لم يكن المطر المتساقط في الطرقات أشدّ غزارة من سيول عينيها الجارفة حين كانت مسرعة الخطى تتلمس طريقها وهي تمسك بيد طفلها في الشارع الذي احتله الضباب صبيحة ذلك اليوم فستر بعضا من انكسارها بعدما غادرت المكتب التابع للمحكمة الشرعيّة الذي استدعاها لأمر ضروري خاصّ بزوجها الغائب.. ولم تكن حنان على دراية بما ينتظرها وهي تستعد للذهاب إلى المحكمة، كما لم تكن تعلم أنّها ستتلقى صفعة قوية آتية إليها من زوجها كعربون لسنوات الوفاء، هذا الذي لطالما ادعى الوصال بها والهيام في حبها، هذا الزوج الذي تركها منذ خمس سنوات وهاجر من أجل تحسين وضعه المادي على أمل أن يصطحبها لاحقا بعد أن يستقر وضعه في العاصمة الفرنسية.. لكن الوعود لم تنفّذ والصلّة به انقطعت بعد انقطاع أخباره، ولمّا لم تسمع منه ولا عنه شيئا لمدّة ثلاثة أشهر ظنّت أنّ مكروها أصابه أو حبسه عنها طارئ خطير.. ومن طيب قلبها وحبّها الكبير له كانت تؤدي دور المحامي في وجه الإشاعات والدعايات التي يهمس بها الأقارب والجيران هنا وهناك ولتفنّد كل ذلك وتطرد الشكّ وتحدّ بينه وبين التسرّب لها كانت تكثر من عبارة " الغايب حجّته معه".. رذاذ المطر يرشّها وكأنّه يزيل الغبار عن الماضي بدلا من أن يزيل من ذاكرتها المثقلة ماض أليم.. هي تائهة في زحام الضباب والضبابيّة.. تجرّ ابنها جرّا على غير هدى، تتحدث إلى نفسها عن حسام الشاب الهادئ ابن الحيّ الشعبي الفقير الذي أحبته ووقفت من أجله في وجه أهلها حين رفضوه ها هو قد تركها ليعيش في باريس بالقرب من نهر السين ويتنزّه على ضفافه.. ليأكل ويشرب ما طاب له غير آبه بالمرأة التي خلّفها وراءه في سنّ صغيرة وهي تحمل في أحشائها طفله الأول.. غير آبه بها أجائعة كانت أم لا!!... وما ذنب هذا الصغير الذي تيتم ووالده على قيد الحياة؟!! بكت بحرقة كما لم تبكِ من قبل وهي تتذكر كيف أنّها لم تتعب أبدا ولم تكلّ رغم ما كانت تسمعه من أهلها وممن حولها من كلمات شماتة واستهزاء وهي تروح وتجيء إلى السفارة الفرنسيّة في محاولة منها للوصول إلى معلومة تطمئن قلبها على من أودعت لديه نفسها فخذلها لينساق وراء حسناوات أوروبا ليس هذا فحسب بل ليرسل لها عندما تذكرها بورقة طوت سنوات انتظار قاتمة.