لئن سعد الشعب التونسي كثيرا بما وقع من هروب لرأس النظام في الليلة الفاصلة بين 14 و 15 جانفي 2011 فإنه مازال يشعر ببعض المرارة في المذاق و بضيق شديد مما حدث من تداعيات بعد ذلك و لعل أبرزها ما شعر به الناس في تلك الأيام من خوف ممزوج ببعض الأمل نتيجة استشراء العنف على نطاق واسع حتى بتنا في تلك الأيام لا نعرف من الصديق و من العدو من يمارس العنف ضد من و أصبح الجميع متهما و ضحية في نفس الوقت و مع انفراج الوضع تدريجيا بدأنا نعيش نوعا جديدا من العنف نتيجة الفراغ الجمعياتي و الفراغ الحزبي الذي ترك المخلوع البلاد عليه، من ناحية و بداية ظهور نوع من الفرز الإديولوجي و حرب المواقع التي دشنها هذا الشق ضد الثاني إضافة إلى خوف عدد كبير من التونسيين من عودة شبح التجمع المنحل و إعادة تنظيم صفوفه لذلك لم نحتفل حتى اليوم بالثورة احتفالا جماعيا بالصفة و النعت و حتى الاحتفال الذي عشناه خلال يومَيْ 14 جانفي 2012 و 2013 كان بلا مذاق و لا طعم و لا رائحة لأنه كان ممزوجا بمرارة التجاذبات و تداعيات الأحداث التي كانت تسبق هذه الذكرى مرتيْنِ الأولى لأن فريقا لم يكن مبتهجا بنتائج الانتخابات و الثانية نتيجة خيبة الأمل لنفس ذاك الفريق من عدم إتمام كتابة الدستور و تجاوز الحكومة القائمة لما كان يهددونه بها في ذكرى الانتخابات التي شعروا بمرارة نتائجها السنة الفارطة و ما يمكن الجزم به أن هذه الفترة من 14 جانفي 2011 و حتى الآن وسِمَتْ بنوعين من العنف تناوبا بلا هوادة على إفساد مذاق الثورة منذ تخلص البلاد من المخلوع و زبانيته، تناوبت كل الأطراف الحزبية و الإديولوجية في طبخها للمواطن التونسي نخبة كان أو عامةً و لعله من المفيد التذكير بمسلسل العنف بنوعَيْهِ الرمزي و الفعلي الذي نفذته هذه الأطراف منذ فجر الثورة. 1. أول تلك الأحداث ما وقع بعد مقتل القس البولوني "ماراك ماريوس ريبنسكى" يوم 18-2-2011 بمدرسة " الآباء السلاسيين" بمنوبة حيْثُ وقع تنظيمُ مسيرة سمِّيَتْ سِلْميَةً ضد العنف الديني و تطالب صراحة بتونس "دولة لائكية" في صباح اليوم الموالي للجريمةِ مستبقين نتائج التحقيق و انتهاء الأبحاث التي أثبتت بعد ذلك لا فقط أن ما وقع كان جريمة عادية من أجل خلاف على المال بل تهافتَ ما قام به هؤلاء بين ليلة و فجرها و دشَّنت بذلك تونس بداية الصراع الإديولوجي بين علمانيين و إسلاميين و ما شهده و يشهده هذا الصراع من شتائم و اتهاماتٍ طالت الظاهر و الباطن في الإنسان و كلا الطرفيْنٍ يجذبُ الحبل لأقصاهُ مما يَنْدرج في أقصى درجات العنف الرمزي الذي يمكن أن يؤدي إلى العنف الفعلي في أقصى مظاهرهِ.
2. ثاني تلك المرارات و أول إفساد لاجتماع سياسي ما وقع من إفسادٍ لاجتماع حركة التجديد يوم الأحد 27-2-2011 بصفاقس و ما وقع من طرد للسيد "أحمد إبراهيم" من مقر الاجتماع على خلفية تحمله لوزر وزارة التعليم العالي في حكومة "الغنوشي" وقتها و التي كانت ساحة القصبة تمور ضدها و لكني أعتقد وقتها أن "السيد أحمد إبراهيم" لم يحضر لصفاقس بوصفه وزيرا بل بوصفه رئيس حزب يجتمع بأتباعه و لذلك أعتبر هذه الحادثة أول ما وقع من عنف سياسي ضد الأحزاب ساهم و مازال يساهم في إفساد مذاق ثورتنا إذا واصلت النخب الحزبية ممارسة عنفها الرمزي ضد بعضها غير عابئة بدورها الحقيقي في تأطير المناضلين و ترشيد سلوكهم أكثر من دفعهم إلى العنف ضد الأطراف المخالِفةِ لهم و إن كان بشكلٍ خَفيٍّ.
3. الحدث الثالث و الذي دشَّن العنف ضد "حركة النهضة" و رئيسها ما وقع في مدينة قليبية من محاولة طرد " لراشد الغنوشي" يوم الأحد 17 أبريل 2011 و تم رفع شعار "أنا مسلم و النهضة لا تمثلني" مازجا بذلك بين العنف الفعلي و العنف الرمزي الإديولوجي و الذي امتزجت فيه و لأول مرةِ جهود بعض الأطراف السياسية اليسارية مع بقايا الحزب المنحل حسب ما رصده عديد الأطراف المحايدة وقتها. كما وقع بعد أسبوعيْنِ من هذا الحدث إفساد اجتماع "حركة النهضة" بالمنستير يوم السبت 30 أفريل 2011 نفذته مجموعة مدفوعة من وجوه تجمُّعِية معروفة رفعت بالأساس شعار البورقيبية و هاجمت رئيس الحركة على خلفية موقفه من الزعيم بورقيبة رغم أن العديد من أبناء الحركة لا يشاطرونه رأيه ذاك، كما نشير أن منهم من كان يرفعُ "جريدة الطريق الجديد" النَّاطقة باسم" حركة التجديد" لذلك الأسبوع و التي كانت تصدر يوم السبت و التي نشرت يومها حديثا للأستاذ" المنصف بن سالم" كان أدلى به لأحد الفيسبوكيين يوم 16 جانفي 2011 في مسيرة بمدينة صفاقس و اعتبرت ذلك أمرا غير بريء بالمرة وفر عنفا رمزيا لعنف مادي فعلي لم يكن ينتظره ليُنْجَزَ و عسَّرَ على "حركة النهضة" تنظيم اجتماع شعبي في المنستير لم تستطع تنظيمه إلا بشق الأنفُسِ. 4. الحدث الرابعُ و الذي مزج العنف الرمزي و الفعلي و الذي اشتركت فيه أطراف داخلية و خارجيَةٌ هو محاولة عرض "فيلم لا ربي لا سيدي" للمخرجة التونسية المهاجرة "نادية الفاني" بقاعة "الأفريكا" بالعاصمةِ يوم 26 – 6 – 2011 حيث مهَّدتْ هذه الأخيرة بدعوة لفلمها بدتْ مستَفِزَّةً للبعض فضلا عن استفزازية عنوان فلمها مما شكَّل عنفا رمزيًا استدعى بالضرورة عنفا فعليا لأطرافٍ قُصِدَ استفزازُها و إثارتها بالذات حتى تقفز أطراف أجنبية للبيع و الشراء بالحريات في تونس بعد الثورة و حرية التعبير و الفن .... إلخ و هو ما أنجزه البرلمان الأوروبي الذي تداعى خلال 24 ساعة إلى الانعقاد فَزِعًا على الحريات العامة و الفردية في تونس بعد"بن علي" و هذه السرعة في الانعقاد و بتلك الكثافة و التنظيم في التدخلات و أسماء الحاضرين تدل على سابقية إضمار و تنظيم لا تغفله عين الملاحِظِ النزيه و الذي يعرف كيف تقع الدعوة لانعقاد هذا المجلس و الإجراءات الواجب اتخاذها لحجز التذاكر و الإقامات . . . إلخ
5. خامس الأحداث ما أقدمت عليه "قناة نسمة" في بداية أيام الحملة الانتخابية لانتخابات المجلس التأسيسي من عرض فلم" فارس بوليس" في حركة أثارت صخبا كبيرا و عنفا شديدا اشتركت فيه كل الأطراف تقريبا ضد بعضها البعض و لا تخفى أهداف القناة من عرضه لكن النتائج كانت مختلفة تماما عن الأهداف فضلا عن الجراحات التي خلفها في نفوس قطاع واسع من الشعب التونسي و كان عنفا رمزيا مازالت آثارهُ ماثلة عند الكثيرين. تلته بعد ذلك حملة "أعْتَقْنِي" التي تلاها ردٌّ ساخر "عنَّقْنِي" و عنف بعنف مازالت عباراته تتردد إلى يومنا هذا.
6. بعد الانتخابات بقيت كل أنواع العنف السالفة الذكر أضيف لها عامل جديد هو "رابطات حماية الثورة" التي تتهمها الجهات المعارضةُ - و لا تنكر هي ذلك - بممارسة العنف ضد بعض الأحزاب التي ترى فيها الرابطات إعادة رسكلةٍ للتجمُّعِ المنْحَلِّ و ترى فيها المعارضة "ميليشيا" تابعة للأطراف الحاكمة المتهمة بحمايتها بل و كان طلب محاكمتها و منعها من النشاط مطلبا أساسيا لعدة أطرافٍ للمشاركة في الحكم و وقع الاستجابة لهذا الطلب في الحكومة الجديدة و لعل الأيام القادمة ستفصح عن حلقاتٍ أخرى من هذا المسارِ. و في اعتقادي أن "رابطات حماية الثورة" كان عليها أن تصنع بنشاطاتٍ فكرية و ثقافيةٍ تكشفَ الأخطار التي تحيط بالثورةِ شعبا يحمي الثورة و لا يولي وجهه عنها لأعدائها عوض أن تقوم بذلك عبر هذه الوقفات الاحتجاجية ضد بعض الأحزابِ التي تخللها العنف المادي و حمل عليها و لو أنكرت هي ذلك.
ختاما حمى الله بلادنا من العنف بكل أنواعه حتى نتخلص من هذه المرارة التي مازلنا نتجرعها في مذاق ثورتنا.