وبعد ثلاثة عشر يوما،هي أطول وأقسى أيام حياتي،سُعِدنا بتكرّم البوليس علينا بنقلنا إلى المحكمة،من أجل مقابلة حاكم التحقيق،ظاهريا ليتحقق من وجاهة التهم الموجهة إلينا،وواقعيا من أجل إسناد البحث المُجرى على جولتين في حقنا [في18 جانفي وفي بوشوشة] بأدلّة وحجج قانونية،تؤكد "سلامة" البحث و"وجاهة التهم" و"نوازعنا الإجرامية" التي لا غبار عليها.... كنا في السيارة مستمتعين بأن نجّانا الله من بوشوشة،وسوف "يُكرمنا" بمستقرّ سجني "سياحي" بالمقارنة مع الإيقاف،حيث الأفرشة والأغطية والأسرّة والحشايا والتلفاز بالألوان؟ والدواء،وأشياء أخرى "جميلة" في السجن يطول استعراضها؟. أوقف السائق سيارته بحيث ينفتح بابها الخلفي بالضبط على باب قبو المحكمة،حتى ندخل،كالخرفان،إلى الدرج النازلة إلى القبو أسفل الطابق الأرضي،فلا نرى أحدا ولا يرانا أحد،إذ إن رؤيتنا تسيء يومها إلى تونس "فرحة الحياة"؟. مكثنا ننتظر دورنا في الذهاب إلى "حاكم التحقيق"،في قبو صغير مظلم ضيق،يقع في أعلاه شباك حديدي صغير محكم التسييج،تتناهى إلى مسامعنا منه جلبة الناس المارّين في النهج،يبيعون ويشترون القضايا،ومن حين إلى حين نسمع نداء على أحد الموقوفين من "الحق العام"،فيأتي أحدهم من قبو مجاور،ويجيب المنادي،وتنطلق عمليات التنسيق وترتيب تعيين محام أو اتصال بوسيط أو بشريك في جريمة،وكنا نحن،"المجرمين الكبار" الذين نهدّد أمن الوطن،والعالم، لا حقّ لنا في مثل هذه التنسيقات والترتيبات،ولم يكن أحد يعلم بوجودنا هناك أصلا.لقد كنّا "نسيا منسيّا"،وكان البوليس شريكا في تلك التنسيقات،يأخذ وصيّة أو "كسكروتا" أو علبة سجائر من هذا ويعطيه إلى ذاك. وبدت تلك "التجارة" رائجة هناك؟.... ثم جاء بوليس وناداني،أمسكني من يدي،وضع فيها "الكَلَبْشه" ومضى يطوي بي ممرات المحكمة الطويلة الملتوية حتى وقف أمام باب كُتِب عليه "عميد قضاة التحقيق"... استغربتُ الأمر،إذ أنني أعرف أن "العميد" عادة ما تُعرَضُ عليه أعقد القضايا،وأكثرها خطورة وأشدها تهديدا لأمن الوطن والمواطنين، وقلت في نفسي : أأكون مجرما خطيرا ولا أعلم بذلك؟ألهذا الحد لم أقدّر نفسي "حق قدرها"،ولا جريمتي حجمها الحقيقي؟كيف يأخذونني إلى عميد قضاة التحقيق ب"طمّ طميمه" من أجل شبهةٍ عديمة الوزن في انتماء لحركةٍ قال "الوزير الصدر الأعظم" للداخلية حينها،ومنذ 1991، أنها قد تفككت تماما؟؟؟؟؟ استأذن البوليس الذي يقتادني زميلَه الذي يحرس باب "العميد"،ثم أُذِن لي بالدخول... كان مكتب العميد شاسعا،فخما وتفوح منه "هيبة" كبيرة،وطار قلبي،وتمزق،بين إحساسي ب"صِغَرِ حجمي"،وحجم جريمتي،وبين ذلك المكتب المهيب،وصاحبه،الذي لي بدا مع ذلك رجلا متوسط العمر،لا تشع من وجهه علامات الرعب والقسوة. تفضل،قال لي........ انسحب البوليس إلى "تجارته"،وجلست أنا أمام "السيد العميد" إلى يمينه،وكان إلى أقصى يسار المكتب،وفي فنائه،كاتب العميد وراء حاسوبه،ينتظر انطلاق "التحقيق" ليُدوّنه. فتح العميد ملفا به أوراق وتقارير كثيرة،وأراد أن "يشرح" صدري لعمله،وأن يجاملني،وقد علِم أنني يُفترض أن أكون يومها،في ديسمبر 1995،أتربص في جهاز القضاء،الذي يتربع هو على أحد أهم "ثُغوره". قال لي:"صالح،أنا وأنت نملك نفس الشهادة،ونفس المستوى العلمي،وبالتالي سوف ندير حوارا قانونيا صرفا"... وفي لحظة واحدة،ذهب عني تسعة أعشار ارتباكي،ورددتُ عليه: عفوا سيد الرئيس،أين أنا منكم؟...أنتم عميد قضاة التحقيق،وأنا أتممت دراستي للتّو،ولم ألتحق بعد بالقضاء،شكرا على لطفك ولكن هذه مقارنة لا تجوز....... كنتُ أكاد أطير من الفرحة بما قال لي العميد،ولكنني أخفيت ذلك وراء ذلك الرد الذي رددتُ به عليه،وكنت أعرف جيدا أن الملف خاوٍ قانونيا من أي دليل،وهو أضعف من أن يتطلب جهدا علميا قانونيا ل"إسقاطه"،وأنتظر بفارغ صبر متى يبدأ "النّزال" بيني وبين "العميد"...وطار الخوف،كما طار قلبي قبل حين،وسكنتني طمأنينة جميلة،واستعدت "لساني" و"قانوني" وانتظرت. قال لي "العميد": لا،لا،نحن فعلا نحمل نفس الشهادة في البدء،أما العمل فأمر آخر،ولا يغيّر من وضعيْنا إلا القليل،فلنبدأ الحديث طبق أوراق الملف،هذه أقوالك،وستُحال من أجل التشارك في عصابة مفسدين تستهدف قلب النظام بالقوة،واستبداله بنظام آخر لدولة دينية،وتحريض الناس أن يقتلوا بعضهم البعض والتحريض على إتلاف المال العام والخاص:فماذا تقول؟ كان الرجل مطمئنّا إلى أوراقٍ وأبحاثٍ محرّرة "جيدا" من طرف ضبّاط شرطة لم يَخْبِروا من القانون إلا ما يكفي فقط لجرجرتنا أمام محاكم استحال قضاتها خدَما وحَرسا للبوليس،وأعوان تنفيذ لجنوحهم الإجرامي الأعمى.وكان واثقا من أنني "اعترفت" بمحض إرادتي عن جنايتي. وأضاف "هل هذه اعترافاتك أم إنها انتُزِعت منك تحت التعذيب؟"... وسمعتُ،ورأيتُ في صوته نبرة السخرية من حجة "تحت التعذيب"،وهو الدفاع الذي يلجأ إليه كل الموقوفين تقريبا،دون جدوى... قلت له:"سيد الرئيس،لقد قلتَ لي ليكن الحوار قانونيا بيننا،أليس كذلك؟ قال لي:بلى،وهو كذلك،فقلت له: أليس من مقتضيات القانون الجنائي وأحكامه الأساسية أنّ القاضي يقضي حسب اعتقاده الصميم ووجدانه الخالص؟قال بلى،هو كذلك،قلت له" هل إن وجدانك الخالص واعتقادك الصميم،أنني أنا،هممتُ حقا بقلب النظام بالقوة،وتغييره بآخر لدولةٍ دينية،وحرّضتُ الناس أن يقتل بعضهم بعضا،وأن يتلفوا المال العام والخاص؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟. كان الكلام يخرج من لساني ومن روحي ومن جوارحي معا،سلسا سريعا متماسكا،وكان "العميد" ينظر إلي ولم يدُرْ بخاطره أنه وقع في شراك ما خطّطه لي. لاحظت ارتباكه ومفاجأته ومفاجأة كاتبه،وسكتَ لحظات قصيرة...طويلة وقال "ما هذا السؤال؟"،فقلت له أجبتك نزولا عند رغبتك في أن يكون القانون حَكَمًا بيننا،وإلاّ فإني أعلم أنّ الأمر ليس كذلك،فقال لي بلى،هو كذلك،سيكون الحوار بيننا "قانونا"،فقلت له أجبني إذن سيدي الرئيس،وأضفتُ "إن كان ضميرك سيدي الرئيس مطمئنّا إلى صحّة اتهامي هذا،أقسم لك أنني أُمضي بين يديك على كامل البحث،ولا حاجة لي بسماع البقية،وليكن حكم المحكمة الإعدام ولا أبالي... حينئذ،ذهب على العميد ارتباكه،واهتدى إلى "القانون"،والجواب، الذي سوف يؤمّن له إدانتي، وإن بمنسوب أقل؟ قال لي:لا،أنا لست مقتنعا بصحة الاتهام بهذا الجرم كما ورد في قرار الإحالة،ولكنني مقتنع بالمقابل أنك يا صالح إنسان "غير عادي"،فقلت له ما معنى غير عادي سيد الرئيس،هذا أولا،وهل الإنسان "غير العادي" يجب أن يذهب إلى السجن؟،هل هناك نص قانوني يجرّم "الإنسان غير العادي"؟ فأجابني العميد "أنت غير عادي لأنك تعرف الكثير من الأشخاص والقيادات الطلابية مثل فلان وفلان،وتعرف أخبارا كثيرة"... وقد زاد استغرابي بدل أن ينقص،وقلت له "إذا كان معرفة أشخاص أو أخبار أو أحداث،سببا كافيا للتجريم والإدانة،فلماذ إذن لا تحاكمونني من أجل معرفتي بالكثير من رموز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر،وأخبار حرب البلقان ونزاعاتها الإثنية والدينية،وتصفية الأبارتايد في جنوب أفريقيا،وحرب جنوب السودان،وجون قارنق،وحرب أنغولا،وزعيمهاجوهان سافمبي،وهي كلها أخبار وأحداث وأشخاص كما ترى؟؟؟... حينئذ لا حظتُ أن "العميد" بدأ يضيق بمحاججاتي له،وخشيت أن ينقلب "لطفه" عنفا،فأرخيت الحبل له،ومررنا إلى مناقشة نص الإحالة وفحص الأدلة،بعيدا عن "البراءة"،قريبا من الإدانة المحتومة...ودخلنا في "التفاصيل"،وقد سلّمْنا،ضمنيا،أننا يجب أن نناقش "السجن" ولا نناقش "الحرية"...لقد تأكّد لي أن الحرية باتت ورائي...وأنها أمر لا يقدر عليه "العميد".... يتبع صالح مطيراوي 20 12 2011 مصدر الخبر : الفايسبوك a href="http://www.facebook.com/sharer.php?u=http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=23915&t=في "ضيافة" عميد قضاة التحقيق .. ديسمبر1995 بقلم صالح مطيراوي&src=sp" onclick="NewWindow(this.href,'name','600','400','no');return false"