"إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى" قرآن كريم في مثل يومنا هذا من سنتنا التي خلت... يوم 17 ديسمبر 2010 وَرَدَنا من الأنباء ما فيه مزدجر... فتى من سواد الناس يوقد جسده نارا... يتّقد الجسد فتصاب الظلمة من أوّل وهلتها في مقتل، وهي لا تدري، لأنّ الرؤية استأثر بها الراوي... والراوي قد اختار في سرد ثورته الاختباء... * * * يصحو الحاكم من سكرته فيأتيه العسس بالخبر في ذيول الكلاب... يستهين من ظنّ يوما أنّه الواحد القهّار بالخبر والمختبَر وبذيول الكلاب... يعاوده صداع سكرته وتراوده نكهة التدخين فيدعو بسيجارة... توقَدُ له السيجارة... يرى في قبس الوقود يدا تصفعه وأخرى ترفع في وجهه شارة النصر... هو عبثُ بصيرته يعود إليه ...!لم يفقه من فرط حماقته ما رأى... وابتسم ابتسامته البلهاء... قال داخل علبته وبين نخبته قولا نابيا لا نسمعه من غير الرغوة الزائفة يحكي استهانته بالمُوقِدِ والوقود... وتخرق الاستهانة سدود العلبة لتستقرّ في أسماع شعب مرّ جميع بنيه في طفولتهم بأنشودة قالها يوما شاعر لهم نبيّ "إذا الشعب يوما"... ردّدوها في صباحاتهم والأماسي حتّى حفظوها... وقد حفظتهم ذخرا لميقات يوم معلوم... * * * تأتي صاحبَ القصر أنباءٌ... يسمعها، فيردّد، وقد أخذته العزّة بالإثم، قوله النابي "إلى الجحيم"... إنّه يجد من المتعة ما لا يعلمه مما وجد نيرون ذات هوى أثيم لمّا اشتهى أن يستمتع بمشهد حريق روما... ما ضرّ لو احترق الشعب كلّه ولم يبق للظالم المستبدّ غيرُ الآل وما وافق الأهواء من سدنة المعبَد وحمَلة العرش ! يردّد إثمه وهو لا يدري أنّه يجهّز حقائبه إلى الجحيم... مستقرّه ومعاده... * * * البوعزيزي يحترق... يتطهّر بناره المقدّسه من دنس الظلمة واللصوص... مسيح الثورة يختار له من النار صليبا تطهّرا وتطهيرا... فمن شرب ماءً بحضرة المسوخ وجب عليه الغسل... والكلاب قد ولغت في الإناء... ولقد كان غسل البوعزيزي نارا هذه المرّة... نارا تغسل عارا... وليس مثل النار مغتَسَلاً للعار... أفليس من العار أن يحكم هذا الشعبَ العبقريّ مثلُ ذاك الغبيّ نيفا وعشرين سنة؟ كان لا بدّ من النار تُذهب ما استعصى من الدنس المقيم دهرا... * * * إنّ للتاريخ عقلا... وقد شهد التاريخ العاقل أثقالا أنهكت حركته... أثقالا كان يجدها من تثاؤب المطمئنيّن رغم علوّ الأنين... اشتعلت النار فاشتغلت باشتعالها الذاكرة "إذا الشعب يوما"... أجابت الفاهمة "أراد الحياة"... ولقد أراد... وتحرّكت عجلة الفعل ترجمة للعبارة المخبوءة في حنايا الخواطر... تجاوبت الأصداء "حذار فتحت الرماد اللهيب"... ولقد شبّ اللهيب... وحان جَنْيُ الجراح... أشواك الظالم تجرحه... تحفر به قروحا وقد كان لزمن طويل سيّدا على الفرحين... وكانوا جميعا يتراقصون على إيقاعات الأنين... لقد اختار التاريخ بوعيه الحادّ لحظة السحر العابرة للحدود... التقط من الإشارات ما رقّ لفظه وشفّ معناه وسمت دلالته... "فلا بدّ أن يستجيب القدر"... ولقد استجاب... الحياة غانية مهرها من دم عاشقها... وقد أتى على الشعب دهر وهو يراكم مهر غانيته حتّى أذنت بالعناق... ما ألذّ العناق بعد طويل الفراق... أليس من دأب العشّاق "لا يأس من التلاقي"... * * * احتفل الشعب بزواج الذاكرة والفاهمة... وقد أنجب الزواج فعلا عبقريا أعاد المراد إلى المريد وقد كان به جديرا... ولقد دنت جنان الثورة بثمرها... ولقد جاء الثمر منجّما: الثمرة الأولى: شعب تونس يُحرق خوفه... يُحرّر صوته... يُزيل عقدة لسانه... يريد الحياة... فيستجيب القدر... تنقشع الظلمة فتختفي الخفافيش... الثمرة الثانية: شعب تونس يلملم جراحه ويتنادى للبناء... ينتخب فيعلّم شعوب الدنيا ما لا بدّ لها من تَعَلُّمِهِ حتّى تكون. الثمرة الثالثة: شعب تونس يجلس على عرشه يوم انعقاد المجلس الوطنيّ التأسيسيّ وظهور نجمه الأوّل الدكتور مصطفى بن جعفر... ولقد اصطفيناه فكان من المخلصين. الثمرة الرابعة: شعب تونس يفتح قلعة قرطاج برئيس من بنيه هذه المرّة محمّد منصف المرزوقيّ... قال فأقنع وتحدّث فأمتع... ووعد وهو المنصِف... ولن يُخلف وعده... وإن حدّثته النفس بالمخالفة فالشعب قد تعلّم أن يريد... ولن يمرّ من طلب المخادعة بعد أن وجد الشعب على النار هدى... الثمرة الخامسة: شعب تونس يكلّف حكومته... ويجعل المهندس حمّادي الجبالي رئيسا عليها... عسى أن تدور العجلة ونجنيَ موعود الثمر... والبقية تأتي... فلا بديل عن النجاح سوى النجاح... فعلا... لقد أنجز الشعب التونسيّ فعلاً عربيّاً استثنائيّاً... نورالدين الغيلوفي