بعد دعوته الى تحويل جربة لهونغ كونغ.. مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد    أبطال إفريقيا: التعادل يحسم الشوط الأول لمواجهة الترجي الرياضي وصن داونز    التعادل يحسم مواجهة المنتخب الوطني ونظيره الليبي    طقس الليلة    عاجل/ ايقاف مباراة الترجي وصانداونز    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    الرئيس المدير العام لمركز النهوض بالصادرات: واقع المبادلات التجارية بين تونس وكندا لا يزال ضعيفا وجاري العمل على تسهيل النفاذ إلى هذه السوق    سيدي بوزيد: ورشة تكوينية لفائدة المكلفين بالطاقة في عدد من الإدارات والمنشآت العمومية    بودربالة والسفير الإيطالي يؤكدان ضرورة تكثيف الجهود لمواجهة ظاهرة الهجرة غير النظامية تعزيزا للاستقرار في المنطقة    وقفة احتجاجية لعدد من أصحاب "تاكسي موتور" للمطالبة بوضع قانون ينظم المهنة ويساعد على القيام بمهامهم دون التعرض الى خطايا مالية    بنزرت: ضبط كافة الاستعدادات لإنطلاق اشغال إنجاز الجزء الثاني لجسر بنزرت الجديد مع بداية الصائفة    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    منظمات وجمعيات: مضمون الكتيب الذي وقع سحبه من معرض تونس الدولي للكتاب ازدراء لقانون البلاد وضرب لقيم المجتمع    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    منوبة: الاحتفاظ بصاحب مستودع عشوائي من أجل الاحتكار والمضاربة    وزارة التجارة تقرّر التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    أحدهم حالته خطيرة: 7 جرحى في حادث مرور بالكاف    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    رقم قياسي جديد ينتظر الترجي في صورة الفوز على صن داونز    تم انقاذها من رحم أمها الشهيدة: رضيعة غزاوية تلحق بوالدتها بعد أيام قليلة    معتز العزايزة ضمن قائمة '' 100 شخصية الأكثر تأثيراً لعام 2024''    عاجل/ في ارتفاع مستمر.. حصيلة جديدة للشهداء في غزة    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    وزارة المرأة : 1780 إطارا استفادوا من الدّورات التّكوينيّة في الاسعافات الأولية    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    "تيك توك" تفضل الإغلاق في أميركا إذا فشلت الخيارات القانونية    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفارق الإنساني بين حضارة الإسلام وثقافة الغرب
نشر في الحوار نت يوم 01 - 12 - 2009


الفارق الإنساني بين حضارة الإسلام وثقافة الغرب
(الإطار الفكري والتاريخي)

خالد جوده أحمد

مقدمه :
هزنا جميعا كمسلمين الإستناد إلي دعوى الديمقراطية ورأي الجماهير في سويسرا لنفي مظهر مادي للمساجد في الإسلام وهو المآذن، دون رعاية للخصوصية الإسلامية، ودعاوي الحرية الدينية، ولم تكن مفاجاة بالنسبة لي حتي مع ما قيل أن سويسرا هي بلد الحياد والحرية، فالمواطن الأوربي لديه صورة سلبية عن الإسلام كونتها عقود طويلة من الإفتراء الإعلامي والسموم الفنية ، تصور الإسلام بكونه دين الإرهاب، والمسلمين باعتبارهم اعداء الحضارة ، لذلك أقدم هذا المقال دامغا ومدافعا وكاشفا .
1 – مفهوم الثقافة :
لم يختلف الناس فى تحديد مفهوم شيئ كما اختلفوا فى تحديد مفهوم الثقافة وكذا مفهوم الحضارة لدرجة تباين فيها الرأى بين اقصى اليمين وأقصى اليسار ، حتى قام احد الباحثين بحصر حوالى ( 165 ) تعريفا للحضارة وحدها ( 1 ) ، بل وتداخلت هذه المفاهيم مع غيرها من المفاهيم واختلفت اختلافا كبيرا حسب الزوايا أو وجهات النظر التى يرمى اليها الباحثين وبشكل يصعب استيعابه ، فهل الحضارة هى الثقافة ، ام لها مفهوما مغايرا ؟ ، وما هو المعيار الفاصل بينهما ؟ ، وكيف يمكن وصف المدنيات المختلفة عبر رحلة التاريخ بالنسبة لمفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة ؟
2 – الحضارة : الثقافة المتقدمة المبدعة :
ا لحق ان الحضارة صورة أرقى من الثقافة ، فالثقافة تشير ببساطة الى : " الاسلوب العام لحياة جماعة ، او مجتمع معين ، فى مكان وزمان محددين . ويندرج تحت مقولة " الاسلوب العام " كل ما يرتبط من الحياة البشرية ، او الاجتماعية ، او الفردية بالبيئة الاجتماعية لا بالوراثة ، كاللغة ، والعادات ، والمعتقدات ، والطقوس ، واداب السلوك " ( 2 ) ، والثقافة تشير بهذا تلك المعارف المتراكمة والتى تثمر وجهات نظر معينة تصطبغ بها الحياة بالكامل وتؤسس فيما بعد القيم الحضارية ، فيقال ثقافة شرقية أو غربية ، اسلامية او غير اسلامية وهكذا ، أ ما الحضارة فتشير الى : " المظهر الثقافى المتقدم لدى شعب من الشعوب والذى تحدد درجة تقدمه مجموعة من الانجازات فى مجالات العلوم والاداب والنظم السياسية والاجتماعية " ( 3 )
وبذلك يتضح الفارق الجوهرى بين الثقافة والحضارة فالاخيرة كما اشار احد الباحثين تنشأ وتتطور وتزدهر لدى شعب معين فى فترة زمنية معينة من تاريخه الا انها قد تتعرض للخفوت او الاندثار فى فترات تاريخية اخرى ( 4 )، فليس كل ثقافة اذن مؤهلة لكى تنشأ حضارة خالدة تندمج فيها القيم المادية والانسانية ، بل هى فقط الثقافة المتقدمة المبدعة مكتملة العناصر ، و لكن الثقافة فى النهاية تتسم بالاستمرارية على حد تعبير د / حسين محمد فهيم : " اذ لابد فى النهاية من أن يوجد نمط معين من الحياة يهتدى به الناس فى مزاولة حياتهم اليومية سواء كانت بسيطة ام معقدة ، وعليه اذا – وعلى حد تعبير الكاتب جوزيف شريم – " لايفتقر شعب ، أى شعب ، الى الثقافة ، ولا يفتقر الانسان ، اى انسان ، الى الثقافة ، ولكن الشعوب ليست ( بالضرورة ) كلها متحضرة "( 5 ) .
3 – حضارة الاسلام كاملة النسيج :
وطبقا لهذا المفهوم فالحضارة هى التى تكتمل فيها عناصر التقدم ، وحضارة الاسلام خير مثال شاهد على هذا المفهوم ، فهى حضارة كاملة الاركان مادية وانسانية معا ، وهى ايضا الحضارة التى تجمع بين المادة والروح فى توازن دقيق واعتدال رشيد فلا تطغى احداهما على الاخرى ( كما يوجد فى ثقافات اخرى ) .
قال شاعر الاسلام " محمد اقبال " : " ان حضارة الاسلام تتمثل فى قوله تعالى : " وابتغ فيما اتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا واحسن كما احسن الله اليك " ( 6 ) فهى توفيق بين العقل والعاطفة والوحى والعلم وبين المادة والروح " ( 7 ) ، ومنظومة المبادئ الاسلامية والمستندة الى جملة النصوص الشريفة ( وما اكثرها ) تؤكد بما لا يدع مجالا للشك – وكما اكدت مئات الصفحات وعشرات المؤلفات – ان الاسلام هو دين السماحة والرحمة والعطاء الانسانى ، وان من اقوى العوامل التى دفعت حضارة الاسلام نحو مدارج النمو الهائلة والتى مكنت للدين الاسلامى كى يفتح القلوب ويخالط شغافها هو تلك القيم الخالدة ، وقدرتها على الاستيعاب الحضارى للشعوب ، كما كانت حقوق الانسان فى الاسلام سابقه لمبادئ حقوق الانسان فى الغرب باكثر من اربعة عشر قرنا من الزمان ، بل ومتفوقه عنها من حيث المصطلح والصياغة والتطبيق العملى ( والمصادر متاحة زاخرة بالتفاصيل الكثيرة ) فقد حققت حضارة الاسلام منهج الوسطية وميزان الاعتدال فحققت ارقى منجزات الحياة المادية من بناء وعلوم كونية وطبيعية ومخترعات ، كما حققت الجوانب الانسانية فى الحياة فكانت الرحمة للشعوب وللعالم باسره ، على نحو لم يتحقق فى غيرها من الثقافات الاخرى خاصة الثقافة الغربية والتى تفتقد للقيم الانسانية كركن اصيل للحضارة بمفهومها الشامل .
4 – العامل الانسانى فى تكوين الحضارات :
الحضارة ( كما اشرنا ) كمفهوم شامل لا يستند وفقط على التقدم المادى ، بل ويشتمل ايضا على العامل الانسانى ، فالحضارة قسمان لا غنى لاحدهما عن الاخر ومن هذا التمازج تتشكل حقيقة الحضارة ، فقد نفى العلامة " محمود شاكر " ( رحمه الله ) صفة الحضارة بالكلية عن الحضارات التى تفتقد الصفة الانسانية فيقول : " فى التاريخ القديم تتحدث اوروبا العلمانية عن الحضارات القديمة ونحن لا نعد هذه المظاهر فى مفهومنا حضارات ، وانما مظهر من مظاهر البناء فالحضارة تتصف بالصفة الانسانية فاذا زالت عنها فانما هى تسلط وارهاب يعدونه حضارة وما البناء الذى شيدته الا بناء على جماجم اخواتها حيث رفعته على جثث الاف البشر ارغموا على العمل به واكرهوا على الكد فيه حتى لقوا حتفهم والسوط على اظهرهم " ( 8 ) ، اى اذا انفصلت الحضارة عن المعانى الانسانية اصبحت مجرد مظهر من مظاهر البناء الاجوف ولم تكن حضارة فعلا بمعناها الشامل الحقيقى ، وانما هى ثقافة مادية تفتقد لمقوم رئيسى من مقومات الحضارة .
5 – القيم الانسانية فى عالمنا المعاصر :
تتضح أهمية بحث الاطار الفكرى للقيم الانسانية فى الثقافات المختلفة تلك التطورات الفكرية والسياسية والعسكرية فى عالمنا المعاصر، خاصة فى منطقتنا العربية والاسلامية ، فعلى المستوى الفكرى ظهرت نظريات " نهاية التاريخ " ، و " الصراع الحضارى " ، و " النظام العالمى " ، و " العولمة " ، و " الطريق الثالث " ، وغيرها من افكار نابعة من الثقافة الغربية ، وجميعها تبشر بعالم انسانى بلا خوف أو الم ، ينعم بالديمقراطية وحقوق الانسان ، وعلى المستوى السياسى والعسكرى ظهرت الهيمنة السياسة الكاملة على مقدرات الشعوب الفقيرة والضعيفة ، والحشد السياسى والاقتصادى والعسكرى لانتهاب ثروات ومقدرات الشعوب ( خاصة الاسلامية ) تحت مسمى " الانسانية وحرب الارهاب " والتى وصلت ذروتها بالاحتلال العسكرى المباشر لدول اسلامية ، ومساندة كاملة لاسرائيل فى ممارستها اللانسانية فى فلسطين ، بل ووصلت المفارقة الى اقصى حدودها عند وصف الرئيس الامريكى رئيس وزراء اسرائيل برجل السلام ، ووصف المدافعين عن وطنهم بالمتوحشين سفاكى الدماء ، وذلك جميعه فى اطار حملة شرسه تصف الاسلام بانه دين اللانسانية والعنف ، والغرب فى ذلك يسلك طريقة " رمتنى بدائها وانسلت " ، وذلك جميعه يوجب الوعى والالمام بمفهوم الحضارة الحقيقية وانها لم تتحقق تاريخيا بمفهومها الشامل الا فى ظلال الاسلام الحنيف ، وانه على النقيض لما استحوذ الغرب على زمام الامور عانى عالمنا المعاصرمن ازمة حادة فى القيم الانسانية ( وما زال ) سواء على مستوى التسامح واحترام حقوق الانسان او العقلانية والحوار، ويشمل ذلك جميع الدول المستضعفة فكان الاعتداء على الدول واقامة المجازر تحت سمع وبصر العالم ، ومطالعة يسيرة لتقارير حقوق الانسان والصادرة من المؤسسات العالمية يبرهن على ذلك ويؤكده ، وفى مقاله معبره يقول الدكتور / ابراهيم سليمان عيسى : " تتوالى تقارير لجان حقوق الانسان ومنظمة العفو الدولية منذ عام 1990م وتدل بما- لايدع مجالا للشك – على ان مؤشرات اهدار كرامة الانسان متصاعدة بصورة خطيرة وبخاصة فى " العالم الثالث " وان التقدم التكنولوجى الذى احرزه العالم فى هذا المجال قد لازمه تراجع محزن مخيف فى العديد من الاقطار المختلفة ... الامر الذى يؤدى الى انهيار الكيان البشرى " ( 9 ) ، فما زالت صرخات حكماء العصر والتى تنبئ انه رغم التقدم المادى غير المسبوق فلم تصل بعد المبادئ والمثل الاخلاقية الى مستوى مماثل ،
ويكفى فى هذا المقام ان نحيل القارئ الى تقارير وسائط الاعلام المختلفة والتى تذيع صباح مساء بالمشاهد الحية اخبار سحق الانسان وذبحة والاعتداء على مقدراته وحقوقه الانسانية ، ولا مانع فى هذا المقام الاشارة الى عينة مختارة من انباء مجازر المسلمين والتى تمت تحت عيون الغرب ودعمه المعنوى والاعلامى : انها مذابح العصر فى البوسنة الهرسك والان الى الارقام : ( 60000 ) امراة مغتصبة ، ( 30000 ) قتيل ( 3000000 ) شريد ( 10 ) ، وما زالت تلك المجازر قائمة على ارض فلسطين والعراق وغيرها لتظل ابدا وصمة عار فى جبين تلك الثقافة التى لا قلب لها والتى تدعى رغم ذلك انها رائدة الديمقراطية والانسانية .
وفى هذا الشأن لم اجد وصفا لشريعة الغرب والتى ترتكب هذه الاثام الا استعارة تعبير الشيخ " محمد الغزالى " ( رحمه الله ) حين وصفها بشريعة القتل والاستغلال فقال : " احسب تاريخ العالم لا يعرف فى سجله الطويل أسوأ من مدنية الغرب فى معاملة الاخرين ، وتجاهل مصالحهم ، ومصادرة حقوقهم ، بل انه لا يعرف أسوأ من هذه المدنية فى اراقة الدماء بغزارة ، والتهام الحريات بنهم وتجسيم الاثرة الباغية تجسيما يحجب ما ورائه من خير وعدل ، لا ، بل ان هذه المدنية تتميز ببراعتها الفائقة فى فرض اثمها على انه شرف ، وابراز شهواتها وكأنها قوانين نزيهة فالخير ما عاد عليها وحدها بالنفع وان كسرت قلوب الاخرين والعدل ما سوغ حيفها وان شاه وجه الحق واستخفت معالمه تحت ركام من الاقذار " ( 11 ) ، ورحم الله تعالى الشيخ الغزالى فقد وصف فاحسن الوصف ، والوضع المؤسف القائم يوجب ضرورة العمل على بعث حضارتنا الاسلامية لتؤدى دورها المنشود فى هداية البشرية الى شاطئ الخير والامان والانسانية .
6 – الاطار التاريخى :
والمقارنة بين انسانية حضارة الاسلام وانسانية غيره من الثقافات يستدعى قراءة النصوص الشريفة ، والسيرة النبوية المطهرة ، وفقه المعاملات فى الاسلام ، قراءة متأنية بما يخرج عن نطاق المقال الى جملة من الدراسات المستفيضة والشائقة والتى تناولت القيم الانسانية فى ظلال هذه المبادئ الكريمة ، ولكن ننتقل مباشرة من تناول الاطار الفكرى للمقارنة المنشودة من المقال الى الاطار التاريخى ، فلا شك ان حسن الشيئ يظهره الضد ، وعظمة القيم الانسانية فى حضارة الاسلام تزداد بهاء وجلالا ( على حد تعبير الدكتور / محمد عمارة ) " فى ضوء هذا " البؤس " الذى صنعه وما زال يصنعه الاخرون "( 12 ) ، ولا مانع من ان نضع مشاهد التاريخ متجاورة لنرى هذا الفارق الانسانى الهائل المذهل بين انسانية حضارة الاسلام ولا انسانية غيره من الثقافات ، والامثلة اكثر من ان تعد او تحصى ، ولكننا نكتفى بالتقاط بعض النصوص والمشاهد لتكون مجرد اشارة رمينا اليها من مجال المقارنة حتى يعى المسلم حقيقة ما يدور حوله ويعلم واجبه نحو حضارته ، والان الى تلك المختارات .
7 – مقارنة بين عدة نصوص :
اتفقنا أن المقارنة تزيد الامر وضوحا على وضوحه ، لذلك انتقيت من التراث الاسلامى ذاك النص المعبر الجميل عن الحضارة الاسلامية : " يامير المؤمنين اهل ذمتكم ، لا يكلفون ما لا يطيقون ، فان ما تجبونه منهم ، معونة لكم على عدوكم " ، والقصة التاريخية والتى وردت فى متنها هذه المقاله : انه لما قدم " عطاء بن رباح " سيد فقهاء الحجاز على الخليفة الاموى " هشام بن عبد الملك " فاكرم وفادته غاية الاكرام واجلسه معه على سريره وعنده اشراف الناس يتحدثون ثم سأله حاجته ، فسأله اكرام اهل الحرمين ، اهل الله ، وجيران رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك بتقسيم ارزاقهم واعطياتهم فامر لهم الخليفة بذلك لمدة عام ، ثم سأله اكرام اهل الحجاز ونجد فهم اصل العرب وقادة الاسلام وذلك برد فضول صدقاتهم فاجابه الخليفة لذلك ، ثم ذكر اهل الثغور فاجابه لذلك ثم سأله الخليفة حاجه اخرى فقال له : " يامير المؤمنين اهل ذمتكم ، لا يكلفون ما لا يطيقون ، فان ما تجبونه منهم ، معونة لكم على عدوكم " ، ثم نصحه حتى بكى وانصرف ( 13 ) ، وهكذا نجد ان فقيه الحجاز يجشم نفسه مشقة الارتحال من الحجاز حتى الشام ليذكر خليفة المسلمين بالاعطيات وأهل الذمة ولم يطلب لنفسه شيئا .
وفى نص اخر واضحا اشد الوضوح ، دامغا فى ميدان المقارنة ، من رسالة نصارى الشام الى سيدنا " عبيدة بن الجراح " ( رضى الله عنه ) : " يامعشر المسلمين ، انتم احب الينا من الروم ، وان كانوا على ديننا ، انتم أوفى لنا ، وارف بنا ، واكف عن ظلمنا ، واحسن ولاية علينا ، ولكنهم غلبونا على امرنا وعلى منازلنا " ( 14 ) .
الوجه الاخر : وفيه ننتقل الى نصوص مختاره لقادة ومفكرى اسرائيل :
- الحاخام " ارون ليفى " الحاخام الاكبر للقدس عام 1799م يقول : " ليتجمع كل رجال الشعب اليهودى القادرين على جمل السلاح ولياتوا الى فلسطين " ( 15 ) .
- اما السفاح " مناحم بيجن " فيقدم فلسفته المميته قائلا : " ان قوة التقدم فى تاريخ العالم ليست السلام بل السيف " ( 16 ) ، ويقول ايضا شارحا : " قال ديكارت افكر فانا اذن موجود ، واقول اقتل فانا اذن موجود " ( 17 ) ، وله ايضا : " ان قلوبكم ايها الاسرائيليون لا يصح ان تتألم وانتم تقتلون عدوكم ولا ينبغى ان تاخذكم بهم شفقة طالما اننا بعد لم نقضى على ما يسمى بالثقافة العربية والتى سوف تقوم على انقاضها حضارتنا الخاصة " ( 18 ) ، اليس هذا ما نراه ويراه معنا العالم كله ؟ ، اليس هذا مضمون نظرية " صراع الحضارات " ؟ ، واين هذا جميعه من عطاء ورحمة حضارة الاسلام ؟ ، وهل هذا هو رد الجميل ؟ ، يقول " اسرائيل ولفنسون " : " ان الخسارة القليلة التى لحقت بيهود بلاد الحجاز ضئيلة بالقياس الى الفائدة التى اكتسبها اليهود من ظهور الاسلام ، لقد انقذ الفاتحون المسلمون الافا من اليهود كانوا منتشرين فى اقاليم الدولة الرومية ، وكانوا يقاسون الوانا من العذاب " ( 19 ) ، بل عاشوا فى ارغد حياة فى امن واطمئنان فى ظلال حضارة الاسلام .
- ولعل اختيارنا لتلك النصوص انما كان بصفة اساسية لكون اسرائيل هى الامتداد الطبيعى للغرب فى منطقتنا العربية ، فهى مزروعة فى قلب العالم الاسلامى لتؤدى دورها المنشود كطليعة للغرب فى منطقتنا ، والدعاية الاعلامية فى الغرب وحليفتها او وجهها الاخر ( اسرائيل ) كلها قائمة على هذا المضمون ، وهذا أيضا نص اخر ( لنفهم اكثر ) من ثقافة الغرب القائمة على الاستعلاء والقسوة ، يقول " بلانت " احد الانجليز الذين كانوا فى مصر بالحرف الواحد : " ... بموجب مرسوم 1895م يمكن الحكم على اى مصرى واعدامه صلبا او على الخازوق لمجرد انه امتعض من اعتداء جندى بريطانى على عرض زوجته او انه حال دون ذلك ... " ( 20 )
- تلك اذن هى ثقافة الغرب ، وقد انبانا الله تعالى عنهم فقال ( عز من قائل ) " كيف وان يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم الا ولا ذمه " ( 21 ) ، وليس عليك عزيزى القارئ الا ان ترى ذلك على صفحات الواقع فى بلاد شتى كما كانت من قبل ، وكما هى الان ، وكما ستحدث غدا حتى يفصل الله تعالى فى الامر ، ويقضى امرا كان مفعولا .
8 – مشهد من السيرة النبوية الشريفة :
. وفى صورة اجمالية دامغة يقدمها د/ محمد عمارة فى بحثه القيم عن سماحة الاسلام يذكر فيها : " انتصار الاسلام على الشرك الوثنى ذلك الذى فتن المسلمين فى دينهم ، واخرجهم من ديارهم .. وعلى الخيانة اليهودية ، والتى تحالفت مع الشرك الوثنى ضد التوحيد الاسلامى .. انتصار الاسلام عليهم ، فى عشرين موقعة – هى التى دار فيها قتال .. ما بين سنة 2 ه وسنة 9 ه - هذا الانتصار الذى غير وجه الدنيا والحضارة والتاريخ ، وكيف ان ضحايا هذه المعارك – من الفريقين – لم يتجاوز 386 قتيلا – 183 هم مجموع شهداء المسلمين و 203 هم كل قتلى قريش . بينما نجد الحرب الدينية والتى دامت اكثلا من قرنين – داخل النصرانية ذاتها بين الكاثوليك والبروتستانت ، فى القرنين السادس عشر والسابع عشر – قد ابيد فيها 40% من شعوب وسط اوروبا .. وفق احصاء " فولتير " ( 1694 – 1778 م ) بلغ ضحاياه عشرة ملايين نصرانى " ( 22 ) .
9 – مشهد من الحروب الصليبية القديمة :
بدأت الحروب الصليبية بمؤتمر " كليرمونت " سنة 1095م والذى حث فيه البابا " اوربان الثانى " المسيحيين على ابادة وحرب المسلمين تحت حجة حماية حجاج النصارى واسترداد بيت المقدس ، وبعد اربع سنوات تمكنت الحملة الاولى من سحق بلاد الشام واقامة اربع ممالك صليبية فيها ، كما احتلوا القدس فى يوم حزين من ايام شهر يونية 1099م ( 23 ) ، فماذا فعلوا مع المسلمين ؟ ، ان الاجابة على مثل هذا السؤال تستوجب العودة الى صفحات التاريخ لنقرأ فيها فصلا رهيبا من الابادة والتنكيل بالمسلمين فى مذابح رهيبة تظل ابد الدهر وصمة عار فى جبين هذه الثقافة ، ولا يماثلها – بل ويفوقها فى بشاعتها – الا مذابح المسلمين فى الاندلس ، ثم مذابحهم فى العصر الحديث ، ويكفى هنا ان نشير الى ان الصليبيين غلاظ الاكباد لم يتورعوا عن ذبح سبعين الف مسلم اجتمعوا واحتموا فى المسجد الاقصى غداة سقوط بيت المقدس ( 24 ) ، ولم ينجو من هذه المذابح المروعة الا ثلاثمائة مسلم فقط وكتب الصليبيون لبابا روما رسالة سجلتها كتبهم يقولوم فيها : " ان جنودنا كانوا يخضون بسيقانهم حتى الركب فى دماء المسلمين " ( 25) ، وقال المؤرخ الشهير " وليم الصورى " : " كان بيت المقدس مخاضة واسعة من دماء المسلمين " ( 26 ) ، واعتصمت حموع المسلمين فى مسجد عمر ( وهم الموضع الذى صلى فيه بديلا عن كنيسة القيامة حتى لا ياخذها المسلمين من المسيحيين ) ، فيسجل احد الكهنة المسيحيين ما رأى متألما : " لقد افرط قومنا فى سفك الدماء .. وكانت جثث القتلى تعوم فى الساحة هنا وهناك .. وكانت الايدى والازرع المبتورة تسبح كانها تريد ان تتصل بجثث اقتطعن منها " ( 27 ) ، اما " جوستاف لوبون " فيسجل فى كتابه الهام " حضارة العرب " تلك المفارقة المذهلة بين رحمة حضارة الاسلام ووحشية ثقافة الغرب فيقول : " فاولئك العرب الذين خرجوا من الصحراء ، اعطوا المسيحيين فى القدس " العهد العمرى " المشهور والذى تعهد فيه المسلمون بالمحافظة على كنائس المسيحيين ومقدساتهم . واما اولئك الاوروبيون فكانوا يجوبون الشوارع ويصعدون الى اسطح البيوت ، ليروا غليلهم بالتقتيل ، وكأنهم لبؤات خطفت اطفالها . وكانوا يذبحون الاولاد والشباب والشيوخ ويقطعونهم اربا اربا .. وكانوا يشنقون مجموعة من الناس بعضهم امام بعض بحبل واحد بغية السرعة .. وقد امر الامير " بوهيمند " باحضار الاسرى الى برج النصر ، فامر بضرب رقاب الشيوخ والعجائز والضعاف ، واما الشبان والرجال فقد سيقوا ليباعوا فى سوق الرقيق " ( 28 ) ، وبعد تلك النقول الست معى انها هى ذات المشاهد التى طالعنها (على مرأى ومسمع العالم ) فى الهند وبورما والبوسنة والهرسك وكوسوفا وغيرها وما زلنا نطالعها فى فلسطين والعراق والشيشان وكشمير وغيرها ؟
ان المفارقة بحق مذهلة ، فالحرب الاعلامية والتى شنها الصليبيون بدعوى اضطهاد النصارى قد نفاها المؤرخون الاوروبيون انفسهم بما اثبت - بلا ادنى شك – زيف خطأ هذا الرأى ، فالنصارى طوال عهود الاسلام تمتعوا برحابة صدر المسلمين ، فهذا بطريرك بيت المقدس يعترف فى رسالة سرية الى زميله بطريرك القسطنطينية ، جاء فيها بالنص القطعى : " ان المسلمين قوم عادلون ، ونحن لا نلقى منهم اى اذى او عنت " ( 29 ) فماذا ياترى كان جزاء المسلمين العادلين ؟ تلك الغارة والعدوان على الاسلام وشعوبه والتى تتم صباح مساء فى غلظة وقسوة منقطعة النظير .
وحتى تزيد المفارقة عجبا نضع صورة اخرى من التاريخ مشابهة تماما ، انها صورة القائد " صلاح الدين الايوبى " فى معاملة اعدائه واعداء الانسانية ، فعندما دخل بيت المقدس اتجه الى المسجد الاقصى الشريف فصلى وسبح بحمد ربه واستغفر ثم اتجه الى قبة مسجد الصخرة فانزل الصليب المعلق عليها وعطرها ( متى نرى هذا المشهد المبارك البهيج مرة اخرى ؟ ) ، واراد بعض الجند ان يحولوا كنيسة القيامة الى مسجد ، فابى القائد المظفر وامر بتركها مفتوحه ، وكان سقط فى يده سبعين الف صليبى ( وهو نفس عدد المسلمين الذين ذبحوا قبل 88 سنة ) واشار عليه اناس ان يثأر للمسلمين مما فعله الصليبيون عندما دخلوا بيت المقدس فجعلوه مخاضة من الدماء ، فابى ثم سمح لهم بالخروج امنين سالمين الى حيث شاءوا من المدن الصليبية الاخرى ، كما سمح للاميرات بالخروج مصونات مكرمات ومعهن الامتعة والملابس وكل ما يمكن حمله ومع كل اميرة حاشيتها وخدمها وكلهن فى امن وطمأنينة ، ثم فرض على كل اسير دية صغيرة قدرها عشرة دنانير على الموسيرين ، ودينار على الفقير ، ثم علم ان هناك اربعة الاف اسير لا يجد الواحد منهم دينارا يدفعه فدفع من ماله الخاص ديتهم فخرجوا فى سلام وامان ، حتى الاساقفة خرجوا محملين بمقتنيات الكنائس وفيها تحف من الذهب والفضة فلم يتعرض لهم احد ( 30 ) ، وهكذا من مئات القصص حتى لقد انتقد بعض المؤرخين موقف الناصر صلاح الدين من اطلاق الاسرى على هذه الشاكلة حيث كونوا جيبا قويا فى مدينة " عكا " والتى استقبلت فيما بعد حملة صليبية جديده من البحر ( 31 ) ، اليس هذا النموذج كافيا وحده ليوضح انسانية حضارة الاسلام فى مقابل وحشية وعنف ثقافة الغرب ؟ ، ان القائد العظيم اقتدى برسوله الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) عندما قال لمن اذوه واتباعه وضيقوا عليه وبغوا به القتل : " اذهبوا فانتم الطلقاء " ، وبهذا الخلق الرفيع ارتقت حضارة الاسلام ، ولقنت الغرب – كما يقول احد المؤرخين – البرابرة الغربيين درسا فى الاخلاق كانوا فى اشد الحاجة اليه ( 32 ) .
10 – مشهد من الاندلس الذبيح :
انتجت العبقرية الاسمية فى الاندلس من ايات الحضارة ما يعجز الباحث عن حصره ووصفه ، وتلك الحضارة السامية هى التى وضعت اسس النهضة العلمية والمادية فى الغرب فيما بعد لجانبها العلمى التطبيقى ، فبينما كانت اوروبا غارقة فى الظلمات والجهالة لم يوقظها سوى حضارة الاسلام التى ترفض مبدأ " البخل الحضارى " ، وتطبق معانى التعاون والعطاء والعدالة مع الشعوب ، قال ذلك احد الباحثين الغربيين : " ان اوروبا لتدين بالشيئ الكثير لاسبانيا العربية فلقد كانت قرطبة سراجا وهاجا للعلم والمدنية فى فتره كانت عواصم اوروبا خلالها لا تزال ترزح تحت وطأة القذارة والبدائية ، وقد هيأ الحكم الاسلامى لاسبانيا مكانة جعلها الدولة الوحيدة فلى اوروبا التى افلتت من عصور الظلام " ( 33 ) ، اما " جوستاف لوبون " فيقول : " وقد كانت ترجمات كتب العرب العلمية المصدر الوحيد للتدريس فى جامعات اوروبا نحو ستة قرون . ويمكننا ان نقول ان تاثير العرب فى بعض العلوم كعلم الطب مثلا دام الى الزمن الحاضر . فقد شرحت كتب ابن سينا فى مونبيليه فى اواخر القرن الماضى ... واذا كان تاثير العرب عظيما فى انحاء اوروبا التى لم يسيطروا عليها الا بمؤلفاتهم ، فقد كان تاثيرهم اعظم من ذلك فى البلاد التى خضعت لسلطانهم كبلاد اسبانيا .. ولن يرى الباحث مثالا اوضح من العرب على تاثير احدى الامم فى امة اخرى ، ولم يشتمل التاريخ على ما هو ابرز من هذا المثال " ( 34 ) ، كانت الاندلس اذن هى معبر العلم والفكر الى الغرب وذلك جميعه بفضل القيم الحضارية التى اسستها حضارة الاسلام ، وهذا احد المستشرقين الاسبان يسجل شهادته التاريخية : " ان اسبانيا ما كان لها ان تدخل التاريخ الحضارى لولا القرون الثمانية التى عاشتها فى ظل الاسلام وحضارته فكانت بذلك باعثة النور والثقافة فى اوروبا المجاورة المتخبطة انذاك فى ظلمات الجهل والتخلف " ( 35 ) ، فماذا ياترى كان الجزاء لما غابت شمس الاسلام عن الاندلس ، ودارت الدائرة على المسلمين ؟ ، كانت صفحة حزينة ومؤسفة من تعصب ووحشية الغرب ، ونكتفى هنا بمقولة وحيدة للمؤرخ " جوستاف لوبون " : " يستحيل علينا ان نقرأ دون ان ترتعد فرائصنا من قصص التعذيب والاضطهاد التى قام بها المسيحيون المنتصرون على المسلمين المنهزمين ، انهم عمدوهم عنوة وسلموهم لدواوين التفتيش التى احرقت منهم ما استطاعت من الجموع وهكذا تم قتل وطرد ثلاثة ملايين عربى كانوا يشكلون النخبة الفكرية والصناعية فى اسبانيا ، وهكذا انطفأت حضارتهم الوهاجة التى ظلت تشع على اوروبا منذ ثمانية قرون " ( 36 ) ، ومن اراد الاستزادة فعليه ان يعود للمراجع التاريخية والتى تصف هذه الفترة البائسة فى حياة الانسان ، ليرى ابشع صور من العنف والقسوة المتناهية ضد الانسانية ( والتى جاءوا يبشرونا بها الان ) ، انها المشاهد والتى ما زالت تتوالى طبعاتها القديمة الجديدة حتى الان .
11 –حفظ أماكن العبادة :
والى لقطة اخرى فى ميدان المفارقة التاريخية بين انسانية حضارة الاسلام وعنف ثقافة الغرب ، قد تكون دليلا للاشارة ومعلما على مدى البون الشاسع بين حضارة شامخة البينان ، وثقافة تنفث الحقد والدمار ، فقد سمعنا مؤخرا عن احراق المساجد فى فلسطين والاعتداء على حرمات المقدسات الاسلامية والمسيحية ، ومنها احراق ثلث المسجد الاقصى عام 1996م ، والاعتداء على كنيسة القيامة ، واحراق مسجد صلاح الدين عام 2002م ، وقبلها هدم المسجد البابرى فى الهند لتأسيس معبد هندوسى محله ..وهكذا فياترى كيف كان الحال فى حضارة الاسلام ؟ نكتفى بمثالين : المثال الاول : احد قواد الخليفة العباسى " المعتصم " ( 833:842 ) م امر بجلد امام ومؤذن ، لانهما اشتركا فى هدم معبد من معابد الهندوس ، لتستخدم احجاره فى بناء مسجد مكانه ( 37 ) . والمثال الثانى :عندما اراد " احمد بن طولون " بناء مسجده عام 263 ه واشار المهندسون عليه بان بناء المسجد فى حاجة الى ثلاثمائة عمود من الرخام وانه لايمكن الحصول عليها الا من الكنائس والمعابد القديمة فابى ان يفعل ذلك واستبدل بتلك الاعمدة دعائم من الاجر تقاوم الحريق ( 38 ) ، فلينظر أهل سويسرا المتعصبون !!
12 – ها انا ذا انتصر لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) :
هكذا طوفنا فى ارجاء معنى الحضارة وبما تفضل به الثقافة عندما تكتمل لها اركانها من عوامل مادية وعوامل انسانية وان افتقاد اى جانب من هذه الجوانب يعنى اننا امام كائنا مشوها يفتقد اساس خلوده وبقائه على قيد الذاكرة والتاثير فى الامم والتاريخ ، ولا تعدو تلك المظاهر الا شكلا باهتا لثقافة تقوم على الاستعلاء والعنف تغلفها مظاهر مادية يطلق عليها بهتانا وزورا انها حضارة .
ويظل العامل الانسانى هو المعيار الحاسم والذى يفرق حضارة الاسلام عن غيره من الثقافات ، فركيزة حضارة الاسلام حفظ كرامة ومصالح الانسان باعتباره الخليفة المكلف باعمار الحياة وصناعة الحضارة ، كما لاتؤمن حضارة الاسلام بالصراع والصدام الحضارى ، بل تقوم على الحوار لا الصدام ، والتفاعل لا الصراع ، وترفض البخل الحضارى ولا تؤمن بنظرية التفوق العنصرى او الاستعلاء الجنسى .
اما الاطار التاريخى فيبدو جليا عند المقارنة وما ازحم صفحات التاريخ من هذه المفارقات الكاشفة ( وقد اكتفينا باشارات موجزه بين ثنايا المقال ) حتى يؤمن المسلم بعظمة وسمو قيمه الاسلامية ويعمل لينهض بها من جديد .
فلايوجد فى تاريخ البشرية جميعه مثل هذه المفارقة المذهلة بين حضارة الاسلام وثقافة الغرب ، وهو الفارق نفسه بين اكتمال اركان الحضارة ، وبين ثقافة مصابه بالجزام ، والفارق نفسه بين الاسلام دين الرحمة والانسانية ، وبين غيره من الشرائع الهمجية ، وهذا البحث هاما فى ظل الظروف الراهنة فى واقع العرب والمسلمين فالغارة على اشدها ( بطريقة رمتنى بدائها وانسلت ) والغرب جاء يبشر امة الاسلام والعروبة بمبادئ الانسانية والديقراطية ستارا لاظافرة المسنونة ولعابه السام لانتهاب حيوتها وارتشاف خيراتها الوفيرة ( وما حديث العراق عنا ببعيد ) .
ان دورنا هو الوعى ، وفهم ان هذه الشريعة الغراء هى شريعة العطاء والرحمة وحقوق الانسان ورعاية الانسانية عموما تستحق منا ان نعمل لرفعة شأنها وتاكيد مبادئها فى جميع مجالات الحياة لنا ، وللعالم اجمع ، وان نعلم ان حضارة الاسلام قادرة على العطاء المتواصل رغم الغارة والضعف الشامل ، فالحضارة الاسلامية ليست تراثا مندثرا ، انما هى حضارة حية متفاعلة " غالبة صامدة " ، وهى طوق نجاة البشرية البائسة ، وان ضياء هذه الحضارة سيغمر العالم من جديد ليعيش ازهى عهوده ، ولن يكون ذلك الا بالجهد الجهيد ، والعمل المتواصل الوثيق ، وبالايمان العميق ، ولله در البطل الناصر " صلاح الدين " عندما اكرم اسراه من الملوك الصليبيين فاعطاهم الماء المثلج فشربوا على الظمأ الشديد بعد شراسة المعارك ، فلما اعطى احدهم الماء للامير " ارناط " الغادر ابى صلاح الدين قال : " ان هذا لم يشرب الماء باذنى " يريد انه لم يصر امنا من عقابه ، وكان ارناط قد سب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ودينه ، بل وارسل حملة على شبه الجزيرة العربية من البحر للعدوان على رسول الله فى مدينته ، ثم قال له صلاح الدين مقولته والتى يجب أن تنقش بحروف من نور فى فؤاد المسلم : " ها انا ذا انتصر لمحمد " فقتله بيده وفاء بنذره ( 39 ) ، وهذا يجب ان يكون شعار المسلم فيطالع تاريخه وحضارته حتى يعتز بها ويقتفى اثرها ، ويعمل على نشر مبادئها فى بيته وعمله ومجتمعه مع طلب الاحر من المولى تعالى ، وان يحسن صلته بالله تعالى طالبا العون والسداد ، وان يدعو معنا الله ( العلى القدير ) ان يحقن دماء المسلمين فى كل مكان ، ودماء البشرية جميعا ، وان يكشف البلاء عن الانسانية ويحفظ اوطان العروبة والاسلام وينصر دينه نصرا مؤزرا ، " والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون " (40) .
****
هوامش:
( 1 ) ص 66 / نحن والحضارة والشهود ( الجزء الاول ) – د . نعمان عبد الرازق السامرائى – سلسلة كتاب الامة – العدد رقم ( 80 ) – ذو القعدة 1421ه – وزارة الاوقاف والشئون الاسلامية بقطر.
( 2 ) : ( 5 ) ص 140/ ادب الرحلات – د . حسين محمد فهيم – سلسلة عالم المعرفة – العدد رقم ( 138 ) – 1989م ، " بتصرف "
( 6 ) الاية رقم ( 66 ) من سورة القصص .
( 7 ) ص 77 / حتى لا تضيع الهوية الاسلامية والانتماء القرانى – الاستاذ / انور الجندى ( رحمه الله ) .
( 8 ) ص7 / موسوعة " التاريخ الاسلامى " – العلامة / محمود شاكر ( رحمه الله ) – الجزء الاول – " بتصرف يسير " .
( 9 ) ص 15: 16 / كرامة الانسان احدى مقومات البناء الحضارى الاسلامى – د . ابراهيم سليمان عيسى – سلسلة دراسات اسلامية – العدد رقم ( 36 ) – وزارة الاوقاف المصرية – 1419ه ، 1998م .
( 10 ) ص 60 / الغد المشتعل – د . مصطفى محمود – كتاب اليوم .
( 11 ) ص 68 / الاستعمار احقاد واطماع – الشيخ محمد الغزالى ( رحمه الله ) – دار نهضة مصر للطباعة والنشر .
( 12) سماحة الاسلام – د . محمد عمارة – مؤسسة الفلاح للترجمة والنشر والتوزيع – 2002م .
( 13 ) ص 98 : 99 / الانابيش – الجزء الثانى – عبد الرحمن الضبع – مكتبة الايمان للنشر والتوزيع – " بتصرف " .
( 14 ) ص 63 / سماحة الاسلام / د. احمد محمد الحوفى – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1997م .
( 15 ) ص 33 / الصهيونية والعنف – الرائد / حسين طنطاوى – دار الشعب.
( 16 ) ص34 / الصهيونية والعنف – مرجع سابق . .
( 17 ) ص 39 / الصهيونية والعنف – مرجع سابق.
( 18 ) ص 49 / مجلة منبر الاسلام – عدد شوال 1414ه .
( 19 ) اليهود والتحالف مع الاقوياء – د . نعمان عبد الرزاق السامرائى – سلسلة كتاب الامة .
( 20 ) ص 13 / حقيقة الغرب – د . مصطفى عبد الغنى – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 2001م .
( 21 ) من الايه رقم ( 8 ) من سورة التوبة .
( 22 ) ص 53 : 54 / سماحة الاسلام – د . محمد عمارة - مرجع سابق .
( 23 ) ص 81 / القدس – عبد الحميد الكاتب ( رحمه الله ) – الهيئة المصرية العامة للكتاب – " بتصرف " .
( 24 ) ص 10/ اضواء جديده على الحروب الصليبية – د . سعيد عبد الفتاح عاشور – الهيئة المصرية العامة للكتاب – " بتصرف "
( 25 ) ، ( 26 ) ، ( 27 ) ص 84 / القدس – مرجع سلبق .
( 28 ) ص 85 / القدس – مرجع سابق .
( 29 ) ص 16 / اضواء جديده على الحروب الصليبية – مرجع سابق .
( 30 ) ص 119 / القدس – مرجع سابق " بتصرف " .
( 31 ) الناصر صلاح الدين – د . سعيد عبد الفتاح عاشور " بتصرف " .
( 32 ) ص 32 / اضواء جديدة ...- مرجع سابق – " بتصرف " .
( 33 ) ص 59 / الحضارة الاسلامية وضرورتها للحضارة الغربية – د . احمد شلبى – سلسلة دراسات اسلامية – العدد رقم ( 27 ) – وزارة الاوقاف المصرية – 418 ه، ، 1998م .
( 34 ) ص 60 / من معالم الاسلام – محمد فريد وحدى ( رحمه الله ) – الهيئة المصرية العامة للكتاب .
( 35 ) ص 17 / الصحوة الاسلامية اليوم فى الاندلس ( جذورها ومسارها ) – كتاب الامة .
( 36 ) ص 18 / الصحوة الاسلامية اليوم ....- مرجع سابق ) .
( 37 ) ص 65 / سماحة الاسلام – د . احمد محمد الحوفى – مرحع سابق .
( 38 ) جريدة الاهرام القاهرية بتاريخ 11-2-1999م .
( 39 ) ص / صلاح الدين الايوبى ( حياته وعصره ) – محمد فريد ابو حديد – الهيئة المصرية العامة للكتاب – " بتصرف "
( 40 ) من الايه رقم ( 21 ) من سورة يوسف عليه السلام


هذا المقال تم اعداده من بحث فائز ضمن مراكز المجموعة الثالثة في أبحاث وزارة الأوقاف المصرية عام 1999م بعنوان " سماحة الإسلام وتعصب الغرب - المفارقة الكبرى "


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.