أن يترصد منافسو النهضة أخطائها ويضخموا هناتها ويصطفوا لتعطيل انجازاتها ..كل ذلك متوقع من قوم مارسوا السياسة أو مسخ منها في مناخ عديم الأخلاق وبمعية نظام لا أصالة له في المجتمع، ولا شك النهضة قد تحسبت لذلك وتسلحت بخبرة قياداتها وبالتوكل على الله قبل ذلك. وأن يشارك الإعلام ، بصحفييه وإعلامييه ومجموعات الضغط التي وراءه وتدفعه، في الحرب المعلنة والخفية على مشروع النهضة وحلفائها فيسلط كل بنادقه على أتفه الأسباب وأقلها أهمية ليفجر بها حروبا إعلامية ويزرع بها شكوكا ومخاوف في فترة شديدة الحساسية، ويوجه حرابه كلها إلى صدر النهضة الذي لا يكاد يبرا من جراحه القديمة ..فهذا أيضا غير مستغرب باعتبار منشأ وولاء وتاريخية المؤسسات الإعلامية التونسية الحكومي منها والخاص، بل قد يكون غريبا لو التزمت هذه المؤسسات الحياد الآن بالتحديد في أول اختبار للسلطة الشرعية في تونس لأنها ستناقض طبيعتها التآمرية التي جبلت عليها سنين طوال زمن المخلوع. ثم أن ينخرط بعض الأشخاص، حتى لا نظلم أحدا، من النخبة التي تسمي نفسها تقدمية وحداثية في إثارة مواضيع وقضايا خلافية مهما كانت أهميتها ويدفع بها جزافا دون إطار منظم للحوار ودون ترتيب للأولويات القصد منها خلق أجواء مشحونة تزيد من توتر ومخاوف التونسيين ...فهو كذلك من قبيل المعلوم لأن هؤلاء لا حياة لهم إلا في ظل الدكتاتورية التي تفرضهم على الشعب التونسي العربي المسلم. كل هؤلاء قوم خبرتهم النهضة وعلمهم الشعب التونسي، ولن يشكلوا خطرا على الدولة ولا على المجتمع لأن مخططاتهم مفضوحة وأساليبهم معلومة. وقد جربوا ذلك قبل الانتخابات فلم يفلحوا وهم على ذلك سائرون بل إنهم كلما أمعنوا في سلوكهم ذاك ازدادوا عزلة وباؤوا بفشل وغضب من كافة الشعب التونسي الذي لا يقبل أن تسرق ثورته التي جسدها يوم 23 اكتوبر 2011 بإرادة حرة وقد يعاود تأكيدها على الميدان متى كان ذلك لزاما. فمما يخشى إذن على النهضة وعلى الدولة الوليدة التي تتقدم نموذجا لبقية الثورات العربية ويرقبها العالم بأمل ورجاء كبيرين؟ ما هو إذن الخطر الحقيقي الذي يترصد الثورة والسلطة الشرعية الأولى في تاريخ بلادنا الحديث؟ أن لا تعي النهضة، كتيار فكري وجماعة إسلامية، أنها اختيرت من الشعب التونسي ليس للحكم فالحكم وسيلة وليس غاية، وهم لذلك مدركون لاشك، وإنما طلبت النهضة لقيادة الثورة الحقيقية، لمواصلة الزخم الثوري ليس فقط على النظام وبقاياه أو فضلاته وإنما لمواصلة الثورة التي لم تخرج موجاتها العميقة بعد: الثقافية والاجتماعية والحضارية بصورة عامة...الشعب التونسي كجزء من الشرق العربي المسلم يطلب إعادة التمركز عالميا وإنسانيا بعد فشل التحديث القصري للنخب العلمانية وبعد فشل الإحياء القصري أيضا للقاعدة والجهاديين كذلك بعد ازدياد الفجوة بين نموذج الإسلام كما تقدمه التيارات السلفية وبين عموم المسلمين في بقاع عديدة من العالم. إذن فالمهمة اكبر بكثير من تشكيل حكومة تضم الفاعلين السياسيين في تونس، وأخطر من الاستجابة لمطالب ملحة لفئات كثيرة من الشعب الفقير والمهمش أو استرداد حقوق المظلومين ومحاسبة الفاسدين ...فهذه كلها لافتات تجزء الهدف الأكبر للثورات العربية وهو استعادة الذات العربية المسلوبة منذ قرون بالعودة إلى تحقيق ذاتها بالكثافة والمقومات التامة والمباشرة. الشعب العربي المسلم يريد أن يكون سيد نفسه متصالحا مع ذاته وهويته وتاريخه دون ان يشترط عليه في ذلك الانغلاق والتصادم مع الأخر المتقدم الغني الذي تفيض منه الحضارة والرفاهية والمتعة، إنها معادلة قد لا تصح في السياسة كعمل قريب ولكنها تدرس في التاريخ ولا شك لها مبرراتها الفلسفية والسوسيولوجية. الخطر إذن ان يستنفذ النهضة هذا السجال العقيم السطحي ولا يسعفها ذلك من الإعلان مباشرة وبسرعة عن مشروعها الحضاري وتقديمه على نطاق واسع من المجتمع التونسي وهو مجهود سوف يقتضي من النهضة ليس أداء حزبيا شبيها بما حصل في الحملة الانتخابية وإنما هذا الامر يتطلب عملا مؤسساتيا في مجالات الاتصال والاعلام والعمل الاجتماعي والفكري والثقافي ...وهذه مجالات تتطلب خبرات وكفاءات لا تفتقر إليها النهضة ولا حلفاؤها ولكن مع ذلك يخشى ان لا يستطيع الحزب بهياكله الحالية أداء هذا الدور. نعم لا يخشى على مشروع النهضة إلا منها ...أي من قواعد النهضة التي لا تفرق بين العمل الحزبي، الذي تتميز فيه النهضة بقدر كبير من الديمقراطية والحرفية على غيرها من الأحزاب، وبين العمل الثقافي والاجتماعي الذي سيكون الرافد الأساسي للأداء السياسي وإذا لا قدر الله لم تستوعب الإطارات الوسطى والدنيا للحركة هذا الدور الخطير والعاجل قد تفوت على النهضة مواصلة قيادتها للثورة في المدى القريب والمتوسط. ولعله من المؤشرات على هذه المخاوف ان العديد من المسؤولين في المكاتب الجهوية والمحلية، على انضباطهم التنظيمي ومكابدتهم يوميا وتفرغهم للعمل الحزبي بشكل غير مسبوق، ليسوا على مقدرة بتقديم ونشر مبادئ الحزب ومشروعه في أبعاده المختلفة ولذلك يجد الناس اختلافا بين ما يسمعونه من القيادة وما يختبرونه من القواعد المباشرة لهم يوميا..وهذا امر يجب ان لا يطول فيزيد من الفجوة بين المركز والاطراف. كما أنه بدات تظهر بعض السلوكات التقليدية المعمول بها في الأحزاب وليست من قبيل ما كان يعرف في عمل الجماعة حيث الصفوف المتراصة والتعامل الأفقي بين جميع المنتمين للحركة والحال أن الوضع اليوم علني لا خوف فيه ولا مطاردة، بينما عمليا بدات تتشكل مجموعات تحيط بالقيادة الوطنية والقيادات الجهوية تقوم مقام الطبقات الحزبية أو الدوائر حيث تتداخل مقاييس التصنيف والتكليف وهو ما يشعر فريقا ما بالحيف او التهميش ...وهذا قد يكون عرضيا في حركة النهضة ولكنه خطير لو تواصل لأنه سلوك الأحزاب التي يختلط فيها الحزب بالدولة بمعنى الحزب الحاكم وهذا ليس نهج النهضة بالتأكيد بل من الضروري أن يحتفظ الحزب في هذه الحالة بالبعد التربوي التثقيفي سيما في المدة القريبة. الحلقة الوسطى في كل ذلك الاغلبية الصامتة او لنقل مجموع التونسيين الذين يترقبون ليسوا إلى هؤلاء ولا إلى أولائك ولكنهم متحفزون لاكتساب أحد الموقفين فإما أن يكون أداء النهضاويين ومن يدور في فلكهم أسبق إلى إدماجهم في المشروع أو لا قدر الله ينقلبون إلى موقف المعطل مدبرين وفي هذه الحالة لن تجهض الثورة ولكن سيسلم المشعل من يقدر على استيعاب الموجات القادمة من تسونامي الثورات العربية. جعلنا الله جزءا من هذا الزحف مقبلين غير مدبرين...الله آمين