراهقين، يستعمل فيها حتى السلاح الأبيض وهي في اغلبها مشاجرات تقع بين المدمنين الذين ينتشرون ليلا هنا، حيث يتحول الحي إلى ملاذ آمن لتجار المخدرات والسراق، لهذا ربما فكر القائمون على الأمر في إنشاء مركز للدرك الوطني عند المدخل القريب من سكة الحديد لضبط ما يمكن ضبطه في مكان لا يعترف بالقانون، حيث صار هم أغلب الأمهات هنا هو ضمان طريق آمن لأولادهن للذهاب إلى المدارس، خاصة في أيام الشتاء، أين يضطر بعض ممن حالفهم الحظ في الالتحاق بالمدارس إلى قطع مسافات طويلة وسط البرك والحفر، الأمر الذي دفع ببعضهن إلى نقل أطفالهن للدراسة عند الأقارب، خاصة وأن تربية الأولاد هنا صارت مهمة صعبة جدا تقول إحداهن في ظل انتشار عدة آفات مثل السرقة والمخدرات والتي أفرزها واقع الحياة. * ونحن نغادر حي علي الرمليو بقيت نظرات علي وعادل وجمال تطاردنا وتثير فينا الأسئلة: كيف سيكون مستقبل من نشأ على ضاف وادي الحراش؟