ثالثًا: علّة مشروعيّة القتال في الإسلام هو الظلم لو تدبّرنا القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بنظرة متجدّدة متحرّرة من فهوم الآباء (العلماء) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ). [البقرة:170]، سنجد أن فلسفة القتال في الإسلام ومشروعيّته تدور حول معنى وعلّة أساسيّة هي الظلم سواء كان ظلمًا إسلاميًّا أو يهوديًّا أو مسيحيًّا لا الكفر واختلاف المعتقد والدين، ولنتدبّر قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). [الحج:39]، فهذه الآية صريحة الدّلالة بأن النصرة الإلهيّة والإذن بالقتال شُرعت للذين وقع عليهم الظلم بما يؤكد أن مشروعية القتال كحكم قامت على علّة الظلم، والحكم يدور مع العلّة وجوبًا وعدمًا كما يقول علماء الأصول لا على علّة الكفر واختلاف المعتقد والدين، ويتعزز هذا الفهم بمنهجيّة تفسير النصّ بالنصّ بقوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). [العنكبوت:46]، ففي هذا التوجيه الإلهي الصريح بيان لوسيلة تغيير معتقدات الآخرين بأنه الحوار والجدال بالتي هي أحسن والبلاغ والتذكير، واعتبرت هذه الآية أن الحوار والجدال هو الأصل في التعامل مع أهل الكتاب (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، والقتال والحرب هو الاستثناء لمن ظلم المسلمين من أهل الكتاب بالاعتداء عليهم (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ). وهذا الاستثناء بقتال أهل الكتاب ارتكز في القرآن على علّة الظلم لا علّة الاختلاف العقدي، ولم تكتفِ الآية ببيان وسيلة تصحيح معتقدات الآخرين وأفكارهم بأنه الحوار والجدال، بل علمتنا أدب الحوار نفسه، فجعلت شرط هذا الحوار أن يكون بالتي هي أحسن (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، والأمر بالمجادلة بالتي هي أحسن منطوقًا دلّ على النهي عن المجادلة بالتي هي أسوأ مفهومًا كما يقول علماء الأصول، إضافة إلى أداة الاستثناء حصرًا وقصرًا. أليس في هذا البيان القرآني البديع دليلاً ساطعًا على احترام الإسلام لاختلاف الناس في العقائد على قاعدة حريّة المعتقد والبلاغ. - ويتعزّز هذا الفهم بمنهجيّة تفسير النصّ بالنصّ بأنّ البلاغ والحوار هو وسيلة تصحيح معتقدات الآخرين لا القتال والسيف بالآيات القطعيّة التي أمرت الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالبيان لأهل الكتاب والبلاغ و محاورة أهل الكتاب مع الاحتجاج عليهم بما في كتبهم لا بما في القرآن فحسب؛ فمن الآيات التي دلّت على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بعث مبيّنًا لأهل الكتاب ومبشّرًا ومنذرًا قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). [المائدة:19]، (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ). [المائدة:15]. ومن الآيات القطعيّة الدالّة على أن الرسول قد أمر بالبلاغ لأهل الكتاب لا القتال قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ{67} قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{68} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). [المائدة:69]. ومن هذه الآيات نستفيد معاني جمّة أهمها:- 1- أن الله سبحانه وتعالى أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالبلاغ لأهل الكتاب لا بالقتال في سياق تصحيح انحرافاتهم العقديّة بما يعزز فهمنا السابق بأن اختلاف العقائد لا يوجب القتال، وإنّما الحوار والبلاغ. 2- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بلاغه لأهل الكتاب ومحاورته إيّاهم لم يحاججهم بالقرآن وإنما بالتوراة والإنجيل؛ لأن هذا الأسلوب هو أقوى أنواع الحجج عبر مطالبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأهل الكتاب بإقامة التوراة والإنجيل والعمل بما فيها لا بكتب التفسير التي كتبها الأحبار والرهبان، فغطّت، وأخفت الكثير مما في كتب أهل الكتاب (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ). [المائدة:68]، ويتعزّز هذا الفهم بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما جادل أهل الكتاب وحاورهم بما في كتبهم؛ لأنها حجّة عليهم بقوله تعالى: (قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {93} فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{94} قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).[آل عمران:[93-95]، وقوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). [القصص:49]. 3- في إطار هذه الآية الآمرة للرسول -صلى الله عليه وسلم- بالبلاغ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ). نورد آيات تدلّ على أن مهام الرّسل والرّسول -صلى الله عليه وسلم- في إطار اختلاف العقائد هو مجرد البلاغ والتذكير والإنذار والتبشير لا مقاتلة الآخرين حتى يسلموا بقوله تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). [النور:54ٍ]، فهذه الآية دلت دلالة قطعيّة بأنّ مهمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إطار تصحيح المعتقدات الخاطئة هو مجرد البلاغ فحسب و (ما) النافية وأداة الإستثناء (إلاّ) تفيد الحصر والقصر كما يقول علماء اللغة، حتى وإن أعرضوا من بعد البلاغ فمهمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي مجرّد البلاغ والتذكير بدليل قوله تعالى بمنهجيّة تفسير النصّ بالنصّ: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ). [الشورى:48]، أي إن أعرضوا بعد البلاغ والحوار والمجادلة والتذكير والبيان فقد أديت واجبك ولم ترسل عليهم وصيًّا وحفيظًا، ويتعزز هذا الفهم بقوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ{21} لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ). الغاشية، وقوله تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ).[ق:45]، فهذا التواتر بالاستدلال بالآيات وربط بعضها ببعض يدل دلالة قاطعة على أن الحوار والبلاغ والتذكير هو وسيلة التفاهم لاختلاف المعتقدات لا القتال. 4- كما أنّ هذه الآيات التي أكّدت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلّغ أهل الكتاب، وحاورهم وذكرهم تدلّ دلالة قاطعة على عدم صحّة رأي العلماء الذين قالوا بأن آية السيف قد نسخت آيات المجادلة بالتي هي أحسن والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لأن مثل هذا الزعم ينفي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حاور أهل الكتاب، وبلّغهم، والقرآن أكّد ذلك كحقيقة تاريخيّة قام بها الرسول وعندئذ يغدو القول بنسخ آيات الحوار والبلاغ بمثابة التكذيب للقرآن لا مجرّد نسّخ حكم آية بحكم آية أخرى؛ لأنّ النّسخ يمكن أن يتمّ على الآيات التي هي بمثابة أحكام نظريّة مجرّدة لا على الآيات الخبريّة التي أكدت قيام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعمليّة الحوار والبلاغ فعليًّا.