محسن الطرابلسي رئيسا جديدا للنادي الإفريقي    وزارة الدفاع تنتدب تلامذة ضباط صف بجيش البحر    "اليونيدو" والوكالة الايطالية للتعاون من أجل التنمية توقعان اتفاقا لتمويل مشروع "تونس المهنية " بقيمة 5ر6 مليون اورو    الزيت البيولوجي التونسي ينفذ إلى السوق الأمريكية والفرنسية بعلامة محلية من جرجيس    قبلي: اجراء 37 عملية جراحية مجانية لازالة الماء الابيض في اطار اليوم الوطني الاول لصحة العيون    كرة اليد: منتخب الاصاغر ينسحب من ربع نهائي المونديال    تعمّيم منصة التسجيل عن بعد في 41 مكتبا للتشغيل بكامل تراب الجمهورية    الكاف: لأول مرة.. 20 عملية جراحية لمرضى العيون مجانا    أردوغان: متفائلون بأن النصر سيكون إلى جانب إيران    7 مؤسسات ستنتفع بامتياز تكفل الدولة بفارق الفائدة على قروض الاستثمار..وهذه التفاصيل..    وزير السياحة: التكوين في المهن السياحية يشهد إقبالاً متزايداً    جندوبة: وزير السياحة يتابع استعدادات الجهة للموسم السياحي ومدى تقدّم عدد من المشاريع السياحية والحرفية    قبلي: حادث مرور يودي بحياة جزائري وإصابة مرافقه    ميناء جرجيس… رصيد عقاري هام غير مستغل ومطالب باستقطاب استثمارات جديدة    عاجل/ ترامب يمهل ايران أسبوع لتفادي الضربات الامريكية المحتملة..    جامعة تونس المنار تحرز تقدما ب40 مرتبة في تصنيف QS العالمي للجامعات لسنة 2026    هل يحل الذكاء الاصطناعي محل الأطباء النفسيين؟    اليوم: أطول نهار وأقصر ليل في السنة    عاجل/ الداخلية الليبية تؤكد تعرض عناصرها الأمنية لهجوم مسلح داخل طرابلس..    القصرين: بطاقات إيداع بالسجن في قضية غسيل أموال مرتبطة بالرهان الرياضي    وزارة الثقافة تنعى فقيد الساحة الثقافية والإعلامية الدكتور محمد هشام بوقمرة    الفنان أحمد سعد يتعرض لحادث سير برفقة أولاده وزوجته    وفاة بريطانية بعد إصابتها بداء الكلب في المغرب    رئيس المخابرات الأمريكية الأسبق: الولايات المتحدة ستغرق إذا ضربت إيران    الوجهة السياحية جربة جرجيس الأولى وطنيا وتوقعات بتسجيل أكثر من مليون زائر    كاتس يعلن تصفية قائد إيراني وموجة صواريخ إيرانية جديدة    مدنين: اختصاصات جديدة في مهن سياحية وانفتاح على تكوين حاملي الإعاقة لأول مرة    طقس السبت.. ارتفاع طفيف في درجات الحرارة    الاحتلال يضرب وسط إيران.. قصف مبنى في قم وانفجارات في أصفهان    طقس اليوم السبت: أجواء صيفية مستقرة على كامل البلاد    اليوم: الإنقلاب الصيفي...ماذا يعني ذلك في تونس؟    ردّ فعل رسمي وعاجل من وزارة الخارجية بعد العثور على جثة عبد المجيد الحجري بستوكهولم    إغتيال قائد لواء المسيّرات الثاني بالحرس الثوري الإيراني    الانقلاب الصيفي يحل اليوم السبت 21 جوان 2025 في النصف الشمالي للكرة الأرضية    بايرن ميونخ يفوز على بوكا جونيور و يتأهّل إلى ثمن نهائي كأس العالم للأندية (فيديو)    كأس العالم للاندية.. الترجي ينتصر على لوس انجلوس الامريكي    أسرة عبد الحليم حافظ تُقاضي مهرجان "موازين" الدولي بالمغرب    وزير الاقتصاد.. رغم الصدمات تونس لا زالت جاذبة للاستثمارات    بين طموح التميز وشبح الإقصاء .. النموذجي... «عقدة » التلاميذ !    في اختتام مهرجان « Bhar Lazreg Hood» منطقة البحر الأزرق .. معرض مفتوح لفن «الغرافيتي»    باجة: نسبة تقدم الحصاد بلغت 40%.    الأحد: فتح المتاحف العسكرية الأربعة مجانا للعموم بمناسبة الذكرى 69 لانبعاث الجيش الوطني    السبت 21 جوان تاريخ الانقلاب الصيفي بالنصف الشمالي للكرة الأرضية    صحتك النفسية فى زمن الحروب.. .هكذا تحافظ عليها فى 5 خطوات    ارتفاع لافت في مداخيل السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج... مؤشرات إيجابية للاقتصاد الوطني    عاجل : أزمة جديدة تلاحق محمد رمضان    ارتفاع درجات الحرارة يسبب صداعًا مزمنًا لدى التونسيين    عاجل/ العامرة: إزالة خامس مخيّم للمهاجرين يضم 1500 شخصا    منصّة "نجدة" تساعد في انقاذ 5 مرضى من جلطات حادّة.. #خبر_عاجل    "ليني أفريكو" لمروان لبيب يفوز بجائزة أفضل إخراج ضمن الدورة 13 للمهرجان الدولي للفيلم بالداخلة    المنتخب التونسي للكرة الطائرة يختم تربصه بإيطاليا بهزيمة ضد المنتخب الايطالي الرديف 3-1    التشكيلة المحتملة للترجي أمام لوس أنجلوس    كاس العالم للاندية : ريال مدريد يعلن خروج مبابي من المستشفى    بطولة برلين : من هي منافسة أنس جابر اليوم الجمعة ؟    ''التوانسة'' على موعد مع موجة حرّ جديدة في هذا التاريخ بعد أمطار جوان الغزيرة    تقص الدلاع والبطيخ من غير ما تغسلو؟ هاو شنو ينجم يصير لجسمك    الأوركسترا السيمفوني التونسي يحتفي بالموسيقى بمناسبة العيد العالمي للموسيقى    ملف الأسبوع...ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ الْكَرِيِمِ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إعدام لسان..: عبد الحفيظ خميري
نشر في الفجر نيوز يوم 23 - 12 - 2008

دخل غول على مدينة.. تساقطت الضحايا.. والغول يجمع الأطفال.. الأطفال خائفون يبكون.. والغول يضحك ينتشي ويطرب:
بكاؤكم يطربني.. خوفكم لذتي.. رعبكم سلوتي.. دموعكم قطرات ندى تنزل على خدي..
هذه حكاية الجدّة فهي قنطرة العبور إلى بلاد الجانّ، بلاد العجيب والغريب و"شُبِّيك لُبِّيك من الغرب اجِيك، ومن شرق تطلب ما يْجِيك" .. وتمر الساعات والحفيد لا يشبع من حكايات جدته لعله يتخلص من ربقة ذلك المشهد المرعب الرهيب.. ولكن في عمقه كانت تجول أسئلة موجعة تجرح فؤاده الصغير كما يجرح الحديد فم مهر لم يتعود على اللجام:
استوقف جدته وقال بِبراءة:
ولكنّ جدّتي العزيزة ما يجري على الأرض أعجب وأغرب ممّا يجري في بلاد الجان.
قالت الجدّة:
إيّاك أن تعيد هذا الكلام ودعنا في بلاد الجانّ فللجدران آذان..
قال الطّفل:
لكن، نحن نعيش على الأرض يا جدّتي، فالغول أرحم بالمدينة ممّا ارتكبوه في حقّ والدي.. أرأيت يا جدّتي كيف طرحوا أبي أرضا وانهالوا عليه ضربا بمؤخّرة بنادقهم وعصيهم وشتائمهم فسالت دماؤه وجروه كما تجر الوحوش طرائدها ؟
وأشرق البُرعم بِالبكاء.. وبكت الجدّة وهي تعِيش وقائع تلك اللّيلة السوداء.. بكت كما لم تَبْكِ أبدا وهي تمسح دمها بعد أن دفعها أحد الجنود فارتطمت بالحائط.. ومنذ تِلك اللّيلة، لَمْ تَرَ وَحِيدَهَا ومَرَّتِ الأَيَّامُ وتَتَابعت الشّهور وانقضت سنة ثمّ تلتها أخرى وأخرى وأخرى، وانقضت سبع سنوات وتضاعفت السبعات والمسيح يحمل أوجاع العالم وأحزانه وهو منفرد في زنزانة يلوك القهر والاستبداد ويحتسي الحميم في كلّ يوم، ويفتح الباب وتبدأ رحلة العذاب .. رحلة المبتدأ وجحيم الخبر.
كان المتنفّس الوحيد للسجين رقم 4125 هو ابنه وهو يستعيد تلك الشّهور الجميلة وهو يلاعبه ويداعبه ويناغيه.. أيّام حلوة كالأشجار المثمرة، كالبحر الصّافي الهادئ، كأطفال يتسابقون تحت المطر.. انشراح سماويّ وغبطة وزمن برتقاليّ تلك هي سنواته القليلة مع قرّة عينه جمال..
واليوم صار لابنه عشرون سنة ونصف.. واليوم يعرف ابنه ولا يعرفه.. واليوم هو دابّة يقودها الجلاّد تلو الجلاّد ثمّ ينهال عليها ضربا بعصا غليظة اسمها القانون في ديار الخضراء.. كان حين تضيق عليه الجدران يمتطي صهوة الكتب على قلتها في السجن.. كتاب يتفضل به عليه أحد مجرمي الحق العام.. وذات يوم كان ينظر في ديوان عنترة العبسيّ..
كأس الحياة بذلة كجهنّم وجهنّم بالعزّ أطيب منزلا.
يَدخل الجلاّد ينظر في الكتاب، لا يعرف ما في الكتاب سوى أنّه كلام، يمزّق الكتاب، يرمي به في وجه السّجين قائلا:
ممنوع القراءة، ممنوع الكتابة، ممنوع كلّ شيء، حتّى الحديث مع الجدران ممنوع..
نظر إليه السّجين نظرة تفور بالضّرام، تحمل غلّ ألف عام ثمّ تمتم:
لا بدّ للكتاب من قوّة تحميه ولو لم يكن عنترة فارسا قويّا ما استطاع بالشّعر وحده أن يفرض وجوده على شيوخ عبس وأشرافها وعلى الملك زهير وعلى أبنائه من بعده..
قال الجلاّد:
اِحْبِسْ عليك لسانك ثمّ ما هذه التّمتمة والهمهمة يا عدوّ الوطن والشّعب؟
ضحك السّجين شفقة على ببّغاء يردّد ما يقال إليه ثمّ أراد أن يمازح الجلاّد قليلا فقال:
أتعرف الكتاب الّذِي مزّقت يا دبّوس؟
قال دبّوس ودبّوس اسم الجلاّد :
إنّه كتاب ضدّ الدّولة وضدّ القانون..
قال السّجين:
هذه أشعار عنترة في حبيبته عبلة ومغامراته في الصّحراء وهو يشقّ طريقه إلى نياق النّعمان، مغيرا عليها لعلّه يظفر بمهر عبلة..
وفجأة تخلّص دبّوس من جبروت الجلاد وغلظته ومن تلك الحيوانيّة المفترسة الّتي تسكنه ثمّ قال:
أنا اِنحب ياسر قصّة عنترة وليلى وقيس وعبلة وروميو والتواليت ولكن منذ دخلت الحكومة وخدمت جلاّدا بالسّجن صدرت أوامر إلينا بأن لا نقرأ شعرا ولا نقرب كتابا لأنّ الأشعار تحرّض على العصيان ضدّ الحكومة وتشوّش أمخاخ النّاس..
قال السّجين:
ألم تشاهد مسلسل الشّنفرى في التّلفزة فقد تمّ عرضه منذ شهور ؟..
قال دبّوس:
جاءت الأوامر بعدم مشاهدة التّلفزة أثناء بثّ المسلسل..
وساد بعض الصّمت. قال السَّجِين هذه المرّة محدّثا نفسه في صمت:
نظام يخاف من مسلسل أو كتاب لن يعمّر طويلا..
نهايته قريبة.. ولكنكم تحسبونه بعيدا وهو عند الله قريب ..
ثمّ عاد ينظر إلى الجلاّد ومن خلال عينيه وتقاسيم وجهه، كان يقرأ التّربيّة المشوّهة الّتي يتلقّاها رجل الأمن في مغرب المتوسّط فالجلاّد لا يكون جلاّدا إلاّ إذا كان قويّا كالثّور، مطواعا كالكلب جاهلا كالنعل شريرا كالضبع بهذا وحده يسهل تطويعه كما تسهل تربيّته كما لو كنت تربّي جرْوا لا يعرف ولاء إلاّ لسيّده حتّى لو كان سيّده مجرما أو سفّاحا أو مخبولا..
هكذا يتمّ ترويض البشر عندنا في مغارات مغرب المتوسّط وكهوفه..
ويعيش الجلاّد في بلاد شرق المتوسّط ومغربه عموما غربة النّفس عن النّفس، الغربة بكلّ جزئيّاتها وتفاصيلها وهكذا يفصل الإنسان فيه عن كلّ ينابيع الخير.. فيُمسخ آلة رهيبة لا تنتج إلا القمع والخوف والهلع ولا تجيد إلا امتهان الإنسان وسحقه..
ويتطوّر كلّ شيء ويبقى عقل الجلاّد على ما هو عليه:
3+2 يساوي كم؟
خمسة
2+3 يساوِي كَمْ؟
ستة..
الجلاّد إنسان مشوّه رهيب كمدينة أطلالها بلا فجر يغطّيها الجليد وتمخرها الحرائق وتتبول ثعالب الليل في أزقتها..
انتصب الجلاّد واقفا بعد أن انحنى يلتقط أوراق الكتاب الممزّقة وعندما رأى السّجين يتمتم من جديد:
مُلّ المقام فكم أعاشر أمّة أمرت بغير صلاحها أمراؤها
انتفض الشّرّ في أعماقه من جديد وعاد التّجهّم والشّدّة لِيَكْسُوَا وجهه وصاح هائجا كالجمل الحقود وقد توتّرت أعصابه وفقد السّيطرة على تصرّفاته، غير مقدّر ما يمكن أن يقع..
قلت لك:
ممنوع التّمتمة، ممنوع الهمهمة، ممنوع عنترة يا سي الحمارُ..
ورمى بما التقطه من أوراق في وجه السّجين ثمّ أخذ يركله بكلّ قوّة وهو يسبّه ويشتمه:
يا كلب، يا إرهابيّ، والله لأسوّي بك الأرض يا وبش، يا سارح، يا كبّول… الجهاد فيكم واجب على كلّ جلاّدي الوطن وحراس العالم..
ثمّ أمسك السّجِينَ بكلّ عجرفة كما لو أمسك كلبٌ مسعور بفرخ دجاج وبيده اليمنى ضغط على فكّيه وباليسرى قبض على لسانه وهو يقول:
والله انقلعْ لك ها اللسان اللّي تحب تسحرني به وتخرب لِي بيتي.. قال عنترة يشعر على ليلى… هذي قولها لواحد آخر أنا دبّوس "خليقة" داخل الحبس وخارج الحبس.. اِتْحَب اتعدّاها عليّ أنت يا وِلْد…
الآن عرفت لماذا السّادة المخبرون يريدون نزع لسانك لأنّه مرواغ خدّاع..
ونادى دبوس جلادا آخر ينادونه أبو لهب..
وتعاون الاثنان على تقييده..
وكان ليلا غريبا مفزعا يشقّ فضاء الزّنزانة وينزل كالصّاعقة وعصفت به الحمّى، وقلّما عاش مثل تلك اللّيلة وهو لا يذكر الأحاسيس المرعبة الّتي اجتاحته بعد أن أغمي عليه، استيقظ ليجد نفسه في المستشفى وهو لا يستطيع تحريك فكّيه ولا حتّى لسانه وتذكّر لحظة ضغط الجلاّد عليه وشدّ لسانه، استيقظ بعدها ليجد قطعة من لسانه قد سَرَقها كلب مسعور..
وغمره الألم دفعة واحدة وكان الهذيان..
نوبة حادّة تشتدّ به..
لقد فقد القدرة على الكلام..
وسقط فريسة خواطر متناقضة تزدحم في نفسه، تهزّه هزّا وتطحنه طحنا..
مات الحاضر وغدا الماضي حاضرا بعدما تيتم اليوم والغد.. وارتمى على فراشه منتشرا في جسد الكلمات المتعثرة.. كلمات مزّقتها يد آثمة كما مزّقت لسانه وحرمته نعمة الحديث إلى الأبد..
وقهره عجزه وعجز الكلمات كما قهرته دوّامة الحلم الرهيب وعنف الواقع بعد ما حلّ به ما حلّ من دمار وعاوده الإبحار في ثنايا السّؤال: الإبحار في ثنايا الألم الكظيم، الإبحار في انفعالات فوّارة للسان مقطوع يقول:
أين قوّة الكلمات ولسانه يُقطع؟ عجبا كيف ستكون الولادة ؟ كيف ستكون إشراقة الصّبح؟ كيف ينادي ابنه يوم يطلق سراحه؟ جمال.. حبيبي كيف سأناديك يا حبة قلبي؟
وتقاطرت الدموع..
جدّي كان يقول:
الولادة الأولى، دائما تكون عسيرة..
لا.. هذه الولادة هي ولادة الفراغ، ولادة اللّيل، ولادة الْخنجر مغروسا في جرح النخيل.. هذه هي ولادة الموت في رحم الحياة ..
بالأمس كان هذا السجين يقول:
لن يكون السّجن إلاّ كشمس يوم حارّ وحتما ستنقضي.
واليوم صار "السّجن لسانه".. سيظلّ يحمل سجنه حتّى ولو غادر السّجن غداً أو بعد غد..
وتاه في جسد الكلمات.. غدا هل سيكون الميلاد حقيقة، عرسا، حبا، عيدا، وعْيا، طوفانا؟
اليوم كان المِيلاد، مِيلاد رجل أخرس قدره أن يتمتم ويهمهم وينفرط عقد الكلمات من بين فكّيه دون أن يبلغ المعنى أو يفهم سامعا.. زمن يحفر الجلاّد فيه تاريخه على ألسنة الخلق، زمن مقلوب.. الجلاّد في بلادي ليس خيالا عارضا كان يدمّر الأعصاب كما كان يقول بعض السّجناء بل حقيقة مشوهة يصطلي بجحيمها الصادقون ممن أبت ألسنتهن أن تلزم مخارجها وتلتزم الصمت.. باطل الأباطِيل وهذا ربيعه الحلو المورق الّذي ظلّ ينتظره طواه ليل شّتاء عجوز..
قال رباه :
كيف سيتفتّح كلّ ما في صدري لحظة اللقاء بولدي؟.. كيف لي أن أطلّ على الحياة بهذا اللّسان المقطوع؟
بالحبّ نبني الوطن كان دائما يقول.. دعاة سلام نحن كان دائما يردد.. وبعدما جرى ما جرى فمن يردّ عليه لسانه ؟.. هل كان ذاك الجلاّد يدرك قداسة ذلك اللّسان عندما اقتطع بعضه؟.. أكان عنترة يفتك مكانه بشعره فقط؟..
ولما قيل لدبوس: لماذا فعلت ما فعلت..؟
قال:
لقد أراد ذلك اللئيم أن يسحرني بقصص الحب.. وينسى أنني رجل لا يعرف قلبه الحب..
ولاؤه فقط لمن يطعمه ويربطه بسلاسل شهوته.. وهو وغيره ممن احتوتهم هذه الأدغال كلاب متوحشة مهمتها البطش والفتك بالأبرياء..
إعدام لسان.. هذا هو المبتدأ فأين الخبر؟..
استوى كما استوت الموجة في عنف عاصفة.. حكّ عينه وتململ كَلَيْث لَدِيغ.. مات ضوء النّهار وأقبل اللّيل سكّينا مغروسا يرقد في أحشاء الوجود. ليلى ماتت وقيس يمتصّ قراطيس شِعْره ويشرَب المِداد. فماذا تنفع الكلمات؟
الكلمة رصاصة.. والكلمة شمعة.. والكلمة سوط.. كلّه كذب، مزايدة رخيصة، باطل الأباطيل، رسم الوهم يوما خنجرا في ظهر الطّاغوت فَانتشوا يقينا بالانتصار المحقق.. تينة حزينة يلوكها ضرس عجوز. تحطّمت سنواتنا عام بعد عام كما تحطّم حلم أمّي.. مقلوب هذا الزّمن ومقلوبة معادلاته وكلّ البرتقال محروق في أرض الجليل..
لبّيك مولاي فكيف نلتقي وكلّ ما عندي قد احترق.. حريق يبتلع الحريق وغريق يسقط تلو الغريق والماء بنزين يغتصب تجاعيد الأرض ويعطي للمستنقعات طعم الإبر ولون المقابر ورائحة الجوارب.. وتواصلت الفجائع ولا بريق..
آه لقد مات الحمام في مدينتي واختنق نسل عُقبة بغازات الهمج يرفُلون في الحرير.. فمن أين أتيت يا قَدَري برحلة كلها عذاب ؟..
هذه النّار أحرقت ما في القِدْر من ثريد وما في القلب من بِشْر وسرور فنام اليتامى بعد جوع طويل.. وتجولت الأرملة في شوارع المدينة تبحث عن عمر ليطعم أبناءها.. ولكن عمر لم يظهر.. وازدحمت شوارع مدننا العربية باليتامى والأرامل..
عاد الطفل يسأل في حرارة:
متى يعود أبي ؟..
قالت الجدة:
لماذا لا تسافِر يا ولدي مع حكاياتي إلى بلاد الغول لعل سفرك يعقب راحة ويخلصني من سؤالك؟
نام الطفل ونامت الجدة.. وقطرات الدم لا تزال تنزل كلما هم ذاك السجين بالكلام.. ماتت الجدة وكبر الطفل.. وخرج الأب من سجنه بعد سنين طويلة.. خرج ليرى الشمس ولكن ظل يحمل السجن بين فكيه وهو لا يقدر أن يقول لابنه الذي صار شابا:
اشتقت إليك يا بني..
وعاد الراوي للتجويف في أصقاع جنونه لعله يختزل المسافة ويقدم رغيفا ومرقا لسكّان الخيام والملاجئ في الخضراء.. فقد مُلَّ المُقامُ والله : فوق الأرض خوف وتحت الأرض خوف وأنت كالعنقود فوق المناشير وتحت المناشير ممزق بين سين وسوف..
زعم القوم أنّها سحابة صيف وتمرّ ويبرق بعدها الصّباح يحمل كأسا بحلو الأماني معتقة.. ولكن..
ومرّت سبع سنوات عجاف وسبع قحط وسبع موت والمدينة كئيبة تنتظر يوسف لتأويل حلم مزمن يرتاد السّجون والمعتقلات ويندس في الزنازن المتناسلة في ذلك الوطن المسيّج بِصُوَر الزّعيم..
نحن هاهنا لزرع الإرهاب في قلوبكم، لقلع الإرهاب من عقولكم.. معادلة مفتضّة البكارة، مفارقة عرجاء، أنا والجنّ على أخِي، وأنا والعدوّ على ابن عمّي وأنا وابن عمي على أخي..
رحلة مبتورة هي رحلة البحث عن بعوضة في ذيل دُبّ، عن جناح ذبابة في ليلة سوداء، عن مساحة آمنة في رحاب الخضراء.. حارس ليليّ يرسم جرادة، يقضم خبزا، يعتلي غمامة ويحصد رياح اللّيلة السّوداء.. حارس اللّيل يرسم شبّاكا صغيرا ليُطِلَّ منه على قرية احترق فيها الفَراش مع الياسمين في ركام المزابل واستمرّت النّتونة تسدّ الخياشيم.. نتونة التّتار والمَغول والأمريكان والْيهود يسكنون كالفئران في كلّ فم عربي مسلم ويتوالدون ويتناسلون في أحشائنا ثعلبا ينام في جرح النّخيل..
حارس ليليّ ينسج لحكاية المنفى شكلا لا كالأشكال عسى يوما يقتفي الشّكل أدغال ألف ليلة وليلة أو يسامر السّندَباد مبحرا على قارب مكسور.. متناثر الشّمل في كلّ مكان.
استوى جالسا ثمّ قام وانتصب ليُصحّح أخطاء الأجداد لِيَغْسِلَ أدران الزّيف عن الأمجاد فمنذ نزل بهذه الرّبوع نزل مهانا مدانا وبٍلا وطن تدفعه إلى مسارِبَ ملغومة، مغامرة موهومة: "الدّولة الوطنيّة". وتقاسم السّادة الحقائب وركعوا أمام شاشة التّلفزة ينتظرون تباشير النّصر!
كان يبرك كالجمل ليحمل أثقال السّادة وترحل به حكاية قديمة ترويها أمّ صبورة شقِيت طويلا لِتَجْنِيَ ثمرة المشوار فكان السَّراب واسْتبدّت خفافيش اللّيل بضوء النّهار..
المصدر بريد الفجرنيوز


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.